إن القلق الذي يعتري موظفي شركة "أتمو" (Atmo) الناشئة في سان فرانسيسكو له ما يبرره. تختص الشركة، التي يعمل لديها 25 موظفاً ولا يتجاوز عمرها أربع سنوات، بجمع بيانات حول الغلاف الجوي من أجهزة استشعار الأرصاد الجوية، وتستخدم الذكاء الاصطناعي لتوقع الطقس، ثم تبيع توقعاتها لمجموعة متنوعة من العملاء، مثل القوات الجوية الأميركية وحكومة الفلبين.
تقول "أتمو" إن أدوات الذكاء الاصطناعي التي طوّرتها تقدم توقعات أرصاد جوية أدق من تلك المتأتية من معالجة البيانات عبر كمبيوترات فائقة القدرة، كما أنها أقل تكلفة وقادرة على التعلم من أخطائها.
لفترة بدت الشركة وكأن ساحتها تخلو من المنافسين، لكن ذلك انتهى في 29 مارس حين نشرت "ألفابت" بحثاً أكاديمياً تحت عنوان "الذكاء الاصطناعي التوليدي سيحدّ من عدم اليقين في الأرصاد الجوية"، قدّمت فيه أداة ذكاء اصطناعي خاصة بها لتوقع الأرصاد الجوية أطلقت عليها اسم "سيدز" (Seeds).
هكذا فجأة، أصبحت "أتمو" التي جمعت بالإجمال 11.2 مليون دولار تواجه منافسة محتملة من قبل عملاقة تقنية قيمتها السوقية تريليونا دولار، وهي صاحبة أكبر عمليات تطوير ذكاء اصطناعي في العالم.
كانت كل من "غوغل" و"أوبن إيه أي" المدعومة من "مايكروسوفت" قدمتا في أواسط مايو عرضاً علنياً لأدوات ذكاء اصطناعي تعتزمان طرحها قريباً، وقد تضمّنت نماذج لا يقتصر استيعابها على الأوامر المكتوبة المدخلة عبر لوحة المفاتيح بل يتعدّاها إلى الأوامر الشفهية والصور، ما يوسّع طريقة تفاعل البشر مع الكمبيوتر. تبدو الشركتان عازمتين على الهيمنة على قطاع الذكاء الاصطناعي الواعد بتحوّلات كبرى.
غموض المشهد
يقول أليكس ليفي، المؤسس الشريك لـ"أتمو" ورئيسها التنفيذي إنه لا يخشى هذه الشركات الكبرى بل إنه لم يتكدر بعدما قرأ مقالة "غوغل" البحثية. بيّن في مقابلة عبر تقنية الفيديو من مكتبه فيما كانت تومض خلفه خرائط طقس بالغة الدقة، أن المقالة البحثية لم تشر إلى أن "غوغل" ستبدأ ببيع أداة تتوقع الأرصاد الجوية قريباً. أضاف: "تطرح (غوغل) كثيراً من المقالات البحثية، لكن مهم التمييز بين المقالات والمنتجات... اليوم، لا يمكنك قطعاً شراء أداة توقع أرصاد جوية من (غوغل) بأي سعر كان".
أهلاً بكم في عصر التفاؤل الجامح في عالم الذكاء الاصطناعي، حيث وتيرة الابتكارات أسرع من القدرة على التنبؤ بها، وحيث الاختراعات الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي تتوالى بسرعة فائقة، سواء على شكل برامج الدردشة أو برامج المساعدة على البرمجة أو خدمات توليد الصور والمقاطع المصورة بمجرد إدخال أمر نصي. لكن يبدو أن المشهد في وادي السيليكون يزداد تشوشاً كلما كان تطور الذكاء الاصطناعي أسرع.
يبدأ الغموض من تساؤل عما إذا كانت حفنة من عمالقة التقنية ستسيطر على المشهد ومعها الشركات التي تتلقى تمويلها السخي، مثل "أوبن إيه أي" التي تحظى بدعم بقيمة 13 مليار دولار من "مايكروسوفت". هذا ما لا تتمناه الشركات الناشئة مثل "أتمو"، ولكن لا أحد يدري إلامَ ستؤول الأمور.
تبرز أيضاً مجموعة مسائل مالية، منها استمرار العملاء والشركات في الإقبال على الذكاء الاصطناعي التوليدي والدفع مقابل استخدامه عندما يفقد بريقه كاختراع جديد، وما القيمة الاقتصادية التي ستتبقى للنماذج اللغوية الضخمة ذات الملكية الخاصة مثل "جي بي تي-4" في وقت تنفق فيه شركات من وزن "ميتا بلاتفورمز" مئات ملايين الدولارات على تطوير نماذج هائلة مثل "لاما 3" (Llama 3)، وتخطط لجعلها مفتوحة المصدر، ما يعني إتاحتها مجاناً.
تكلفة هائلة
لم يتضح بعد إن كانت وتيرة التحسينات بالغة السرعة التي طرأت خلال 17 شهراً تلت إطلاق "تشات جي بي تي" قابلة للاستمرار. كشفت "أوبن إيه أي" هذا الشهر عن نموذجها الجديد "جي بي تي-4 أو" الذي قالت إنه أسرع ويتمتع بقدرات أكبر من سابقه، إذ يستطيع الاستجابة إلى الأوامر الشفهية فورياً تقريباً، كما يمكنه الغناء. قال رئيس الشركة التنفيذي سام ألتمان عبر مدونة إن النموذج الجديد "يبدو أشبه بالذكاء الاصطناعي المتخيّل في الأفلام، وما يزال يفاجأني بعض الشيء كونه بات حقيقة".
يختلف بعض روّاد التقنية الآخرين مع ألتمان، فلا يثقون مثله أن الذكاء الاصطناعي قابل لأن يستمر بإدهاشنا. قال إيريك راييس، مؤلف الكتاب الذي يسترشد به القطاع (The Lean Startup)، والمؤسس الشريك لمختبر الذكاء الاصطناعي "أنسير إيه أي لاب" (Answer AI Lab): "إذا كان هناك أحد يعرف بحق كيفية بلوغ القمة، فيجدر به أن يفعل ذلك الآن ليثبت صوابيته ويجني ثمار ذلك".
ما نعرفه حتى الآن أن تكلفة تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها هائلة جداً. جاء في تقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2024 الصادر عن جامعة "ستانفورد"، أن تدريب "أوبن إيه أي" للنموذج اللغوي "جي بي تي-4" تطلب قوة حاسوبية تقدر قيمتها بـ78 مليون دولار، فيما بلغت تكلفة تدريب "جميناي ألترا" من "غوغل" 191 مليون دولار. وقد طُوّر النموذجان على وحدات معالجة رسوميات باهظة التكلفة تصنعها "إنفيديا"، الشركة الوحيدة تقريباً المنتجة لهذه الوحدات التي يصعب الحصول عليها.
تلقي التكاليف الباهظة بثقلها على تطور القطاع. وقد تبيّن هذه الحاجة لكمّ هائل من رؤوس الأموال والقوة الحاسوبية سبب تحوّل "أوبن إيه أي" من مؤسسة لا تسعى للتربح إلى كيان تجاري له ارتباط وثيق بالشركة الأعلى قيمة في العالم.
استثمارات ضخمة
"أنثروبيك" (Anthropic) هي واحدة من الشركات الناشئة البارزة القليلة التي تصنع نماذج ذكاء اصطناعي أساسية. وقد تمكّنت من جمع 4 مليارات دولار من "أمازون" وملياري دولار من "غوغل"، كما تعتمد على عملاقتي التقنية من أجل الحصول على الرقاقات والبنية التحتية للخدمات السحابية.
تحدث المؤسس الشريك لـ"أنثروبيك" ورئيسها التنفيذي داريو أمودي في قمة بلومبرغ للتقنية في 9 مايو قائلاً إن تكلفة تدريبها لنموذج الذكاء الاصطناعي تبلغ 100 مليون دولار، ويتوقع أن تصل هذه التكلفة إلى 100 مليار دولار فيما تزداد هذه النماذج حجماً وتتطلب قدرات حاسوبية أكبر.
كما دافع عن الشراكات التي تدخلها شركته، قائلاً: "يستحيل أن تكون عدة أمور حصرية" لأن "أنثروبيك" ترتبط بعلاقات مع أكثر من عملاقة تقنية. واعتبر أن "هذه الاستقلالية وهذا الخيار يميّزان (أنثروبيك) عن بعض الشراكات الأخرى".
لم يتبين بعد ما إذا كانت الهيئات الناظمة ستقبل منظور "أنثروبيك" لتلك الشراكات. أعلنت لجنة التجارة الاتحادية هذا العام أنها تدقق يالشراكات بين مقدمي الخدمات السحابية وشركات الذكاء الاصطناعي التوليدي. وقالت رئيسة اللجنة لينا خان إنهم يأملون بأن "يسلطوا الضوء على إذا ما كانت الاستثمارات والشراكات التي تعمل عليها الشركات الكبرى تهدد الابتكار وتقوّض المنافسة العادلة".
لا تبدو كفة الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي غير المرتبطة بكبرى شركات التقنية راجحة، لكن يستمر وادي السيليكون بدعم ظهور هذه الشركات. فقد موّلت رؤوس الأموال الاستثمارية 1812 شركة ذكاء اصطناعي جديدة في العام الماضي، بزيادة بنسبة 40.6% مقارنة مع 2022.
لا شك أن الفشل سيكون مصير كثير من هذه الشركات، مثل شركة "ستابليتي إيه أي" (Stability AI) اللندنية التي تعثرت في سداد فواتيرها واستقال رئيسها التنفيذي في مارس.
أما شركات أخرى على شاكلة "إنفلكشن إيه أي" (Inflection AI) فستندمج ببساطة ضمن شركات ذكاء اصطناعي أكبر، إذ كانت الشركة تعمل على تصميم "برنامج دردشة لطيف وداعم" إلى حين استحوذت "مايكروسوفت" على جزء كبير منها في الربيع، مقابل جزء بسيط جداً من التمويل الذي جمعته.
فرص سانحة
قال آرون ليفي، الرئيس التنفيذي لشركة الحوسبة السحابية "بوكس" (Box) إن "توفير مزارع وحدات معالجة الرسوميات اللازمة لتشغيل الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى قدرات اقتصادية هائلة وأحجام أضخم بكثير مما سبق أن رأيناه في مجال الحوسبة... بغض النظر عما يحصل، سيظل هناك ثلاثة إلى أربعة فائزين إضافة إلى شركات صناعة الرقاقات، فيما يبقى السؤال مفتوحاً بالنسبة للآخرين".
يميل وادي السيليكون للتغاضي عن هذه الحظوظ غير المتكافئة، فالقاعدة السائدة في مجال التقنية أن بإمكان الشركات الصغيرة والرشيقة أن تزدهر، مستغلّة بطء الشركات القائمة في تصيّد الفرص الجديدة والسعي خلفها. من أشهر المقولات المحلية عن ذلك: يمكنك الإثراء من جمع قروش من أمام أسطوانة محدلة تهدر صوبك إن كنت رشيقاً بما يكفي كي لا تسحقك، وتلك الآلة كناية عن الشركات الضخمة بطيئة الحركة. الجانب السلبي في الموضوع هو أن أي عثرة قد تكون قاضية.
"سونو" (Suno) هي مثل عن الشركات التي تجمع القروش بأقصى سرعة. تتيح الشركة للمشتركين الذين يدفعون بدلاً مالياً إنشاء أغانٍ وإضافة أصوات مولّدة بالذكاء الاصطناعي بواسطة أوامر مكتوبة. في حين أنها أنشأت نموذج ذكاء اصطناعي خاصاً بها لتوليد الموسيقى، فهي تعتمد على "تشات جي بي تي" لتوليد كلمات الأغاني وعناوينها.
لكن الاعتماد على "أوبن إيه أي" له مخاطره لأن الشركة قد تطرح منتجاً موسيقياً مولّداً بالذكاء الاصطناعي هي الأخرى في نهاية المطاف. فهي نشرت عام 2020 بحثاً وشيفرةً لبرنامج توليد أغانٍ خاص بها أطلقت عليه اسم "جوكبوكس" (Jukebox). علّق المؤسس الشريك لـ"سونو" ورئيسها التنفيذي مايكي شولمان على اعتماد الشركة على الاشتراكات، قائلاً: "أعتقد أنه لم يأتِ أوان تقرير شكل نموذج الأعمال المناسب... عقليتنا هي أن نسعى إلى ما يسعد الناس، أن نحرص على صنع شيء يحبونه فعلاً، وشكل هذا المنتج قد يختلف كثيراً بناء على تطور الأمور".
الاستفادة من الشركات الكبرى
تستخدم شركة ناشئة أخرى هي "بريبليكسيتي" (Perplexity) الاشتراكات لتغطية تكلفة متطلّبات الحوسبة ولتختبر قوة الطلب، فتتقاضى 20 دولاراً شهرياً من المستخدمين لقاء أجوبة تستند إلى عدة نماذج لغوية ضخمة مثل "جي بي تي-4" من "أوبن إيه أي" و"كلود 3" من "أنثروبيك"، وتضيف على أجوبتها مصادر الاستشهادات وروابط مقالات متصلة بالموضوع وأسئلة متابعة ذات صلة، وغالباً ما تكون إجاباتها موثوقة أكثر من تلك التي تعطيها برامج الدردشة الأخرى ومحركات البحث.
تشكل هذه الخدمة تحدياً مباشراً في وجه "غوغل" التي طرحت في مؤتمر (I/O) السنوي في 14 مايو تجربة بحثية محسّنة تسلّط الضوء على ملخصات مولدة بالذكاء الاصطناعي مستندة إلى نتائج البحوث. وكانت بلومبرغ نيوز قد نقلت أن "أوبن إيه أي" تعمل على تطوير محرك بحثي مشابه يعمل بالذكاء الاصطناعي.
قد لا تبدو هذه أرضية استراتيجية متينة لتستند إليها "بريبليكسيتي" التي تعوّل خططها على التسابق مع منافستين أكبر، واستخدام نماذج من صنعهما لتشغيل منتجها الخاص. مع ذلك، جمعت "بريبليكسيتي" تمويلاً جديداً بأكثر من مليار دولار في أبريل، في مؤشر جديد على الحماسة تجاه الذكاء الاصطناعي برغم الغموض الذي يلف القطاع.
كانت الشركة أبلغت "بلومبرغ نيوز" مؤخراً أنها تحقق إيرادات سنوية متكررة تبلغ 20 مليون دولار. ويراهن أرافيند سرينيفاس، المؤسس الشريك لـ"بريبليكسيتي" ورئيسها التنفيذي أن "معظم أرباح الذكاء الاصطناعي التوليدي" ستتدفق نحو خدمات لديها علاقات مباشرة مع المستخدمين على حساب النماذج الأساسية مثل "جي بي تي 4".
سبق أن اختبر مستثمر رأس المال الجريء دايف كورين هذا الأمر، فقد كان يشغل منصباً تنفيذياً في "فيسبوك" قبل 15 عاماً حين سمحت للشركات الناشئة باستخدام عناصر من شبكة التواصل الاجتماعي لديها، مثل شبكة أصدقاء المستخدمين أو الصور. لكن "فيسبوك" تراجعت عن هذا المسار بعد بضع سنوات، ما قضى على كثير من الشركات التي لم تبنِ علاقات مباشرة مع العملاء. قال مورين إن تجنب التعويل المفرط على منصات التقنية المتقلبة "ليس بالاكتشاف الجديد، بل طريقة تفكير لطالما كانت سائدة في وادي السليكون".
مورين أحد المستثمرين في "أتمو" ويقول إن الشركة تستعد لمواجهة أي اضطرابات مقبلة من خلال التركيز على توقعات الطقس. ولكنه، كما حال الآخرين، ليس متيقناً حيال المستقبل، وقال: "حجم الغموض أكبر مما يرغب الناس الإقرار به".