الدولة الجزيرة تسعى لإعادة رسم صورتها عبر بينالي الفن الجديد ومركز ثقافي طموح لتطمس بهما تاريخاً لا تفخر به

جواز سفر مالطا الذهبي ليس وسيلتها الوحيدة لجذب الأثرياء

العمل الفني "إنسايد ذا أوتسِت: إفوكينغ إيه سبيس أوف باسدج" من تصميم الفنانة روزا باربا الموجود تحت الأرض في خزان سابق من العصور الوسطى في مالطا - المصدر: بلومبرغ
العمل الفني "إنسايد ذا أوتسِت: إفوكينغ إيه سبيس أوف باسدج" من تصميم الفنانة روزا باربا الموجود تحت الأرض في خزان سابق من العصور الوسطى في مالطا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

قد تكون مشاهدة مشروع الفنانة الإيطالية روزا باربا المسمى "إنسايد ذا أوتسِت" مغامرة أثيرية، وقد يجدها البعض أشبه بزيارة مقبرة، فعليك أولاً أن تنزل إلى ممر عبر حفرة في رصيف مرصوف بالحجارة، ثم تشغل ضوءاً كشافاً تعتمره لتستنير فيما تنزل على درج مرعب بحق إلى مساحة حالكة الظلمة.

ثم عليك أن تقفز فوق ما تأمل أن يكون جدول ماء، وليس ما سوى ذلك، لتسير بحذر على صخور زلقة وتعبر ممراً مقوّساً تتدلى منه جذور نباتات تبدو كالعرائش، وصولاً إلى مغارة علو سقفها نحو 12 متراً، وهناك ستجد عملاً فنياً مصوّراً يعرض على شاشة مناظر طبيعية من قبرص تجلب السكينة إلى نفسك.

بعدما كان خزاناً أرضياً في العصور الوسطى، تحول المكان إلى ملجأ من الغارات الجوية خلال الحرب العالمية الثانية، والآن أصبح أحد مساحات العرض الكثيرة التي تتسم بروح المغامرة خلال أول بينالي تقيمه مالطا، وهو معرض للفن المعاصر يعرض أعمالاً جديدة جداً في أماكن قديمة جداً في مختلف أرجاء الدولة الجزيرة.

تاريخ مالطا

تقع جزر مالطا في قلب البحر المتوسط، على مسافة نحو ساعة ونصف الساعة بالقارب إلى الجنوب من صقلية، وتتمتع بتراث زاخر. توجد لوحتان للرسام الإيطالي كارافاجيو داخل كاتدرائية القديس يوحنا التاريخية، التي تقع فوق المغارة التي تضم العمل الفني المصوّر.

توجد مكتبة يعود تاريخها إلى فترة حكم فرسان مالطا، التي انتهت في 1798، أما العاصمة فاليتا، فقد نالت تصنيفاً من منظمة اليونسكو بفضل مساكنها البديعة المبنية من الحجر الجيري وتحصيناتها الممتدة.

تسعى مؤسستان جديدتان للفنون، وهما بينالي مالطا (maltabiennale.art) ومركز "مالطا إنترناشونال كونتمبوراري آرت سبيس" (Malta International Contemporary Art Space) أو "ميكاس" (MICAS) اختصاراً، لخلق مزيج أكثر جاذبية من خلال إضافة أعمال الفن الحديث.

اقرأ أيضاً: مزادات نيويورك تبيع لوحات فنيه بـ1.3 مليار دولار في أسبوع

نشأت فكرة البينالي، وهو معرض يشي اسمه بتفاؤله (إذ إنه يوحي بأنه الأول من سلسلة)، في عدد الجهات الحكومية، ويُعقد البينالي حتى 31 مايو. أما مركز "ميكاس"، الذي سيُفتتح في أكتوبر، فسيكون بمستوى يمّكنه من منافسة المتاحف حول العالم.

سيكون المبنى الجديد بمساحة 1400 متر مربع وهيكله المصنوع من الصلب والزجاج، المحور الرئيسي في المساحة البالغة نحو 8500 متر مربع والتي تشمل حديقة تماثيل ومكاتب وأماكن تجمّع. يعرض "ميكاس"، الذي يقع على أطراف جدران الحصن القديم، ثلاثة معارض رئيسية على الأقل سنوياً.

جهود متضافرة

تمثل المنظمتان الفنيتان معاً جهوداً متضافرة لتعزيز جاذبية مالطا كمقصد ثقافي. للبلاد تاريخ مذهل ومدن تبدو وكأنها آتية من كتب الحكايات، وقلاع مهيبة، وكلها يغمرها نور الشمس المبهر، لدرجة أن استخدام النظارات الشمسية ضرورةً وليس رفاهية.

رغم أن كل ذلك يجعلها وجهة يسهل إقناع السياح بها، فقد تحولت الرغبة بجذبهم فجأة الى جهد جبار.

