بينما كان أحد متاجر "شوبرايت" (Shoprite) يستعد لفتح أبوابه أمام الزبائن في منطقة يسكنها العمال في كيب تاون في نوفمبر، وقع حادث أليم. فقد اقتحم مسلحون المتجر واحجزوا عامليه كرهائن، قبل أن يلوذوا بالفرار وقد استولو على المال وعلب السجائر. تعد هذه الواقعة واحدة من عمليات السطو العنيفة العديدة التي طالت سلسلة متاجر التجزئة الكبرى الأفريقية.
وفي فبراير، أردى مسلح يطلق النار من مسافة قريبة مسؤولاً تنفيذياً من شركة "راند واتر" (Rand Water) قتيلاً فيما كان يتحدث أمام مجموعة من أطفال المدارس في إحدى ضواحي جوهانسبرغ. كما قُتل نجم صاعد لكرة القدم في حادث سرقة سيارة قرب المدينة في أبريل.
تعاني الدولة الأكثر تقدماً في أفريقيا منذ فترة طويلة من أحد أعلى معدلات الجريمة في العالم، فقد ناهز عدد جرائم القتل في البلاد العام الماضي 27500 جريمة، مرتفعاً بنحو الثلث عن 2019. تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن النشاط الإجرامي يقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة هائلة تبلغ 10%، أو ما يعادل 40 مليار دولار سنوياً.
ازدادت حدة الجرائم وعنفها لدرجة أن الجريمة باتت قضية رئيسية في ما تعد بأن تكون أشد الانتخابات شراسة في جنوب أفريقيا منذ اندثار الفصل العنصري. ويُرجّح أن يضطر المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم لتشكيل حكومة ائتلاف لأول مرة. يبين استبيان أدارته "إبسوس" (Ipsos) ونشرته في 26 أبريل أن تأييد المؤتمر الوطني الأفريقي يبلغ 40.2%، أي أقل كثيراً من نسبة 57.5% من الأصوات التي كانت له في انتخابات 2019.
جريمة وفساد
في الدولة التي تعمّ فيها البطالة ثلث قوة العمل، تتقدم الجريمة والفساد معاً على البطالة كمصدر قلق رئيسي لدى الناخبين قبيل الانتخابات المزمعة في 29 مايو، وفقاً لاستبيان من "سوشيال ريسيرش فاونديشن" (Social Research Foundation). كما أظهر استطلاع في 7 مايو من "إيتشيكويتز فاميلي فاونديشن" (Ichikowitz Family Foundation) وشمل أبناء البلاد بين 18 و24 عاماً أن 85% من المشاركين يقلقهم الفساد، وذلك بارتفاع من 64% في 2022، وهي نسبة أكبر من أولئك الذين قالوا إن البطالة هي مصدر قلقهم الرئيسي.
قالت جيني أيريش-كوبوشين، الباحثة في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود: "أوشكنا على الوصول لنقطة انقلاب الموازين، وعلينا أن نتعامل معها وإلا سيتدهور الوضع. أياً كانت الإدارة الجديدة، سيتحتم عليها أن تتعامل مع الوضع بصرامة".
صنّفت المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود جنوب أفريقيا العام الماضي في المرتبة السابعة بين 193 دولة في تغلغل الجريمة المنظمة في الاقتصاد، بارتفاع من المرتبة 19 قبل عامين. يضع ذلك البلاد في الفئة ذاتها التي تنتمي إليها كولومبيا وميانمار ونيجيريا.
ورغم أن وزارة العدل في جنوب أفريقيا تسلط الضوء على أن المبادرة تمنح البلاد تقييماً أفضل في ما تسميه "القدرة على التحمل"، وهي قوة المؤسسات القضائية والمصرفية وجهات إنفاذ القانون ومؤسسات المجتمع المدني، فإن ذلك ليس له أثر في تخفيف معاناة الشركات التي تتصدى للمشكلة.
تأثر الاقتصاد
لم يفلت أي قطاع اقتصادي من المشكلة، فقد أضحى كل من متاجر البيع بالتجزئة والمصنّعين ضحايا للنهب وللسطو على شاحناتهم، ويعاني منتجو الذهب من تكالب المنقبين غير الشرعيين المدججين بالسلاح.
كما تعاني الخطوط الحديدية التي تنقل المعادن وتملكها الدولة من سرقة الكابلات وتخريب السكك، إذ يسعى من يرتبون ذلك لأن يحصلوا على عقود لإصلاح الأضرار. هذا إلى جانب أن شركات البناء تتعرض للابتزاز لتسليم جزء من تكاليف المشروع إلى مجموعات محلية تُعرف باسم جماعات الأعمال التي لا تُقدّم سوى خدمات ضئيلة.
وقد وضعت مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force)، ومقرها باريس، جنوب أفريقيا على قائمة عالمية لمراقبة الأموال القذرة، ما رفع التكاليف بشكل كبير على المتعاملين مع شركات البلاد.
قال أبراهام نيلسون، المدير التنفيذي لمبادرة مخاطر الجريمة في مجلس السلع الاستهلاكية في جنوب أفريقيا، الذي يضم أكثر من تسعة آلاف شركة: "نحن نخسر المنتجات ونخسر البنية التحتية... التأمين يمثل مشكلة أخرى، وذلك لأنه يرتفع كلما وقعت حادثة".
مساعي الشركات
تنفق الشركات الملايين لتحمي نفسها. كما تدفع شركات التنقيب عن الفحم المال لشراء الطائرات المسيّرة والاستعانة بفرق الأمن للحد من سرقته. أما المصارف فتستعين بفرق حراسة خاصة للتصدي للعصابات التي تتربص على الطرق السريعة بالشاحنات التي تنقل الأموال إلى الصرافات الآلية أو فروع المصارف لقطع الطريق وسرقتها.
أسست "شوبرايت" مركز قيادة يرصد عمليات السرقة وغيرها من العمليات الإجرامية في أنحاء شبكتها التي تشمل أكثر من 3500 متجر في أنحاء البلاد، وهي تشارك المعلومات التي تتوصل إليها مع الشرطة والمدعين العامين. قالت الشركة إن التعاون بين تلك الأطراف نتج عنه أحكام بالسجن يبلغ مجموعها 1448 عاماً على مدى السنوات الخمس الماضية، بما في ذلك 24 حكماً بالسجن مدى الحياة.
كان ارتفاع معدل الجريمة أمراً جيداً لواحد فقط من قطاعات الاقتصاد. إذ بيّنت هيئة تنظيم قطاع الأمن الخاص، أن عدد العاملين بالأمن الخاص في جنوب أفريقيا بلغ 2.7 مليون شخص، ما يجعل هذا القطاع واحداً من أكبر نظرائه عالمياً، ويقابل هذا الرقم نحو 150 ألف شرطي على مستوى البلاد.
إلى جانب جميع تحديات البنية التحتية التي تواجهها جنوب أفريقيا، من انقطاع الكهرباء المتكرر والطرق السيئة والشبكة المهترئة للموانئ وللسكك الحديدية الخاصة بالشحن، أضافت الجريمة طبقة أخرى من التعقيدات أمام الشركات.
عوائق النمو
قال مايك براون، الرئيس التنفيذي لـ"نيدبنك غروب" (Nedbank Group)، رابع أكبر مصرف في جنوب أفريقيا من حيث الإيرادات: "العوائق الثلاثة الكبرى أمام النمو في جنوب أفريقيا هي الطاقة والخدمات اللوجستية ومشكلتا الجريمة والفساد، وذلك يضيف ضغوط تكلفة استثنائية على أعمالنا".
طلبت الحكومة التي يقودها المؤتمر الوطني الأفريقي عوناً من القطاع الخاص بعدما كانت تحجم عن العمل معه. والآن، فإن قادة بعض أكبر شركات التعدين والبيع بالتجزئة والمصارف في البلاد، مثل "سيبانيي ستيل ووتر" (Sibanye Stillwater) ومتاجر "بيك إن باي" (Pick N Pay) و"ستاندرد بنك" (Standard Bank)، هم أعضاء في مجلس إدارة مؤسسة "شركات ضد الجريمة في جنوب أفريقيا".
وتشارك الشركات المعلومات التي تجمعها فرق الأمن الخاصة بها مع الشرطة وتوفر الموارد لتدريب ضباط جهات إنفاذ القانون والعاملين في الوكالات المعنية بملاحقة الجريمة، كجزء من الجهود المبذولة. قال غراهام رايت، الرئيس التنفيذي للمؤسسة: "الهدف الأساسي من هذه المبادرة هو الاستفادة الحقيقية من المهارات والموارد الموجودة لدى الشركات وتفتقر لها الحكومة".
وقررت الحكومة أن تدخل في شراكة مع قطاع الأعمال بسبب تأثير الجريمة والفساد على حياة المواطنين العاديين في جنوب أفريقيا وعلى ثقة قطاع الأعمال، وفقاً لبيان من مكتب الرئيس سيريل رامافوزا جاء رداً على أسئلة من بلومبرغ نيوز.
سياسات الحكومة
جمعت الحكومة في عهد رامافوزا، الذي تولى الرئاسة في 2019، عشرين فريقاً متخصصاً ليساعدوا في تناول قضية التعدين غير القانوني والابتزاز في مواقع البناء وسرقة الكابلات وتخريب البنية التحتية، وفقاً للبيان، الذي ذكر أن أكثر من 4000 شخص اعتُقلوا بتهمة تخريب البنية التحتية الحيوية و3000 بتهمة التعدين غير القانوني وفقاً للبيانات حتى نوفمبر 2023.
وقال رواد أعمال إن بعض السياسات الحكومية قد حفزت دون قصد النشاط الإجرامي. على سبيل المثال، كان الهدف من لوائح المشتريات التفضيلية التي أُقرت في 2017 تقديم العون للشركات الصغيرة التي يملك غالبيتها مواطنون سود للصعود بها، وذلك من خلال إصدار قرار مفاده أن المشروعات الحكومية ينبغي أن تخصص 30% من الإنفاق على المشتريات للشركات المحلية. لكن تلك السياسة ولّدت نشاط ابتزاز، إذ تستهدف ما تُسمى بجماعات شركات المشروعات الخاصة من أجل الحصول على مخصصات مشابهة، وقد أثر ذلك على قطاع البناء بشدة.
تطالب المجموعات التي تشكّلت على عجل، والتي تزعم أنها تضم شركات محلية لكنها عادةً ما تشمل عناصر إجرامية، بالحصول على عقود، ويؤدي عدم الامتثال لمطالبها إلى عمليات التخريب وإحراق متعمد للممتلكات واحتجاجات. قد يتوقف استكمال المشروعات لأسابيع. يُقدّر سيهلي زيكالالا، وزير الأشغال العامة، التكلفة بمليارات من راند جنوب أفريقيا.
وقال موهاو مفوميلا، المدير التنفيذي لمنظمة "ماستر بيلدرز أسوسيشن نورث" (Master Builders Association North)، التي تمثل شركات البناء في أربع من أصل تسع مقاطعات في جنوب أفريقيا: "نحن نتحمل العبء الأكبر لحقيقة أن جماعات الأعمال هي التي تأتي بالمقاولين في مواقع البناء وليس المالكين أو مطوري المشروع، والوضع سيئ".
ضحايا الاختطاف
لا شك أن الاستهداف لا يقتصر على الشركات. قال نيشال ميوالال، الرئيس التنفيذي لمركز معلومات المخاطر المصرفية في جنوب أفريقيا، إن البلاد شهدت استفحالاً في "الاختطافات السريعة"، أي ارتهان المجرمين لشخص لبضع ساعات وتعنيفه وتهديده هو وأسرته وإرغامهم على سحب أموال من حساباتهم المصرفية.
كانت غافيرو، 44 عاماً، إحدى ضحايا تلك الجريمة، وقد رفضت التعريف عن نفسها بكامل اسمها خشية التعرض للانتقام. حين توقفت غافيرو في ضاحية تسكنها الطبقة المتوسطة في جوهانسبرغ في أواخر العام الماضي لتتحدث إلى صديق لها يعمل سائق "أوبر"، دفعها رجال مسلحون داخل سيارة صديقها واقتادوهما إلى بلدة قريبة حيث هاتفت مجموعة منفصلة ابن غافيرو وهددوه بقتلها ما لم يُحوّل إليهم ستة آلاف راند (325 دولاراً).
بعد العملية، ألقى المسلحون غافيرو في شارع مظلم قرب محطة وقود. أخبرت الشرطة غافيرو بأنها كانت الشخص العاشر الذي يبلغ عن مثل هذه الجريمة في تلك المنطقة خلال أسبوع.
ثقة متراجعة
قالت أيريش-كوبوشين، التي تعمل في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، إن عدم قدرة الحكومة على حماية الأفراد والشركات من مثل هذه الأفعال، قلص الثقة في أجهزة الدولة ولا بد من التعامل مع ذلك الأمر بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات، مضيفة: "سيمثل الأمر تحدياً كبيراً للإدارة القادمة".
لكن حتى آمال المسؤولين الحكوميين محدودة.
وقال إسماعيل مومونيات، وهو مستشار لدى الخزانة الوطنية حيث عمل لثلاثة عقود وتولى منصب القائم بأعمال مديرها العام، في مؤتمر في نوفمبر: "التكلفة في جميع قطاعات المجتمع هائلة، وأظن أن نسبة (فاقد الناتج المحلي الإجمالي بسبب الجريمة) أعلى بكثير من 10%... النتيجة الرهيبة في جنوب أفريقيا هي أن الجريمة تؤتي ثمارها. الأمر يستحق أن تكون مجرماً لأنك لن يُقبض عليك أبداً".