حين بلغ التضخم في الولايات المتحدة ذروته عند أكثر من 7% في 2022، كان يشمل نطاقاً عريضاً من السلع والخدمات. أما في 2024، في ظل تراجع التضخم لأقل من 3%، فقد تغير الوضع، إذ بات الجانب المتبقي من المشكلة يتمحور حول الإسكان.
تهيمن الإيجارات على مؤشرات التضخم التي يبني عليها الاحتياطي الفيدرالي قراراته في ما يخص أسعار الفائدة. إن القراءات الأعلى من المتوقع لهذه الفئة خلال الأشهر القليلة الأولى من العام، تُعد سبباً قوياً لتردد المصرف المركزي في خفض أسعار الفائدة.
قال أوستان غولسبي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو إن "الإسكان هو أكبر حجر عثرة. كنا نعتقد أننا فهمنا الآلية قصيرة الأمد لمدى انخفاض التضخم في الإسكان، لكنه لم ينخفض بالسرعة التي توقعنا أنه سينخفض بها في تلك المرحلة".
بل إن حتى مشكلة تضخم الإيجارات ذاتها لم تعد عريضة القاعدة جغرافياً. ثمّة فارق كبير بين الوضع في الشمال الشرقي والغرب الأوسط، وفيهما التضخم المرتفع مستمر، وبين الغرب والجنوب، حيث يعتدل التضخم بسرعة.
تفاوتات في التراجع
في الشمال الشرقي والغرب الأوسط، لم يتراجع التضخم في الإيجارات بنحو ربع المسافة بين الذروة التي وصل إليها وبين مستويات ما قبل وباء كورونا. أما في الغرب فتراجع بقدر نصف ذلك، وفي الجنوب بأربعة أخماس.
يبدو أن أسباب الفارق تنحصر بجانب العرض. قال كريس سالفياتي، الاقتصادي الخبير في الإسكان في موقع تأجير المساكن عبر الإنترنت "أبارتمنت ليست" (Apartment List)، إن "هنالك ارتباطاً قوياً بين الأسواق التي تشهد أكبر تراجع في الإيجارات، وتلك التي شهدت أكبر قدر من البناء".
اقرأ أيضاً: سوق الإسكان الأميركية تفقد 2.3 تريليون دولار في أكبر انخفاض منذ 2008
ربما تكون مدينة نيويورك وفينكس أفضل مثالين لأعلى مستوى وأدنى مستوى من حيث تأثير الإيجارات في معدل التضخم. في وسط مدينة نيويورك ارتفع مكافئ الإيجار لمالكي المنازل كمكوّن في مؤشر أسعار المستهلكين 5.6% خلال الاثني عشر شهراً المنتهية في مارس، وهو معدل ليس أقل كثيراً من ذروة العام الماضي البالغة 6.3%. بالمقارنة، ارتفع ذلك المكوّن 2.4% فحسب خلال الاثني عشر شهراً المنتهية في فبراير 2020.
أوضاع مختلفة
تخلفت زيادة أعداد الوحدات المتاحة للاستئجار في وسط المدينة كثيراً عنها في مدن رئيسية أخرى، وقد كانت شبه متوقفة منذ منتصف 2022 حين انقضى أمد حافز ضريبي كانت الولاية تقدمه للمشروعات التي تخصص جانباً من الشقق لسكان محدودي ومتوسطي الدخل.
قال جوناثان ميلر، الذي يتتبع سوق الإيجارات في المدينة لحساب شركته "ميلر سامويل" (Miller Samuel) لتقييم العقارات: "هذه مشكلة عانت منها الأسواق ذات الكثافة السكانية المرتفعة مثل مانهاتن على مدى قرن".
اقرأ أيضاً: "الفيدرالي الأميركي": أسعار المنازل المرتفعة عرضة لانخفاضات حادة
أعلنت حكومة المدينة في فبراير أن معدل شواغر وحدات الإيجار في 2023 كان 1.4%، وهو أدنى مستوى منذ 1968 على الأقل. يعمل المجلس التشريعي لولاية نيويورك لإقرار اتفاق ميزانية تشير التوقعات إلى أنها ستفسح المجال أمام بناء مئات آلاف المنازل في المدينة. رغم ذلك، قال ميلر إنه لا يتوقع اعتدالاً واضحاً في السوق خلال العقد المقبل.
على نقيض مدينة نيويورك، لدى وسط فينكس وفرة من المساكن الجديدة، وقد بلغ التضخم في الإيجارات هناك 3% فحسب خلال الاثني عشر شهراً حتى نهاية مارس، أي أقل من مستوياته قبل الجائحة بعدما تسارع إلى نحو 18% خلال 2022.
توقعات مستقبلية
قال آرون لاوسن، وكيل العقارات في "بريستيج ريلتي" (Prestige Realty) في فينكس: "الحال أسهل كثيراً الآن مقارنة مع الأعوام القليلة السابقة" بالنسبة للمستأجرين. يقدم أصحاب العقارات مزيداً من الحوافز، بما في ذلك التنازل عن الرسوم الإدارية وتقديم إيجار شهر دون مقابل حين يكون عقد الإيجار لسنة، كما قال لاوسن إنه يتوقع مزيداً من الضغوط النزولية على الإيجارات هذا العام.
يتوقع الاقتصاديون بشكل عام أن الفروق ستتلاشى على مستوى البلاد، كما يتوقعون أن تكون مفاجآت الصعود الأخيرة في مؤشر أسعار المستهلكين عابرةً. يشير كل من آلان ديتمايستر في "يو بي إس إنفستمنت بنك" ولورا روزنر-واربرتون من "ماكروبوليسي برسبكتيفز" (MacroPolicy Perspectives) إلى أن مقاييس إيجارات السوق في عقود الإيجار الجديدة قد عادت إلى معدلات التضخم ما قبل الجائحة.
اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب لن تنخفض أسعار المنازل في أميركا رغم الركود المرتقب
يجمع مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة و"زيلو غروب" (Zillow Group) مؤشرين يحظيان بأكبر متابعة من شريحة عريضة. يبين المؤشر الأول أن الإيجارات ارتفعت 0.4% على مدى العام الماضي، فيما يكشف المؤشر الثاني عن زيادة قدرها 3.5%.
على النقيض، فإن المقاييس الواردة في مؤشر أسعار المستهلكين تمثل متوسط الإيجارات على العقود الجديدة والقائمة، لذا فإن التغيرات في سوق الإيجار تميل لأن تستغرق وقتاً، قبل أن يرشح تأثيرها إلى مجموع المساكن المؤجرة مع خروج المستأجرين القدامى واستغلال أصحاب المنازل الفرصة ليرفعوا الإيجارات على المستأجرين الجدد.
مؤشر غير دقيق
قال ديتمايستر، الذي كان في السابق مسؤولاً عن وحدة توقعات التضخم في مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن: "أياً كان مؤشر إيجارات المستأجرين الجدد الذي تود أن تنظر إليه، فقد شهدنا تزايد الإيجارات في السوق بالوتيرة ذاتها التي كانت عليها قبل الجائحة أو بوتيرة أدنى لمدة 18 شهراً على التوالي". أوضح ديتمايستر أن السؤال هو "حجم الشوط الذي ما يزال أمام متوسط الإيجارات أن يقطعه".
لكن إرني تيديشي، الذي كان كبير الاقتصاديين في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس جو بايدن حتى يناير، كان أقل تفاؤلاً. ذكر تيديشي أن أزمات نقص المعروض هي مشكلة طويلة الأجل، وأن الطلب على مزيد من المساحات قد يستمر فيما تتوسع ثقافة العمل من المنزل، وأن أسعار الفائدة المرتفعة قد تطيل المدة التي تستغرقها الإيجارات في السوق لتنتقل إلى متوسط الإيجارات.
اقرأ أيضاً: فقاعات الأسعار في أسواق الإسكان تهدد بركود الاقتصادات حول العالم
كشفت بيانات نشرتها الجمعية الوطنية للوسطاء العقاريين هذا الشهر أن مبيعات المنازل القائمة تراجعت الشهر الماضي بعدما بلغت أعلى مستوياتها خلال عام في فبراير، ما يؤكد التأثير المستمر لأسعار الفائدة المرتفعة على وتيرة تغيير المساكن.
قال تيديشي: "حين تكون أسعار الفائدة مرتفعة، يتراجع معدل الانتقال من منزل لآخر. لذا ربما تكون الإيجارات الجديدة مؤشراً أقل دقة حالياً أو يستغرق وقتاً أطول حتى تتضح الأمور".