توقفت شركة "نستله" عن إنتاج مشروب الشوكولا بالحليب المجفف "نسكويك" في جنوب أفريقيا في أغسطس، وبيّنت أن سبب ذلك كان تراجع الإقبال.
قبل ذلك بعام، تخلت شركة "يونيليفر" (Unilever) عن إنتاج مستحضرات العناية المنزلية وتنظيف البشرة في نيجيريا بهدف"الحفاظ على الربحية"، في حين أوكلت عملاقتا صناعة الأدوية "باير" (Bayer) و"جي إس كي" (GSK) توزيع منتجاتهما لشركات مستقلة في كينيا ونيجيريا.
يأتي ذلك بعدما توافدت قوافل من الشركات متعددة الجنسيات إلى أفريقيا في العقود الماضية، منجذبة إلى النمو السريع الذي شهدته القارة وشباب سكانها وتنامي الثروة فيها. إلا أن تحديات العمل فيها، مثل تدهور قيمة العملات المحلية وتعقيدات البيروقراطية وانقطاعات التيار الكهربائي واكتظاظ الموانئ بدأت تفوق الإيجابيات.
قال رئيس مجلس الإدارة السابق للوحدة الأفريقية في "والمارت" كوسيني دلاميني الذي يرأس حالياً غرفة التجارة الأميركية في جنوب أفريقيا، إن النتيجة "لا توازي الجهد المبذول... يجب أن يدق ذلك جرس إنذار لدى السلطات الأفريقية. إن لم تكن لديكم بيئة مواتية لنمو الأعمال وتوسعها، فستُتركون على قارعة الطريق".
اقرأ أيضاً: أفريقيا تواجه اضطرابات اجتماعية بسبب أعنف زيادة في أسعار الغذاء
أحوال غير مواتية
يتجلى هذا الانسحاب بشكل أوضح في الدول الثلاث التي تختارها عادة الشركات متعددة الجنسيات للتمهيد لنشاطها في القارة، أي كينيا وجنوب أفريقيا اللتين تضمان طبقة وسطى كبيرة نسبياً، ونيجيريا التي يزيد عدد سكانها عن 200 مليون. إذ يوازي اقتصاد هذه الدول الثلاث 44% من اقتصاد دول أفريقيا جنوب الصحراء مجتمعة، فيما يوازي عدد سكانها 30% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء.
أثار تردد الشركات متعددة الجنسيات في توسيع عملياتها أو حتى الحفاظ عليها عند مستوياتها الحالية إحباط القادة الأفارقة المستميتين لخفض البطالة والحد من الاعتماد على السلع كمحرك للاقتصاد.
في هذا الصدد، قال الرئيس الكيني ويليام روتو إن الصناعة قادرة على رفع تصنيف بلاده إلى مصاف الدول ذات الدخل المتوسط بحلول عام 2030، إلا أن البنية التحتية السيئة وتشديد القوانين الناظمة يضعفان التنافسية ويعيقان النمو الاقتصادي.
على سبيل المثال، "نستله" التي كانت تدرس زيادة الإنتاج في كينيا قالت إنها قررت تقليص العمليات في منشأتها الوحيدة هناك، إذ ستستمر في صناعة بعض المنتجات مثل المعكرونة الصينية من علامة"ماجي"، لكنها خفضت نشاطها في بعض الأجزاء من المنشأة ليقتصر على تغليف بعض الأطعمة المستوردة مثل طعام الأطفال المصنوع من الحبوب "سيريلاك".
وكانت أكبر شركة قهوة في العالم "نيومان غروب" (Neumann Gruppe) أعلنت في يناير عزمها إغلاق مصنعها في كينيا، بالإضافة إلى وحدة تابعة لها تقدم مساعدات تمويلية وتسويقية للمزارعين، وستكتفي بنشاط وحيد يتعلق بزارعة البن لأهداف التصدير. تقرّ الشركة بأن ذلك سيؤدي لأن يفقد بعض الناس وظائفهم، لكنها لم تحدد العدد، عازية قرارها إلى مرسوم حكومي صدر عام 2020 يمنع الشركات من التسويق للقهوة وتصنيعها في وقت واحد، ويلزمها بالاختيار بين النشاطين.
تهديد الوظائف
تواجه الشركات في كينيا أيضاً ضرائب مرتفعة، بالأخص الضريبة على المواد الخام الرئيسية مثل الأسمنت والمعادن والورق. وقالت رابطة الصناعيين الكينيين في سبتمبر، إن 53% من المؤسسات الأعضاء كانت تعمل بربع طاقتها أو ما دون ذلك، فيما أن 42% تتوقع خفض عدد عامليها في غضون ستة أشهر.
تعليقاً على ذلك، قال أنتوني موانجي، الرئيسي التنفيذي للرابطة إن "كافة الأرقام سلبية... تلك الأماكن التي كانت تُستخدم في الإنتاج أصبحت خاوية. هناك مستودعات تستورد السلع نفسها".
منذ عام 2016، أغلق عدد من كبرى شركات التجزئة الجنوب أفريقية مثل "مستر برايس" (Mr Price) و"شوبرايت" (Shoprite) و"تروورث" (Truworths) فروعها في نيجيريا، الدولة التي لطالما كانت تعتبرها أولوية لتحقيق النمو الدولي. وفي العام الماضي، توقفت "يونيليفر" عن إنتاج مسحوق الغسيل "أومو" وسائل الجلي "صن لايت" وصابون "لَوكس" في نيجيريا، وباتت تستورد هذه المنتجات. وفي مارس، أعلنت وحدة "نستله" المحلية عن أول خسارة لها لتسعة أشهر متتالية خلال 12 سنة بعد تدهور العملة المحلية.
اقرأ أيضاً: الجوع يطارد 48 مليون شخص في غرب أفريقيا وسط تراجع الإمدادات
في جنوب أفريقيا ذات الاقتصاد الأكثر نمواً في القارة، أصبحت البنية التحتية التي كانت يوماً محط إعجاب في حالة يُرثى لها. كما أن انقطاع التيار الكهربائي شبه يومي في ظل انقطاع متزايد في المياه، حيث تُفقد 40% من المياه بسبب التسرب في الشبكة في بعض المدن. كما تقول الشركات متعددة الجنسيات إن تعقيدات نظام إصدار تراخيص العمل يصعّب إحضار موظفين تنفيذيين من الخارج.
وكانت غرفة التجارة الجنوب أفريقية الألمانية أعلنت العام الماضي أن التأخير هدد عمليات شركات ألمانية توفر 100 ألف وظيفة في البلاد. وقالت في بيان: "تطال مسألة التأشيرات كامل هرمية الشركات الألمانية في جنوب أفريقيا... بالطبع هذه المسألة لا تقتصر على الشركات الألمانية، بل تتعلق بالبلاد بحد ذاتها".
بدائل محلية
يطرح هذا التقطع المتكرر في الإنتاج وانسحاب الشركات من قطاع الصناعة مشكلة لشركات التجزئة المحلية. قالت "شوبرايت"، أكبر سلسلة سوبرماركت في أفريقيا، إنها اضطرت لزيادة مخزونها من المنتجات لضمان إبقاء الرفوف ممتلئة، وهي في صدد بناء مزيد من مراكز التوزيع لتخزين السلع.
قال رئيسها التنفيذي بيتر إنغيلبريخت: "يعطيك ذلك فكرة عن مدى الضغط على سلسلة الإمداد. استثمار المصنعين في السعة الإنتاجية في جنوب أفريقيا ضئيل جداً، فيما توقفت الشركات متعددة الجنسيات بالكامل".
وفي ظل تدهور قيمة العملات المحلية، بات أصعب على الشركات متعددة الجنسيات تحويل أرباحها إلى الخارج. خسرت عملة نيجيريا النيرة 88% من قيمتها مقابل الدولار خلال العقد المنصرم، فيما تراجعت قيمة الشيلينغ الكيني 34% وانخفضت قيمة الراند الجنوب أفريقي 44%. نجم عن ذلك تراجع القدرة الشرائية للسكان، بالأخص في ما يتعلق بالسلع المستوردة أو السلع التي تحتوي على مكونات أجنبية المنشأ. ويحاول المصنّعون المحليون سدّ الفجوة عبر تقديم بدائل أرخص تقلّد الماركات العالمية.
اقرأ أيضاً: شح الدولار يدفع الدول الأفريقية إلى أزمة طاحنة
فرصة لشركات أخرى
لطالما كانت شركة "بليس براندز" (Bliss Brands) في جنوب أفريقيا تبيع مسحوق غسيل "ماك" (MAQ) من إنتاجها في البلدات الفقيرة المجاورة للمدن الكبرى. لكن اليوم، بات من الأسهل العثور على هذا المنتج في متاجر "تشيكرز" (Checkers) التابعة لـ"شوب رايت" وفي متاجر "بيك إن باي" (Pick n Pay) في الضواحي ذات الحدائق الأنيقة والتجمعات السكنية المسورة، بأسعار تقل بنحو 30% من سعر مساحيق "أومو" و"سكيب".
وفيما لم يكن "ماك" دائماً أرخص من المنافسين الدوليين، إلا أنه تمكن من الحفاظ على استقرار أسعاره، بحسب معاذ شعيب إقبال، أحد المديرين في "بليس"، الذي قال: "هيكلتنا أكثر مرونة، فيما تعتمد الشركات متعددة الجنسيات على قيمة علامتها التجارية للاستمرار".
ساعد هذا الانسحاب للشركات الكبرى منافسين منخفضي التكلفة من دول في طور النمو على تحدي الشركات الكبرى، فراحوا يبنون مصانعهم الخاصة في أفريقيا.
في نيجيريا، تكاد حفاضات مصنوعة محلياً من شركة إنتاج تركية تطيح بحفاضات "بامبرز" من "بروكتر وغامبل"، وبدأت معكرونة صينية من إنتاج شركة سنغافورية تزيح التي تحمل علامة "ماجي" من "نستله". قال أليك أبراهام، المحلل لدى "ساسفين سيكوريتيز" في جوهانسبورغ: "سوق السلع الأغلى في أفريقيا تتضاءل، ونلاحظ تحولاً في الأصناف المتوفرة بما يلبي الاحتياجات الأساسية، ما يعني أصنافاً أقل فيما يحاول المصنّعون التوفيق بين منتجاتهم ومستويات الدخل".