تاريخ مالطا ليس صفحة بيضاء، فقد شهدت البلاد قروناً من قرصنة تدعمها الدولة، وهو أمر جذاب حين ننظر إليه من منظور تاريخي، لكنه ليس مدعاة افتخار وطني. كما برز في الآونة الأخيرة تشاحن مستمر بشأن برنامج البلاد لمنح الجنسية عن طريق الاستثمار، الذي بدأ في 2014، حيث يمكن للأجانب شراء جوازات السفر المالطية (وبالتالي يمكنهم دخول الاتحاد الأوروبي) إذا استثمروا نحو 750 ألف يورو (807 آلاف دولار) في البلاد.

جمع البرنامج إيرادات بلغت مئات الملايين، لكن منتقديه ومنهم المفوضية الأوروبية يعتبرونه غير مقبولٍ، كما يربط البعض بينه وبين الجريمة المنظمة. أوقفت بعض الدول برامج مشابهة بعد أن تعرضت لضغوط، لكن مالطا مستمرة في مقاومة تلك الضغوط.

إضافة لذلك، فإن حقيقة أن الضريبة على الشركات المالطية أجنبية الملكية كانت تاريخياً بين أدنى معدلات الضريبة في أوروبا قد جلبت اتهامات من جانب الاتحاد الأوروبي وساسة في المملكة المتحدة بأن البلاد ملاذ ضريبي. وما يضيف إلى جاذبيتها هو احتضان الجهات التنظيمية في البلاد للمقامرة عبر الإنترنت. بيّن تقرير نشرته هيئة مالطا للألعاب في 2023 أن البلاد تضم أكثر من 330 شركة مرخصة للمقامرة عبر الإنترنت.

تغيير صورة مالطا

قالت إيما ماتي، وهي مختصة متاحف مالطية مستقلة تعمل مع البينالي: "غالباً ما ينظر الناس إلى مالطا على أنها جزيرة للاستجمام على شاطئ البحر وتناول مشروب البيناكولادا، أو كمكان يتجه الناس إليه لغسل الأموال أو شراء جواز سفر. لن أصفهما بأنهما مفهومان مغلوطان، فهما دقيقان إلى حد ما، لكن فيهما ما فيهما من تسطيح". قالت وزارة الشؤون الداخلية المالطية إن برنامجها لمنح الجنسية مبني على "فحص دقيق مشدد" لتقليص المخاطر.

دعمت قيادة الجزيرة الدولة بقوة مركز "ميكاس" والبينالي. قالت جورجينا بورتيللي، الباحثة الأكاديمية المالطية في مجال الثقافة التي تروج منذ فترة طويلة لـ"ميكاس"، كما أنها من أعضاء مجلس إدارته، إن المؤسسة المالطية ترى "قيمة أن تكون هناك مساحة تدعم انفتاحها دولياً. نعم، نحن أوروبيون، لكن بإمكاننا أن ننخرط في محادثة أكبر مع بقية العالم أيضاً".

اقرأ أيضاً: عمل أليكس كاتز الخيري يثري عالم الفن بلا جلبة

لكن العاصمة فاليتا تبدو في أغلبها حالياً وكأنها تعيش في الماضي. رغم أن هناك عدداً هائلاً من الرافعات تحوم فوق مشاريع بناء في بقية أنحاء الجزيرة، فإن عاصمة مالطا توقف فيها الزمن.

المدينة، التي تأسست على شبه جزيرة ضيقة، ويحيط بها من الجانبين مرفآن طبيعيان يكادان أن يكونا مثاليَين، مثال بديع على التخطيط الحضري المبكر، أو ما تسميه اليونسكو "إبداعاً واحداً شاملاً من أواخر عصر النهضة".

إذا نظرت إليها من مسافة، سترى أن خط أفق المدينة تهيمن عليه قباب الكنائس وأبراجها، وما يفوقها جمالاً هو التحصينات الهائلة المبنية على أجراف ساحلية.

بينالي مالطا

اختار منظمو بينالي مالطا أن يعرضوا قطع الفن المعاصر داخل تلك المباني الأنيقة والحصون المهيبة والقصور البديعة. كانت النتيجة فعالة على نحو مفاجئ، إذ تجعل تلك التشكيلة من القطع الفنية الحياة تدب في الأماكن التاريخية. تجد أن اللوحات والمنحوتات ومقاطع الفيديو الجريئة، التي تكون أحياناً جديةً جداً، تتطرق لمشاكل جيوسياسية.

صُنعت بعض هذه الأعمال خصيصاً للمعرض، بل إن بعضها استكمله الفنانون أمام الجمهور، وهي معروضة في كل الأماكن، من قصر غراند ماستر، الذي يرجع تاريخه إلى 450 عاماً، إلى صوامع حبوب على جزيرة غوزو المجاورة.

وتُسمع تهويدات من تأليف الفنانة الألبانية آنا شاميتاج في ترسانة تعج بالبنادق والمدافع والدروع الواقية. كما توجد قطعة فنية من شواهد قبور أسمنتية للفنان الغاني إبراهيم مهاما إلى جانب غانتيجا، وهو صرح يعود إلى عام 3600 قبل الميلاد.

اقرأ أيضاً: تبرعٌ بـ1.9 مليار دولار يساوي بين متحف ناشئ و"المتروبوليتان" في نيويورك

قرر عدد من الفنانين في البينالي أن يتخذوا مواقف تنتقد البلد المضيف. تشير لوحة فنية من الفنانة الإيطالية تيريزا أنتينياني بشكل مباشر إلى تقرير وجد أن ما لا يقل عن 49 عاملاً لقوا حتفهم في مواقع البناء بين 2010 و2022. وشمل عرض بعنوان "أنبورن سيلبريشن" (Unborn Celebration) في حصن سانت إلمو، من الفنانة الإيطالية سارة ليغيسا، ملصقاً يروج بشكل غير مباشر لحقوق الإجهاض في الجزيرة ذات الأغلبية الكاثوليكية، التي لم يسمح قانونها بالطلاق حتى 2011.

قالت صوفيا بالدي بيغي، المديرة الفنية للبينالي ومديرة الأمناء: "كانت هناك محاولة لتغيير صورة مالطا. لكن هنا يأتي دور الفنان، أن يحافظ على رسالته ورؤيته بقوة".

أعمال فنية متنوعة

مالطا نفسها لم تكن الموضوع الوحيد في الأعمال الفنية. كان أحدها للفنانة الكوبية تانيا بروغيرا قد نشأت فكرته في 2012 يتضمن علماً للاتحاد الأوروبي بارتفاع دورين معلَّق في منطقة كوتونيرا على الجزيرة.

جمعت بروغيرا حشداً من الحضور ليشاهدوا فنان غرافيتي يستخدم رذاذ طلاء ليرسم أسلاكاً شائكاً تفصل بين النجوم التي ترصع علم الاتحاد، ثم كتب: "معاملة المهاجرين بشكل سيئ اليوم ستكون عاراً علينا في الغد".

بروغيرا، التي تُعرض بعض أعمالها في متحف الفن الحديث في نيويورك، هي أشهر الفنانين المشاركين في البينالي على الأرجح. قالت فيما كان فنان الغرافيتي يشوه العلم: "الهجرة لا تفيد سوى الأغنياء. إن كنت تملك 600 ألف يورو، بإمكانك أن تشترى الجنسية المالطية وبالتالي الأوروبية، إذاً ما هي المشكلة الحقيقية؟ أهي المهاجرون، أم الطبقات المختلفة التي ينتمون إليها؟".

في زيارة خلال مارس، بدا مبنى "ميكاس" نصف مكتمل، إذ كانت الدعامات المصنوعة من الصلب قائمة ومعها الألواح الزجاجية المصقولة التي تشمل السقف. تبلغ ميزانية المشروع 35 مليون يورو، وهي نقطة في بحر بالنسبة لأغلب مشروعات المتاحف.

اقرأ أيضاً: قفزة فلكية في أسعار إبداعات سكان أميركا الأصليين الفنية

أوضحت إيديث ديفاني، مديرة "ميكاس" الفنية، أن المركز قادر على إبقاء التكاليف متواضعة من عدم التزام تشكيلة رئيسية دائمة، إذ سيضم عوضاً عن ذلك سلسلة معارض مؤقتة. قالت: "نحن نرى أنفسنا كمتحف لا يجمع القطع الفنية، مثل المتحف الجديد في نيويورك ومعارض سربنتين في لندن. يمنحنا ذلك قدراً كبيراً من الحرية".

بعبارة أخرى، يعتزم "ميكاس" أن يعرض الفن المعاصر لمالطا المعاصرة. قالت ديفاني: "حين يظهر ذلك على الخريطة كمكان ينبغي أن يزوره الجميع، سيغير ذلك نظرة الناس (إلى مالطا)، وذلك لأنها ليس مجرد مكان يضم معابد رائعة ومبانيَ جميلة على الطراز الباروكي ولوحتَين من كارافاجيو، بل هناك ذلك المعرض أيضاً".

عام كبير لمعارض البينالي

تُعد المعارض الفنية المؤقتة التي تُقام كل عامين، وتُعرف باسم بينالي، من ثوابت عالم الفن على المستوى العالمي. تهدف هذه المعارض لعرض أكثر الأعمال الفنية إثارة للاهتمام اليوم، وهي جديرة بزيارة أي شخص يرغب في استكشاف ما ستتجه إليه أعين العالم غداً.

[object Promise][object Promise]
اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك