يتولى رجل دنماركي يناهز طوله مترين اسمه مايكل هالغرين مهمة رفع إنتاج للمكوّن الرئيسي في عقار "أوزمبك" لدى شركة "نوفو نورديسك"، وهو يحتاج سيارةً ليتنقل بين أرجاء المجمّع الصناعي الشاسع الواقع في ما كان حقلاً لزراعة الحبوب قرب كالوندبورغ في الدنمارك، وهي قرية كانت تعتمد قبلاً على صيد السمك ويقطنها نحو 16 ألفاً.
في المعمل، تجد هالغرين معتمراً لخوذة بنّاء وسترة عاكسة للضوء ويحتاج بضع دقائق لمجرد السير بين جنبي إحدى القاعات الضخمة المحاطة بخزانات فولاذية ترتفع على علو طابقين، وتُستخدم في إنتاج مكوّن الدواء. يُتوقع أن تبدأ هذه المنشأة بإنتاج الأدوية العام المقبل، إلا أن "نوفو" كانت قد أعلنت أنها لا تعرف متى ستصبح قادرة على تلبية الطلب العالمي على عقار داء السكري "أوزمبك" ورديفه لعلاج السمنة "ويغوفي".
الحصة السوقية
جاء الطلب على أدوية إنقاص الوزن أعلى بكثير من توقعات "نوفو"، فدفعها إلى مشروع توسيع في موقع كالوندبورغ تجاوزت قيمته 8 مليارات دولار ومدة إنجازه 8 سنوات بحيث يكتمل في 2029 . تخوض "نوفو" سباقاً مع شركة الأدوية الأميركية "إيلي ليلي" على صدارة السوق المزدهرة لأدوية إنقاص الوزن. وكلما طال الوقت الذي يستغرقه هالغرين لزيادة الإنتاج، يزداد حجم المبيعات التي قد تخسرها "نوفو"، سواء لصالح "ليلي" أو صيدليات تركيب الأدوية التي توفر نسخاً من "ويغوفي"، مستغلة ثغرة في القوانين الناظمة الأميركية تسمح لها بذلك حين لا يكون متوفراً.
قال هالغرين الذي يشغل رسمياً منصب نائب الرئيس الأعلى في "نوفو" لشؤون تصنيع المكونات الدوائية النشطة: "دائماً ما تكون هنالك مشكلات في البدايات عند زيادة تصنيع منتج جديد تماماً، ولكن كلي ثقة أننا سنبلغ مرحلة التشغيل الكامل عاجلاً، وإذا ما سألت عن السرعة، فالإجابة أننا سنبذل جهدنا لنقوم بذلك بسرعة فائقة".
شرح أن معمل كالنودبورغ هو واحد من موقعين تصنّع فيهما "نوفو" مركب سيماغلوتيد، وهو المكوّن النشط في "ويغوفي"، حيث يقع المعمل الآخر في كارولاينا الشمالية. يراقب المستثمرون البلدة الدانماركية الساحلية عن كثب، وهو ما تجلّى في منتصف مايو حين تسببت أخبار عن حريق بسطح موقع البناء في تراجع مؤقت لقيمة "نوفو" السوقية بقدر 20 مليار دولار. بيّن هالغرين أن الشركة علّقت حالياً كامل عمليات إصلاح الأسقف فيما تحقق في الحدث.
تعلّق "نوفو" كثيراً من آمالها على نجاح "أوزمبك" و"ويغوفي"، إذ يقدّر المحللون أن يتجاوز إجمالي مبيعاتهما 26 مليار دولار هذا العام. وبحسب مجوعة "غولدمان ساكس"، قد تصل قيمة سوق أدوية إنقاص الوزن إلى 100 مليار دولار بحلول 2030.
البداية من الأنسولين
تحديات الإنتاج ليست بجديدة على "نوفو"، فقد قضت الشركة نصف قرن بعد تأسيسها في محاولة اكتشاف كيفية تعزيز صناعة الأنسولين، وهو منتجها الرئيسي الأول.
لقد عمل مؤسسو الشركة في عشرينيات القرن الماضي من داخل أقبية منازلهم، محاولين استخراج الأنسولين من بنكرياس الخنزير. ويقول هالغيرين إنه بحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كان معمل كالنودبورغ يعالج 25 طناً من بنكرياس الخنازير في اليوم، يستقدمها من مسالخ حول العالم.
مع الوقت، أتاح تطور الهندسة الوراثية برمجة خلايا الخميرة من أجل إنتاج الأنسولين، ما زاد بشكل كبير عدد الأشخاص الذين يمكن معالجتهم. عندما حان وقت صنع فئة الببتيد الشبيه بالغلوكاكون- 1 (GLP-1) الجديدة من أدوية السكري، قررت الشركة اتباع النهج نفسه.
استخدام الخميرة
زراعة الخميرة مخبرياً أشبه بمعامل أدوية مصغّرة. تستند العملية إلى خميرة الخباز، إذ إنها تُعدّل جينياً لإنتاج النسخة المعدلة الخاصة بالشركة من هرمون ( GLP-1) الذي ينتجه الجسم بعد تناول الطعام. يسهم هذا المركب في خفض معدل السكر في الدم وإبطاء حركة الطعام من المعدة، فيُشعر المرضى بالشبع أسرع ولفترة أطول، ما يؤدي لإنقاص أوزانهم.
على عكس "إيلي ليلي" التي عمدت للتعاقد مع مصنّعين خارجيين لمساعدتها على إنتاج عقار "زيباوند" المنافس المستند إلى (GLP-1)، فإن "نوفو" تحافظ على إنتاج مكوّن "ويغوفي" و"أوزمبك" داخل الشركة. في حين أن هذه الخطوة ليست شائعةً في أوساط شركات الأدوية، أوضح هالغرين إن "نوفو" تسعى لحماية أسرارها الإنتاجية من خلال حصر عملية الإنتاج في أماكن محددة. قال: "لا أحد آخر في العالم يفعل فعلنا... لكن هذه جوهرة التاج لدينا".
استخدام الخميرة يعني أن "نوفو" ستستغرق وقتاً أطول لزيادة الإنتاج مقارنة بما كانت لتستغرقه لو أنها استخدمت مواد كيميائية في تصنيع المكوّن النشط، كما تفعل "ليلي" مع"زيباوند". ولكن هالغرين شرح أنه عند تطبيق هذه العملية بالشكل المناسب، فإن تكلفتها أدنى وتخلّف كمية أقل من النفايات.
بداية العملية هي من قطعة خميرة بمنتهى الصغر، بحجم ظفر خنصر، توضع في مرق مغذ داخل قارورة زجاجية واسعة القاع، ثم تُنقل إلى خزان تخمير، حيث تضاف إليها الفيتامينات وكثير من السكر وتوضع تحت درجتي حرارة وحموضة مناسبتين، وتتعرض لكم هائل من الهواء المعقم، فتتكاثر بغزارة. تُفصل بعدها خلايا الخميرة عن مكوّن الدواء، الذي يخضع للتعقيم والتجفيف ثم يُخزّن إلى أن يصبح جاهزاً للتعبئة في القوارير.
يمكن للمواد المنبثقة عن قطعة خميرة لا تتجاوز حجم ظفر إصبع اليد أن تنتج مكونات الدواء لأسابيع. وفي حالة الأنسولين، هذه كمية كافية لنحو نصف مليون مصاب بالسكري لمدة عام. قال هالغرين: "لهذا السبب نعتبر استخدام الخميرة الطريقة الأكثر كفاءة".
قد تبدو العملية سهلة، ولكنها تحتاج في الواقع للمسة احترافية وخبرة طويلة، من أجل الاستحصال على أكبر قدر ممكن من الإنتاج. أضاف هالغرين: "يمكنني أن اشرح لك كيف تقود طائرة جامبو، ولكن ذلك لا يعني أنك ستصبح قادراً على قيادتها".
تأمين اليد العاملة
وظفت الشركة ألف شخص في كالنودبورغ العام الماضي، أي ما يوازي نحو ربع عديد منسوبيها في الموقع وهو 4500 موظف، وستحتاج لمزيد من العمال مع ارتفاع الطلب على أدوية (GLP-1).
تسعى "نوفو" لحل مشكلة اليد العاملة من خلال إعادة رسم طابع المدينة ليتمحور حول المعمل. فدأبت على تأمين إمداداتها من الموظفين من خلال استقطاب جامعة متخصصة بالتقنية الحيوية ومختبر أبحاث على مقربة من مقرّها، فيما تخطط بعض أكبر الجامعات الدانماركية لبدء برامج دراسية هناك. قال هالغرين إن ألف طالب سيدرسون هناك في غضون أربع سنوات.
أسهمت "نوفو" أيضاً في تمويل بناء محطة قطارات قرب معملها، وضغطت لإنشاء طريق سريع قيد البناء حالياً، وتعمل على ضمان تشييد مزيد من المنازل في البلدة لتوفير السكن لموظفي "نوفو" المتوافدين على البلدة.
تحاول "نوفو" تجنب الاضطرار للحاق بالركب مجدداً، لذا صُممت المعدات في المعمل الجديد الذي سيبدأ الإنتاج في العام المقبل بحيث ألا يقتصر استخدامها على نوع واحد من الأدوية، ولكن يشمل أنواعاً أخرى لم تتم الموافقة عليها بعد، بحسب هالغرين، الذي قال: "لقد بنينا على ما لدينا من معرفة، وهذا هو الجيل المقبل".