علماء آثار وعسكريون يسعون للاستفادة من التصوير الميوغرافي لرسم خرائط لما تحت سطح الأرض

إسرائيل تبحث عن أسرار تحت الأرض عبر تتبع الجزيئات الكونية

يان بنحمو (على اليسار) وإيريز إتسيون، الأستاذان بجامعة تل أبيب، أثناء عملهما على جهاز للكشف عن الميونات  - المصدر: بلومبرغ
يان بنحمو (على اليسار) وإيريز إتسيون، الأستاذان بجامعة تل أبيب، أثناء عملهما على جهاز للكشف عن الميونات - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

في باطن كهف ونفق تحت مدينة سلوان في القدس، والتي تطلق عليها إسرائيل اسم "مدينة داود"، تعمل آلتان كل منهما بحجم خزانة الملابس منذ أشهر على تتبع جسيمات دون ذرية لدى وصولها من الفضاء واختراقها لأعماق الأرض.

تتحرك تلك الجسيمات، التي تُعرف باسم الميونات، بسرعة الضوء تقريباً، ولا يستمر وجودها سوى لأجزاء من الثانية.

يمكن لرصد تلك الجسيمات خلال دورة وجودها القصيرة أن يساهم في رسم خرائط لمناطق لا تبلغها الأبصار، وفي هذه الحالة فإن المقصود هو منطقة تحت الأرض قرب موقع يسميه اليهود "جبل الهيكل" ويعرفه المسلمون باسم الحرم القدسي الشريف، وهو مكان تحتم أهميته الدينية على علماء الآثار أن يتجنبوا الحفريات غير الضرورية.

في حين أن أغلب علماء الفيزياء الذين يعملون في الموقع من الأكاديميين، إلا أن عدداً منهم يعملون لحساب "رافائيل أدفانسد ديفنس سيستمز" (Rafael Advanced Defense Systems)، وهي إحدى شركات المعدات العسكرية الإسرائيلية التي تملكها الحكومة.

لدى الشركة أجندة إضافية، وهي تطوير التقنية لتساهم في رسم خارطة لشبكة الأنفاق التي بنتها حركة "حماس" في قطاع غزة. أوضح إيريز إتسيون، عالِم الفيزياء المتخصص في الجسيمات التجريبية والأستاذ في جامعة تل أبيب، أن "رافائيل" انخرطت في محادثات مع علماء الفيزياء بالجامعة حول استخدام التقنية قبل عقد على الأقل. قال: "جليّ أن احتياجات إسرائيل العسكرية دفعتنا لنسلك ذلك الاتجاه".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

التصوير المقطعي للميونات

يُعد ذلك العمل في إسرائيل، التي تُعتبر مركزاً لأبحاث الآثار والأسلحة، جزءاً من عودة الاهتمام بالتصوير المقطعي للميونات، الذي يُعرف أيضاً باسم الميوغرافيا، على مستوى العالم. ترصد هذه التقنية الميونات فيما تضرب كل سنتيمتر مربع من سطح الكوكب بمعدل نحو جسيم واحد في الدقيقة. تخترق الجسيمات سطح الأرض وتغوص فيها نحو 500 متر قبل أن تتبدد.

إن كان تبددها سريعاً، يعني ذلك أنها تواجه مواداً عالية الكثافة. وإذا مرت عبر فراغ، مثل نفق سري، فسيصل عدد أكبر منها إلى مستويات أعمق تحت سطح الأرض. يمكن تحويل تلك البيانات إلى صور ثلاثية الأبعاد مع تحليل شامل للتركيب الكيميائي.

اقرأ أيضاً: المستثمرون مستمرون بالتمسك بشركات التقنية الناشئة في إسرائيل

كانت هنالك دراسات أكاديمية عن تقنية الميوغرافيا منذ خمسينيات القرن الماضي. اشتهرت تلك التقنية على يد لويس ألفاريز، عالِم الفيزياء الحائز على جائزة "نوبل"، في الستينيات عندما استخدمها ليستبعد وجود غرف سرية في بعض أجزاء الهرم الأكبر في الجيزة.

في 2017، استخدم باحثون يعملون مع مشروع "سكان بيراميدز" (ScanPyramids) تقنية الكشف عن الميونات ليجدوا مثل تلك الغرف في منطقة مختلفة من الهرم ذاته. كما وُضعت أجهزة الكشف عن الميونات على أطراف البراكين بغرض قياس تدفق الحمم البركانية والتنبؤ بثورانها، كما استُخدمت في عمليات مسح المفاعلات النووية في فوكوشيما باليابان، وأيضاً لتقييم مكامن الضعف في بنى تحتية كان يُعتقد أنها عرضة للانهيار.

اقترح أكاديميون في اليابان استخدام أنظمة ملاحة تعتمد على الميونات تحت سطح الماء وتحت الأرض، حيث تضعف أجهزة تحديد المواقع أو لا تعمل.

تقنية مكلفة

طوّر مختبر "لوس ألاموس" (Los Alamos) في نيو مكسيكو، الذي شهد تطوير القنبلة الذرية، نظاماً لمسح الميونات تستخدمه شركة ناشئة انبثقت عن المختبر في مجال أمن الحدود. تبيع الشركة، واسمها "ديسجن ساينسز" (Decision Sciences) تقنياتها منذ 2012، وتقول إن بإمكانها مسح الحاويات بسرعة لاكتشاف المخدرات والأدلة على الاتجار بالبشر وعلى وجود المتفجرات.

إن أسعار أجهزة الكشف عن الميونات، التي قد تبلغ نحو 100 ألف دولار، جعل نمو ذلك محدوداً. لكن التطورات التقنية من شأنها أن تغير ذلك الوضع. تهدف شركة "جي سكان" (GScan) الناشئة في إستونيا لأن تخفض سعر كاشفاتها في الفئة الأقل ثمناً من 100 ألف يورو (108 آلاف دولار) إلى 60 ألف يورو هذا العام، ثم ستتجه إلى الإنتاج على نطاق أوسع في 2025.

اقرأ أيضاً: محافظ بنك إسرائيل: تكلفة الحرب على غزة تصل إلى 67 مليار دولار

تُعد تلك التقنية ملائمة بشكل مغرٍ للتحدي الذي تواجهه إسرائيل في رسم خرائط للأنفاق في غزة ولبنان. قال نير واينغولد، رئيس وحدة التخطيط والاقتصاد وتقنية المعلومات في مركز الأبحاث والتطوير التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، إن القوات البرية الإسرائيلية تستخدم منذ 7 أكتوبر مزيجاً من أجهزة الاستشعار وأجهزة رادار تخترق الأرض، وجرافات تدار عن بُعد، والإغراق، والكاميرات، والكلاب المدربة، والطائرات المسيرة، إلى جانب غيرها من "وسائل التقنية" التي لم يحددها، لتعثر على أنفاق "حماس" وتدمرها.

أضاف واينغولد: "يعمل كل حل من الحلول جزئياً، وعلينا أن نبني أفضل الحلول وأقواها. لكننا لم نجد بعد حلاً واحداً شاملاً". رفض واينغولد أن يعلق على تقنية التصوير المقطعي للميونات.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

تحديات كبيرة

ينطوي استخدام أجهزة الكشف عن الميونات في هذا السياق على تحديات كبيرة، أبرزها أنه لا بدّ من وضعها تحت المنطقة التي ستتحراها. قال فيتالي كودريافتسيف، الأستاذ بجامعة شيفلد في إنجلترا، إن العثور على "أي نوع من الأنفاق الخفية يتطلب نفقاً آخر. لذا فإن حفر ذلك النفق يعني أنك تعتقد أنك تعرف موقع النفق الذي تريد الكشف عنه أو المنطقة التي قد يكون فيها".

اقرأ أيضاً: "إنفيديا" تتوسع في إسرائيل بالاستحواذ على شركة ذكاء اصطناعي جديدة

يمكن نظرياً دفن أجهزة الكشف عن الميونات في المناطق التي تشتبه إسرائيل في أن "حماس" ستعيد بناء أنفاق فيها. كما يمكن وضعها بشكل دائم لتراقب الحدود بأكملها، إلى جانب أي أجهزة استشعار أخرى مُستخدمة.

لا يتضح كيف يتداخل مسعى إسرائيل لاستخدام تقنية الميوغرافيا لأغراض عسكرية مع استخداماتها في مجال الآثار. ألمح الباحثون في موقع العمل في القدس إلى إجراء اختبارات ميدانية لأغراض عسكرية، وقالوا إن أمن إسرائيل هو "الأولوية القصوى". لكنهم أضافوا أنه لا يمكنهم الإفصاح عن تفاصيل دقيقة إذ أنها تُعتبر سرية. وقد رفضت وزارة الدفاع الإسرائيلية التعليق.

مساعي التنقيب

وصل فريق من علماء الفيزياء العمل إلى المدينة في أحد أيام مارس ليفحصوا أجهزة الكشف عن الميونات، وليقوموا ببعض أعمال الصيانة.

طغى صوت الأذان فوق الأرض على ثرثرة فتية من طائفة الحريديم كانوا في رحلة ميدانية، فيما تطلّب الوصول إلى الكاشفات تحت سطح الأرض النزول إلى كهوف كانت جزءاً من متنزه عام، ثم الصعود إلى حيز ضيق زحفاً حيث كان الجهاز المغطى بقماش مشمع يستند مائلاً على جدار بزاوية 45 درجة.

كشفت أعمال الحفر والتنقيب بالجوار عن وجود غرف تحت الأرض، وكان آخر ذلك في 2020. لكن الحفر في هذه البقعة تحديداً كان محفوفاً بالمخاطر، ولا أحد يعلم ما يقبع وراء الجدران الحجرية القديمة لهذا الحيز الضيق.

وفقاً لإتسيون، يعتقد عدد من علماء الآثار أنها تخفي وراءها مساراً مباشراً كان يؤدي من نبع مياه اعتُبر مصدر المياه الرئيسي في القدس القديمة إلى موقع المعابد. يأمل الباحثون أن تقنية الميوغرافيا بإمكانها تأكيد ذلك الحدس.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

تعقيدات إضافية

لا تخلو العملية التي يجريها هؤلاء الباحثون من تعقيدات. ينقطع الاتصال بالإنترنت الذي يُستخدم لجمع البيانات عن بُعد في بعض الأحيان. كما أن الأجهزة حساسة تجاه الحرارة والرطوبة، وكان بعض العاملين في المتنزه أحياناً يفصلونها عن طريق الخطأ. في إحدى المرات، علِق أحد أجهزة الكشف في الممر المفضي إلى النفق فاضطر القائمون على العمل إلى تفكيكه وإعادة تجميعه داخل ممر آخر.

في مايو، عاد الباحثون إلى الموقع وحركوا جهاز الكشف عن الميونات بحذر على مدى الجدار لمسح منطقة قريبة، حيث أشارت بيانات سابقة إلى وجود شذوذ. لم يبلغوا بعد ما يجعلهم يتأكدون من أن هنالك غرفة سرية أو أي شيء ذا أهمية. وفقاً لإتسيون، سيحتاج رسم خارطة لنفق بأكمله عشرات الكاشفات عن الميونات.

قال يفتاح سيلفر، عالِم الفيزياء في "رافائيل"، إن استخدمت "ما يكفي من الكاشفات من عدد كافٍ من الزوايا، بإمكانك أن تجري عملية تصوير مقطعي تحت الأرض بالطريقة ذاتها التي تعمل بها الأشعة المقطعية على البطن أو الدماغ".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك