خطر الانتظار هو أن أسعار الفائدة المرتفعة قد تضر باقتصاد نجح حتى الآن في تحدي توقعات التباطؤ

تلكؤ الاحتياطي الفيدرالي يزيد مصاعب الخروج من عنق الزجاجة

صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

قد يقول أغلب من يتابعون نهج الاحتياطي الفيدرالي إنه انتظر أطول مما ينبغي قبل أن يباشر رفع أسعار الفائدة حين ضرب التضخم الولايات المتحدة في 2021. ويبدو الآن أن المصرف المركزي الأميركي يتلكأ مجدداً فيما يتجه التضخم للاعتدال، ويماطل صناع السياسات في خفض أسعار الفائدة.

خطر الانتظار يتمثل في أن أسعار الفائدة المرتفعة قد تبدأ بالإضرار باقتصاد نجح حتى الآن في تفادي تباطؤ كبير توقعه جمهور الاقتصاديين.

إن الاحتياطي الفيدرالي حالياً في الفصل الأخير، الذي طال انتظاره، من حملته على تضخم سببته الجائحة، التي جعلت مقياس صناع السياسات المفضل يتسارع من 1.8% في فبراير 2021 إلى 5.6% في فبراير 2022، وكان ذلك أعلى مستوياته خلال أربعة عقود. تشير تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس" إلى أن بيانات مارس ستبين أن التضخم تراجع إلى 2.8% في فبراير 2024.

سيعني ذلك أن مستوى التضخم قد قطع أكثر من ثلاثة أرباع شوط التراجع عند مستوى قرب مستهدف المصرف المركزي البالغ 2% انطلاقاً من الذروة التي بلغها منذ عامين. رغم ذلك، فقد أجمع مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي خلال اجتماعهم في 19 و20 مارس على إبقاء سعر الفائدة الأساسي في نطاق 5.25 إلى 5.5% وهو ما كان عليه منذ الصيف الماضي.

سبب التأجيل

لِم التأجيل؟ أحد الأسباب هو أن تقارير التضخم الشهرية عن يناير وفبراير أظهرت أن وتيرة اعتداله كانت أبطأ من الأشهر الستة السابقة. لكن أحدث البيانات لا تفسر بالكامل سبب الإحجام عن خفض الفائدة. فقد أوضح رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في نهاية يناير، أي قبل صدور هذه التقارير، أن لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية التي تحدد السياسة النقدية، ستكون قد استبقت الأوان على الأرجح إذا ما باشرت بخفض الفائدة في مارس.

قال دايفيد ميريكل، كبير الاقتصاديين المتخصصين في شؤون الولايات المتحدة لدى "غولدمان ساكس" إن "أحد الأمور التي فاجأتني هي أن عدداً كبيراً من أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية بدا عليهم أنهم أكثر قلقاً بقليل مني بشأن تراجع التضخم خلال هذا الشوط الأخير". في ديسمبر، كان ميريكل من بين من توقعوا أن يبدأ خفض أسعار الفائدة في مارس، لكنه غير توقعاته منذئذ إلى يونيو.

اقرأ أيضاً: الاحتياطي الفيدرالي يبقي أسعار الفائدة دون تغيير للمرة الخامسة

إن الاحتياطي الفيدرالي ليس المصرف المركزي الوحيد الذي يتصرف بتحفظ، فقد أبقى بنك إنجلترا سعر الفائدة القياسي عند مستواه في 21 مارس، ويتوقع مستثمرون أن ينتظر حتى يونيو قبل أن يبدأ بخفضه، وهذا يتماشى مع التوقعات من البنك المركزي الأوروبي. رغم ذلك، فاجأ البنك المركزي السويسري المراقبين هذا الشهر بخفض أسعار الفائدة، وهو أول مصرف مسؤول عن واحدة من العملات العشر الأكثر تداولاً في العالم، يلجأ إلى اتخاذ هذه الخطوة منذ انحسار الجائحة.

قاعدة تايلور

ربما تكون أسهل وسيلة لتوضيح تلكؤ الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، وكذلك تأخره في رفعها، هي قاعدة "تايلور"، وهي معادلة نموذجية قياسية تحسب سعر الفائدة الملائم بناءً على مستويات معدلَي التضخم والبطالة.

وفقاً للحسابات المعتمدة على تلك القاعدة، توجب رفع أسعار الفائدة في مطلع 2021، حين بدأت وتيرة التضخم تتسارع، لكن الاحتياطي الفيدرالي انتظر عاماً كاملاً قبل أن يبدأ دورة التشديد. تمكن المصرف أخيراً من بلوغ سعر الفائدة الذي اقترحته القاعدة خلال آخر زيادة لأسعار الفائدة في يوليو 2023. منذ ذلك الحين، تشير القاعدة إلى أنه ينبغي خفضها إلى 4%، وذلك لأن ضغوط الأسعار تراجعت وسوق العمل تباطأت، لكن المصرف المركزي لم يتزحزح بعد عن موقفه.

اقرأ أيضاً: باول: أرقام التضخم في فبراير لم تغير توجه الاحتياطي الفيدرالي

في 2021، تبنى مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي تحولاً تاريخياً في طريقة تحديد حجم التوظيف المستهدف، وكان التصور أنه سيكون "عريضاً وشاملاً". جاء الإعلان بعد ثلاثة أشهر من وفاة جورج فلويد على يد رجال شرطة.

كان ذلك عملياً يعني أن صناع السياسات سيولون اهتماماً أكثر قليلاً بالتوظيف وأقل قليلاً بالتضخم حين يتخذون قرارات أسعار الفائدة في محاولة لجذب أعداد أكبر من الناس الذين كانوا تاريخياً قرب الدرجات الأدنى في السلم الوظيفي إلى سوق العمالة. كان ذلك التحول منطقياً آنذاك، خصوصاً أن ارتفاع التضخم كان يُرجّح أنه "عابر" حسبما اعتقدوا آنذاك.

مشهد مختلف

اختلفت خلفية المشهد بعد مرور ثلاث سنوات. كان تركيز المصرف المركزي البديهي منصباً على السيطرة على التضخم، حتى لو أتى ذلك على حساب التوظيف. لكن معدل البطالة ما يزال منخفضاً نسبياً رغم رفع الفائدة مرات عدة، وهذا كان مفاجأةً سارةً، فقد كان مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي يتوقعون ارتفاعاً كبيراً في مستويات البطالة في فترة ما بين 2022 و2023 كنتيجة للخطوات التي اتخذوها.

كتب راين سويت، كبير الاقتصاديين المتخصصين في شؤون الولايات المتحدة في "أوكسفورد إيكونوميكس" (Oxford Economics)، في تقرير نُشر في 15 مارس عن توصيات قاعدة "تايلور": "نعلم أن الاحتياطي الفيدرالي يلقي بثقله للتركيز على التضخم وليس على توظيف قوة العمل برمتها".

اقرأ أيضاً: الاحتياطي الفيدرالي سيخفف التشديد الكمي لكن هناك ما هو أهم

لكن سويت اكتشف أنه حتى تغيير المعادلة بحيث تتجاهل التوظيف لتركز عوضاً عن ذلك على التضخم فحسب، سيجعل الاحتياطي الفيدرالي متخلفاً عن المنحنى حين يتعلق الأمر بخفض أسعار الفائدة. كتب سويت: "لقواعد تايلور حدود، والاحتياطي الفيدرالي يستخدم الاستنساب في تحديد السياسة النقدية، لكنه يخاطر بالانتظار لفترة أطول مما ينبغي قبل خفض أسعار الفائدة ليضمن أنها محدودة الأثر على التضخم".

ثمّة احتمال آخر، وهو أن المصرف المركزي قد يُعدّل صعوداً ما يعتبره "معدل الفائدة المحايد". من شأن ذلك أن يدفع القاعدة لتحديد أسعار فائدة أعلى للمستوى ذاته من التضخم والبطالة. يتوقع بعض المحللين، ومنهم ميريكل، أن يحدث ذلك في مرحلة ما، نظراً لقوة الاقتصاد في وجه أسعار الفائدة الأعلى على مدى العام الماضي، رغم أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي سلكوا نهجاً محايداً في تناول ذلك، إذ تركوا تقديراتهم للمعدل المحايد من دون تغيير تقريباً منذ 2019.

قرار صعب

يدرك باول وأعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية صعوبة اتخاذ القرار، إذ قالوا إنهم يرغبون بالمضي قدماً في خفض أسعار الفائدة قبل فترة طويلة من عودة التضخم إلى مستوى 2%، وذلك لأنهم إن لم يتخذوا هذه الخطوة، فهم على الأرجح سيكونون قد انتظروا فترة أطول من اللازم. يبدو الاقتصاد قوياً حالياً، لكن ما تزال هناك تساؤلات حول ما إذا كنا قد أجلنا الصعوبات الناجمة عن أسعار الفائدة الأعلى ولم نتفاداها.

اقرأ أيضاً: باول: أرقام التضخم في فبراير لم تغير توجه الاحتياطي الفيدرالي

ثمّة إشارات مقلقة في قطاعات مثل أسواق العقارات التجارية وأسواق ديون المستهلكين وقد تكون نذيراً بمشاكل ربما تمتد تداعياتها في نهاية المطاف إلى الاقتصاد الأوسع. قال باول في 20 مارس: "المخاطر هنا ثنائية الجانب... إذا خفضنا أسعار الفائدة بأكثر مما ينبغي أو في وقت أقرب من اللازم، قد نشهد عودة التضخم. وإذا خفضناها في وقت متأخر أكثر مما ينبغي قد نشهد إضراراً غير لازماً بالتوظيف".

قبل صدور تقارير التضخم لشهر فبراير، كان الوضع يبدو وكأن الوقت قد نفد أمام صناع السياسات، إذ اعتقد بعض المتنبئين أن التضخم قد يعود إلى مستوى 2% بحلول مايو أو يونيو. لكن أحدث البيانات منحتهم فسحةً.

قالت آنا وونغ، كبيرة الاقتصاديين المتخصصين في شؤون الولايات المتحدة في "بلومبرغ إيكونوميكس"، إنه في تلك المرحلة، ينبغي للتضخم أن "يتراجع إلى 2.5% أو أقل بحلول يونيو"، مستوفياً معيار باول لخفض أسعار الفائدة "قبل وصول التضخم إلى مستوى 2% بفترة طويلة".

منطق ضعيف

يساهم ارتفاع معدل البطالة في فبراير إلى 3.9% أيضاً في إضعاف منطق إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة، نظراً لأن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يرون أن 4.1% مستوى ملائم لها على المدى الطويل.

اقرأ أيضاً: معدل البطالة في الولايات المتحدة يصل لأعلى مستوياته في عامين

إن ميريكل من "غولدمان ساكس" متفائل بشأن الآفاق الاقتصادية المستقبلية، إذ يتوقع عاماً آخر من نمو يفوق المتوسط في 2024. لكنه قال رغم ذلك إن احتمالات خفض أسعار الفائدة بأكثر من المتصور حالياً أعلى من احتمالات خفض الفائدة بقدر أقل نظراً "لمجموعة متنوعة من الظروف قد تؤدي لأن يخفضوا الفائدة بوتيرة أسرع" مثل حدوث صدمة مالية أو مخاوف حول النمو.

قال ميريكل: "نعتقد أن التضخم سيتراجع إلى ما يشابه الاتجاه الأهدأ الذي ساد قبل يناير. إن صحّ ذلك، أعتقد أن التساؤل الآتي سيظل قائماً: لماذا يستمر سعر الفائدة عند مستوى بلغناه حين كان التضخم أعلى ببضع نقاط مئوية رغم أنه تراجع الآن؟".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك