اجتمع كبار قادة شركة "أبل" في حلبة تجارب كانت تملكها شركة "كرايسلر" في مدينة ويتمان بولاية أريزونا في مطلع 2020 ليجربوا أحدث نماذج السيارة التي كانت عملاقة التقنية تحاول أن تصنعها منذ سنوات. وكان تصميمها على شكل حافلة صغيرة انسيابية الجوانب ولها سقف زجاجي بالكامل وأبواب جرارة وإطارات بيضاء، وهي تتسع لأربعة أشخاص برحابة. كانت مستوحاةً من حافلة "فولكس واجن" الصغيرة، التي راجت في ستينيات القرن الماضي.
كانت أوساط "أبل" تشير لهذا الطراز باسم "الرغيف"، إلا أن هذا الاسم لم يُذكر دائماً على سبيل التحبب. كان مزمعاً أن تُطرح السيارة في السوق في غضون خمس سنوات من ذلك التاريخ، وأن تكون بها شاشة تلفزيون ضخمة ونظام صوتي صدّاح ونوافذ تتغير شفافيتها تلقائياً. أمّا من الداخل، فكانت مقاعدها معدّة ليجلس ركابها متقابلين كما في الطائرات الخاصة، كما يمكنهم تحويل بعض المقاعد إلى وضعية الاستلقاء مع مساند للقدمين.
المستوى الخامس
الأهم من ذلك هو أن الشركة كانت ترغب بأن تكون السيارة ذاتية القيادة من المستوى الخامس، حسب المصطلحات المستخدمة في القطاع، أي أن تكون قادرة على القيادة الذاتية بالكامل انطلاقاً من نظام حاسوبي ثوري داخل السيارة ونظام تشغيل جديد وبرنامج سحابي من تطوير "أبل".
لم تكن هناك نية لتزويد السيارة بعجلة قيادة أو دواسات، بل كانت ستأتي بجهاز تحكم أشبه بما يُستخدم في ألعاب الفيديو، أو أن يأتي معها مع تطبيق "أيفون" مخصص للقيادة ببطء على سبيل الاحتياط. وفي حال وقعت السيارة في مأزق لم تستطع أن تتغلب عليه، يمكن للركاب الاتصال بمركز في "أبل" ليطلبوا منه قيادتها عن بعد.
ذلك اليوم في صحراء أريزونا، جلس رئيس "أبل" التنفيذي تيم كوك ومدير عملياتها جيف ويليامز وكبار مسؤولي فريق التصميم في "أبل" داخل نموذج تجريبي من السيارة فيما راحت تقود نفسها ذاتياً على حلبة الاختبار. أُعجب المسؤولون بما شاهدوه، لكن المشهد لم يكتمل، فقد أوضح رئيس المشروع دوغ فيلد أنه ما يزال يتوجب فعل الكثير قبل أن يصبح نموذج القيادة الذاتية جاهزاً للعالم الحقيقي.
اقترح فيلد الذي انضم إلى "أبل" من "تسلا" ليشرف على المشروع تخفيض أهداف القيادة الذاتية إلى المستوى الثالث الذي يتطلب وجود سائق جاهز لتولي القيادة مباشرة عند الحاجة، بدل أن يكون جالساً في مقعد بعكس اتجاه السيارة يشاهد التلفزيون أو يتحدث عبر تطبيق "فايس تايم"، إلا أن مديريه أصرّوا على التزامهم بالمستوى الخامس.
اقرأ أيضاً: وداعاً سيارة "أبل"..لن نعرف أبداً ما فاتنا
مليار دولار سنوياً
غادر فيلد "أبل" في العام التالي ليقود جهود تطوير المركبات الكهربائية وهندسة البرمجيات في شركة "فورد موتور". إلا أن تصميم السيارة استمر في التطور تحت قيادة خليفته، كيفن لينش، الذي يقود أيضاً قسم برمجيات الساعة الذكية في "أبل".
تحت إدارته صارت السيارة أشبه بكبسولة بجوانب زجاجية منحنية وأبوابها تفتح إلى أعلى وتشبه جناحَيْ نورس، كما درست الشركة تزويدها بمزلق يُفتح تلقائياً لتسهيل تحميل الأغراض الثقيلة. صُمّمت مقدمة السيارة لتكون متطابقة الشكل مع مؤخرها، فيما تأتي النوافذ على الجانبين فقط، وهو تصميم قد تكون له تبعات بالغة الخطورة في حال اضطر إنسان للقيادة. (أضيفت النوافذ في المقدمة والخلفية لاحقاً). وقد أطلق بعض العاملين في المشروع اسم "أي–بيم" (I-Beam) على السيارة.
إلا أن سيارة "أي–بيم" مثل غيرها من تصاميم سيارات "أبل" لم تبلغ مرحلة الإنتاج. والآن يبدو أنها لن تصل إلى هذه المرحلة أبداً.
في 27 فبراير، أبلغت الشركة موظفيها أنها تخلت عن مشروع صناعة السيارات. صحيح أن القرار أتى بغتةً لكنه لم يكن مفاجئاً. فعلى امتداد العقد الماضي، عملت الشركة على خمسة مشاريع كبرى على الأقل، واجتازت أنظمتها ذاتية القيادة أكثر من مليون ميل ووظفت مهندسين ومصممين ثمّ سرحتهم، كما درست إبرام شراكات أو القيام بعمليات استحواذ مع كلّ من "تسلا" و"مرسيدس بنز" و"بي أم دابليو" و"فولكس واجن" و"ماكلارين" وغيرها من شركات السيارات.
بلغت تكلفة مشروع السيارة ما معدله مليار دولار سنوياً (أي ما يوازي تقريباً خمس ميزانية "أبل" للبحوث والتطوير قبل عقد)، يضاف إليها تكاليف بملايين الدولارات سنوياً للفرق الخارجية التي تطور الرقائق والكاميرات المزودة بأجهزة استشعار والخدمات السحابية والبرامج الإلكترونية.
لكن "أبل" لم تشارف قط على تحقيق رؤيتها الأصلية، ولا ما تلاها من رؤى، حتى أنها لم تصل إلى اختبار نماذج كاملة لسياراتها على الطرقات العامة، ويعزى ذلك بجزء منه إلى صعوبات تقنية كبرى تعتري أهداف القيادة الذاتية التي حددتها الشركة لنفسها، بالإضافة إلى صعوبات اقتصادية في صناعة السيارات. كما فشل كبار مسؤولي الشركة في تحديد مخطط ثابت والالتزام به.
منتج جديد ضخم
قال رايلي برينان، الشريك في الصندوق الرأسمالي "تراكس في سي" (Trucks VC) المتخصص بتقنيات النقل: "هناك العديد من الطرق التي يمكن أن تسلكها إن توفر لديك كثير من الناس بالغي الذكاء وميزانية ضخمة، ولكن (أبل) لم تتمكن قط من اتخاذ قرارات محددة لقيادة المشروع في اتجاه محدد".
تستند هذه المقالة إلى مقابلات مع عدة أشخاص كانوا على صلة بمشروع تطوير سيارة "أبل" خلال العقد الماضي، طلب جميعهم تقريباً عدم كشف أسمائهم بسبب خصوصية العمل.
أفاد أحد المديرين التنفيذيين المخضرمين في "أبل" الذين عملوا على السيارة بأنه لطالما نُظر إلى المشروع داخل الشركة على أنه منتج سيء يجب التخلص منه. وقال: "المشكلة الأساسية كانت في سوء القيادة التي سمحت بالمماطلة في البرنامج فيما كان الآخرون في (أبل) قد نفروا منه". لدى عند الطلب من أحد كبار المسؤولين الإداريين الذين شاركوا في التصميم الداخلي للمركبة تحديد الخطأ الذي حصل، كان جوابه: "ما الذي كان صائباً أصلاً؟".
يحاكي ما حصل واقع تطوير المنتجات في "أبل" اليوم. فالشركة البالغة قيمتها 2.6 تريليون دولار صاحبة تاريخ حافل بالرهانات الطموحة الضخمة، وبإحداث تحولات في قطاعات مترسخة منذ زمن. إلا أنه مرّ وقت طويل منذ أن قامت بأي من ذلك. بلغ عمر جهاز "أيفون" 17 سنة، وقد تراجعت مبيعاته في العام الماضي. أما ساعة "أبل" وسماعات "إيربود" المدرّة للأرباح، فهي تدور عموماً في فلك "أيفون"، وما يزال مبكراً الحكم على جهاز "فيجن برو"، وفيما تبحث الشركة عن منتجها الضخم التالي، لا يبدو أنها تعرف كيف ستجده.
كان ستيف جوبز أول من اقترح فكرة صنع سيارة من "أبل". ففي نهاية العقد الأول من الألفية، صرّح المؤسس الشريك لـ"أبل" ورئيسها التنفيذي حينئذ للموظفين أن على الشركة أن تنتج تقنيات مهيمنة في كافة الأماكن التي يقضي فيها الناس وقتهم، سواء في المنزل أو في العمل أو خلال النقل.
بالنسبة لأغلب الأميركيين، التنقل يعني طرق السيارات التي يمضون عليها ما يصل أحياناً إلى عدّة ساعات في اليوم. يستذكر توني فاديل الذي شغل منصب نائب مدير قسم "أيبود" في عهد جوبز قائلاً: "كنّا نتحدث عما ستكون عليه نسخة هذا الجيل من سيارة (بيتل) من (فولكس واجن)". حتى أن رئيس "أبل" اقترح الاستحواذ على "جنرال موتورز" مقابل سعر زهيد عقب أزمة 2008 المالية، التي دفعت عدة شركات سيارات أميركية إلى شفير الهاوية.
اقرأ أيضاً: "أبل" تتخلى عن حلم السيارة الكهربائية وتركز على الذكاء الاصطناعي
فكرة الاستحواذ على "تسلا"
إلا أن الشركة تخلت عن الفكرة سريعاً خشية أن ينعكس ذلك سلباً على صورتها، وأيضاً لأنها كانت بحاجة للتركيز على "أيفون". لكن بحلول 2014، عاد كوك مجدداً للتركيز على السيارات في إطار بحثه عن مصدر إيرادات جديد بمئات المليارات من الدولارات.
كان المديرون التنفيذيون في "أبل" الذين يقيّمون جدوى دخول السوق يتمازحون قائلين إنهم يفضلون مواجهة ديترويت على مواجهة عملاق تقنية آخر، وسألوا: "هل تفضلون المنافسة ضد (سامسونغ) أو (جنرال موتورز)"؟ على الرغم من أن هامش الربح في قطاع السيارات أدنى بكثير منه في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية، كانت "أبل" حينها في مرحلة زهو بعد أن أحدثت تحولات في قطاع الموسيقى والهواتف.
على حد وصف أحد المديرين التنفيذيين في الشركة، رأى مؤيدو اقتحام قطاع المركبات أن ذلك سيقدم مثالاً آخر "على دخول (أبل) متأخرة جداً إلى سوق ما ثم تهيمن عليها". وفيما كانت النماذج الأولية تعمل كسيارة تقليدية، سعى داعمو المشروع إلى تصاميم راديكالية أكثر، متحدثين عن تقنية في مجال النقل "تعيد للناس الوقت الذي يُسلب منهم". لقد طمحوا لصنع غرفة جلوس على عجلات، حيث يمكن للناس الذين ما عادوا مضطرين لقيادة السيارة أن يجلسوا ليعملوا أو يرفهوا عن أنفسهم باستخدام شاشات "أبل" وخدماتها.
لكن قبل أن تبدأ "أبل" برسم تصاميمها، درست إمكانية الاستحواذ على "تسلا"، فحينها لم يكن نجاح شركة السيارات الكهربائية مضموناً بعد، ولم تتجاوز قيمتها 30 مليار دولار، أي واحد على عشرين من قيمتها الحالية.
عقد أدريان بيريكا، رئيس قسم تطوير الشركات في "أبل" عدة اجتماعات مع إيلون ماسك، إلا أن كوك الذي كان قد خلف جوبز قبل ثلاث سنوات وضع حداً للمفاوضات في بداياتها. وقد اعتبر المدير المالي في "أبل" لوكا مايستري الذي كان يشغل سابقاً المدير المالي لـ"جنرال موتورز" في أوروبا، أن هوامش الربح المنخفضة في قطاع السيارات ليس بأمر تستطيع الشركة أن تتخطاه بسهولة.
برغم التخلي عن فكرة الاستحواذ على "تسلا"، إلا أن "أبل" بقيت متمسكة بطموحها في مجال السيارات. فقد تلقى الرئيس الجديد لقسم الأجهزة في الشركة دان ريشيو الضوء الأخضر ليبدأ بجمع فريق هندسي ليصنع السيارة، ووظّف مئات المهندسين الذين استقطبهم من قطاع صناعة السيارات ليعملوا على ما عُرف لاحقاً بمشروع "تايتان" (Project Titan). وقد أطلق على الفريق الذي عمل على بناء السيارة تسمية "مجموعة المشاريع الخاصة".
تمكن ريشيو من استقطاب عشرات المهندسين الذين كانوا يعملون على مشاريع أخرى برغم صعوبة العثور على مهندسين متفرغين في الشركة، إذ كان جلّ الاهتمام منصباً على الاستعداد لطرح ساعة "أبل" و"أيفون إكس".
تصاميم مختلفة
قبل بدء العمل، اصطحب مقدم البرامج جاي لينو الفريق في جولة في مرآب سياراته، وأعطاهم درساً مقتضباً عن تاريخ السيارات. في ذلك الوقت، كان ريشيو غالباً ما يختتم لقاءاته مع الموظفين العاملين على المشروع بعبارة "هيا يا شباب نبني السيارة".
بدأت النزاعات الداخلية في الشركة على الفور تقريباً. فقد ظلّ المدير المالي متشككاً بشأن جدوى المشروع، وكذلك كبير مهندسي البرمجيات في "أبل" كريغ فيديريغي الذي اضطرّ للتنازل عن بعض أفراد طاقمه لصالح مشروع يعتبره بلا جدوى.
أمّا جون أيفي، مسؤول التصميم في "أبل" حينئذ فكانت مشاعره مختلطة، فقد كان مؤيداً للسيارات ذاتية القيادة، وفي الوقت نفسه كان يشكك في حكمة مثل هذا المسعى. وقد عارض بعض هواة السيارات ضمن الفريق القيادي في "أبل"، بينهم مديرو التسويق في الشركة بناء منتج لا يبدو كسيارة ولا يعطي شعور السيارة. وارتأى رئيس قسم الخدمات إيدي كيو أن العمل على تحسين سيارات "تسلا" أفضل من ابتكار فئة جديدة تماماً من المركبات.
نشأت خلافات مشابهة داخل مشروع "تايتان". فكان تصوّر ستيف زاديسكي، المهندس السابق لدى "فورد" والمدير التنفيذي في قسم "أيفون" والمسؤول عن معظم العمل على السيارة، يقضي بأن تبدأ الشركة بالعمل على تطوير خصائص قيادة ذاتية محدودة قابلة للتحسين لاحقاً.
إلا أن آخرين في الشركة تمسكوا ببلوغ المستوى الخامس سريعاً. قال في حينها بيريكا، مسؤول الدمج والاستحواذ في الشركة الذي كان قد دفع باتجاه شراء "تسلا"، لفريق السيارات في "أبل" إن على الشركة أن تبني "أول طائر" وليس "آخر ديناصور". وعندما بدأت "أبل" بالتوظيف في 2015، كان هدفها طرح منتج في السوق بحلول 2020.
نشأ شكل الحافلة الصغيرة تحت قيادة أيفي، وهو يأتي مع تصميم داخلي مغطى بالفولاذ المقاوم للصدأ والخشب والقماش الأبيض. رغب أيفي بطرح السيارة باللون الأبيض فقط وبتصميم موحّد يجعل من يراها يتعرف عليها فورياً كما كان الحال مع "أيبود" الأصلي الذي صمّمه.
ناقش الفريق في إحدى المراحل تصميماً يميل للتقليدي ويشبه السيارات رباعية الدفع. وأصبحت المنشأة السرية التابعة للفريق في سونيفال في كاليفورنيا مكتظة بنماذج أولية ونماذج محاكاة، لدرجة أن أحد العاملين السابقين في المبنى قال إنها "كانت تشبه دخول عالم ديزني، كانت مكاناً مليئاً بالألعاب".
اقرأ أيضاً: "أبل" لديها ثلاثة خيارات لاقتحام عالم صناعة السيارات .. فما هي؟
درس الفريق أفكاراً متنوعة للتصميم الداخلي للسيارة، من بينها تثبيت شاشتَي لمس معلقتين بحوامل من السقف من أجل التحكم بالسيارة على جانبَي مقصورتها. كما صُممت ميكروفونات خاصة توضع خارج السيارة لتمكين الركاب من سماع الأصوات الخارجية، أي ما يسمعه ركاب السيارات العادية بمجرد أن يفتحوا النافذة. قال مدير تنفيذي لدى "أبل" كان مطّلعاً على التغييرات المتكررة: "كانوا يضيفون خصائص جنونية مختلفة للسيارة، ثم يدركون أنها أفكار سيئة فيتراجعون عنها، ويستوجب ذلك العمل مجدداً على تصميم آخر للمقصورة".
مساعي لإقامة شراكات
ظلّت "أبل" تدرس احتمال إقامة شراكات أخرى على امتداد معظم فترة تطوير السيارة. فبعد سنوات من رفض كوك شراء "تسلا"، التقى ريشيو وزاديسكي بماسك مجدداً لدراسة سبل التعاون في ما بينهم، بما يتضمّن احتمال إنتاج "تسلا" بطاريات لصالح سيارة "أبل"، إلا أن هذا المسعى لم يتحقق.
كان ماسك، الذي رفض التعليق لإعداد هذا التقرير، قد وصف علناً في السابق شركة "أبل" بأنها "مقبرة (تسلا)" لأن فيها كثيراً من المهندسين الذين فصلهم من شركته. لكن بعد بضع سنوات، حاول استئناف المحادثات مع كوك حين واجهت "تسلا" صعوبات في بناء "النموذج 3"، وقال ماسك إن رئيس "أبل" التنفيذي رفض مقابلته.
بلغت المحادثات مع "مرسيدس بنز" مراحل أبعد قليلاً. فقد عملت "أبل" بجهد لعدة أشهر مع الشركة الألمانية على شراكة مشابهة لتلك التي كانت تخطط لعقدها مع "تسلا" ولكن مع بعض التعديلات. فقد استندت الفكرة على أن تصنع "مرسيدس" مركبة "أبل"، فيما تبيع سيارات تحت علامتها مزودة بتقنيات القيادة الذاتية وواجهة المستخدم المطوّرة من "أبل". لكن "أبل" انسحبت من المشروع لأن تجاربها الأولية أعطتها الثقة بأنها ستستطيع أن تبني السيارة وحدها، حسب ما أفاد به أشخاص شاركوا في الاتفاق المتعثر.
أجرت "أبل" في مراحل لاحقة محادثات استطلاعية للاستحواذ على شركات سيارات غير "تسلا"، إلا أنها لم تقترب من تحقيق اتفاق إلا مع شركة "ماكلارين". فقد رأى بعض مديري "أبل" التنفيذيين أن الاستحواذ على شركة السيارات البريطانية، التي تصنع بضع مئات السيارات يدوياً كلّ سنة وتبيعها لكبار الأثرياء، سيثير حماسة جون أيفي بعدما خفف انخراطه في الشركة تزامناً مع طرح ساعة "أبل"، وربما يجذبه إليها مجدداً. كان من شأن هذه الصفقة قبل أن تنهار أن تمنح أيفي استوديو تصميم جديد في لندن.
تباحثت "أبل" أيضاً مع "بي أم دابليو" ثمّ كانت هناك محادثات في وقت بعيد عن ذلك مع "كانو" (Canoo)، الشركة الناشئة في مجال المركبات الكهربائية ذات الشكل المستوحى من منتجات "أبل"، لكن لم تفض أي من هذه المحادثات إلى نتائج إيجابية.
لم تكن "أبل" قد أحرزت تقدماً يذكر بحلول 2016، وبدأت الكفة تميل في الشركة لصالح مؤيدي التخفيف من طموحاتها في مجال السيارات. وبعدما أبدى مجلس الإدارة وكبار المسؤولين التنفيذيين شكوكاً في جدوى البرنامج، وراحوا يطرحون أسئلة محددة حول التكاليف، بدأ الحديث حول احتمال إلغاء المشروع. لكن ريشيو أقنع بوب مانسفيلد الذي يتمتع بسمعة أسطورية في الشركة لقيادته تطوير جهازَي "ماكبوك" و"أيباد" الأصليين بالعودة من شبه تقاعد من أجل تحريك الأمور.
التركيز على القيادة الذاتية بدل السيارة
كان مانسفيلد أحد المشككين بجدوى مشروع السيارات في "أبل"، ورأى أن مهمته هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع. وبعد أشهر من التقييم، قرر التركيز على نظام القيادة الذاتية أكثر من السيارة نفسها. فقد رأى أن "أبل" يمكن أن تستفيد من برمجيات القيادة الذاتية في نواح أخرى، حتى لو لم تتوصل الشركة قط إلى صنع سيارة.
رأى مديرون تنفيذيون آخرون، على رأسهم بيريكا أن ذلك قد يمكّن "أبل" من ترخيص مثل هذا النظام من الذكاء الاصطناعي لتستخدمه شركات سيارات أخرى من دون أن تلوّث أيديها في قطاع السيارات. وخلال 18 شهراً بين عامَي 2016 ومنتصف 2018، سرّحت "أبل" حوالي 120 موظفاً، وهو جزء لا بأس به من عدد العاملين على مشروع السيارات، بحسب أشخاص مطّلعين على خفض عدد الموظفين.
قبل أن يقنع مانسفيلد المدير التنفيذي السابق في "تسلا" فيلد بأن يحلّ مكانه، كان قد توصل إلى اتفاق مع كوك حول التوجه المؤقت الذي يتعين أن تسلكه جهود القيادة الذاتية، بحيث تقوم على صنع مركبة ذاتية القيادة بالتعاون مع " فولكس واجن" لنقل موظفي "أبل" من وإلى مقرّها الجديد في كوبرتينو في كاليفورنيا.
إلا أن هذا المشروع لم يبصر النور هو الآخر، فقد اعتبره فيلد تشتيتاً للانتباه فأوقفه، كما أوقف في نهاية المطاف عمل "أبل" على صناعة البطاريات وغيرها من المكونات التي كان يرى أنه بإمكان الشركة شراؤها جاهزة.
ظلّت القيادة الذاتية الكاملة محطّ الاهتمام في عهد فيلد فيما بدأ يتضح شيئاً فشيئاً أنها صعبة المنال. سعى العرض في أريزونا الذي استغرق تسعة أشهر من التحضير لتقديم مثال عمّا ستبدو عليه السيارة. أجرى الفريق تعديلات على برمجيات النموذج الأولي كي تسير المركبة عند المنعطفات والمنحنيات بسرعة أبطأ من المعتاد، حرصاً على عدم تعريض كوك لأي خطر. قال أحد المشاركين في إعداد العرض إنه "كان محضراً مسبقاً ومنفذاً جيداً... كانت الغاية أن نُري تيم أننا إذا بنينا المنتج، هذا ما سيبدو عليه بالنسبة للعميل". (اشترت "أبل" حلبة التجارب في أريزونا بعد سنة من تقديم العرض).
خصص الفريق كثيراً من الوقت للعمل على أنظمة التحكم الاحتياطية في السيارة، بما يمكّن السائق من إخراجها من المآزق التي قد تقع بها على الطرقات، مثلاً عند المرور في موقع بناء معقد. وبدا البديل المتطور لعجلة القيادة أشبه بجهاز التحكم في لعبة "أكس بوكس". وقال أحد المشاركين في العمل على تطوير السيارة: "وجب أن تكون السيارة ذاتية القيادة بالكامل أو أن تعمل بعجلة قيادة ودواسات"، مشيراً إلى أن الشركة عملت على تلطيف المشكلة بدل حلّ المسألة الصعبة بحد ذاتها.
طرق مسدودة
واجهت "أبل" طرقاً مسدودة عدّة خلال المشروع. فقد بدأت بالتخطيط لبناء مجمّع واسع للبحوث الهندسية في وادي السليكون من أجل تصميم السيارات، ولكنها لم تباشر ذلك قطّ. وقد التقى مسؤولون من "أبل" و"فورد" أكثر من مرة لمناقشة اقتراح من عملاقة صناعة السيارات الأميركية يقضي بأن تبيع "أبل" سيارات من علامة "لينكولن" التجارية التابعة لـ"فورد" وهي سيارات عادية غير مثيرة موجودة بوفرة في أساطيل سيارات الإيجار، كي تستخدمها "أبل" في اختبارات أنظمة القيادة الذاتية، ولكن هذه المحادثات لم تتخط مرحلة الاجتماع الأولي.
كان تردد كوك حيال المشروع يزعج فيلد ومانسفيلد وغيرهما من أعضاء الفريق، وقال أحد المشاركين عن قرب في المشروع: "لو حُددت لبوب ودوغ مجموعة منطقية من الأهداف، لتمكنا من صنع سيارة... حين كانا يطلبان القيام بالخطوة التالية، غالباً ما كان تيم يجيب: اجلبوا مزيداً من البيانات ودعوني أفكر بالأمر". بدا صعباً الحفاظ على المواهب في مثل هذه الأجواء، فكان المهندسون الذين توظفهم "أبل" يكوّنون قناعة أن المشروع لن يتقدم، فيباشرون البحث عن وظائف في أماكن أخرى.
بعد تقاعد مانسفيلد، حاولت الشركة تغيير القيادة مجدداً لتعزيز نظام القيادة الذاتية. فكلفت مدير العمليات ويليامز ومسؤول تعلم الآلة في "أبل" جون غياناندريا بالإشراف على فيلد والمشروع. إلا أن فيلد غادر في العام التالي في سبتمبر 2021.
العودة إلى نقطة الصفر
لم تصل "أبل" تحت قيادة لينش إلى نموذج صالح للقيادة على الطرقات. مع ذلك، بدت تقنية القيادة الذاتية ضمن أسطول الشركة من سيارات "لكزس" متعددة الأغراض المصممة وفقاً لمواصفات تحت الطلب، واعدة بما يكفي لدرجة وضع خطط لتوسيع استخدامها نحو مدن جديدة بحلول نهاية 2024، بحسب أشخاص مطلعين على الخطة.
لطالما استندت الفكرة إلى بيع نظام القيادة الذاتية كخدمة اشتراك، كما تفعل "تسلا" مع خاصية مساعد السائق. ويمكن لمزيد من الإضافات مثل بثّ موسيقى "أبل" أو "أبل تي في بلس" في المركبة أن يساعد في التعويض عن هوامش الربح المنخفضة لقطع السيارة (بحسب بعض التقديرات الداخلية، تبلغ تكلفة صناعة السيارة 120 ألف دولار، وهو مبلغ أكبر بكثير من سعر 85 ألف دولار الذي كانت تريد الشركة تحديده لبيعها).
أجرت "أبل" في العام الماضي تجربتها الأخيرة، فقد عدّلت التصاميم لتنتقل من المستوى الخامس إلى المستوى الثاني، وهو المستوى الحالي للسائق الآلي من "تسلا" القادر على التحكم بالسرعة وتوجيه عجلة القيادة، ولكنه يعتبر تقنية مساعدة للسائق ولا يحلّ مكانه. بالتناغم مع ذاك، يتضمّن التصميم الجديد أيضاً واجهة سيارة تقليدية تستند إلى دواسات وعجلة قيادة. وقال مدير تنفيذي في "أبل": "بدأوا أخيراً يفكرون بعقلانية، ولسان حالي أنه كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك قبل 10 سنوات".
انتهى الأمر بالشركة بالعودة إلى نقطة انطلاقها قبل عقد، مع منتج لا يختلف كثيراً عمّا كان مطروحاً في السوق حينها ونظام قيادة ذاتية بسيط يخلو من الإبهار. قال مدير تنفيذي في "أبل" ممن شاركوا في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسيارة، إن "كيفن لينش شخص منطقي، وحاول أن يقدم رؤية عملانية". ولدى سؤاله عن الأمر، أجاب بوضوح أن القيادة الذاتية الكاملة لن تتحقق قبل عقد، ويبدو أنه تمكن أخيراً من إقناع قيادة "أبل" أن المشكلة تكمن على هذا الصعيد، وليس لها حلّ يعوّل عليه بتكلفة معقولة في المستقبل القريب.
إنهاء المشروع
درس أعضاء فريق السيارات في "أبل" في الآونة الأخيرة سبل إنتاج الشركة للسيارة الأقل تقدماً، وناقشوا احتمال التعاون مع شركة "ماغنا انترناشونال" (Magna International) التي تبني نماذج سيارات لصالح شركات مثل "جاغوار" و"بي أم دابليو" و"مرسيدس"، إلا أن التردد السائد على مستوى القيادة تسرب إلى المستويات الأدنى، ما أثر سلباً على الروح المعنوية.
رفضت "أبل" التعليق لإعداد هذا التقرير، وكذلك رفضت كلّ من "بي أم دابليو" و"فورد" و"ماكلارين" و"فولكس واجن". ولم يستجب المسؤولون السابقون في "أبل" الذين وردت أسماؤهم في المقالة لطلب التعليق، كما لم تستجب أي من "كونو" و"مرسيدس".
في مطلع 2024، بدأ كوك، الذي يُعرف عنه اتخاذ قرارات إجماعية، التفكير جدياً بالتخلي عن المشروع. وقال أحد المطلعين على المسألة: "حينها بدأ أعضاء في قيادة (تايتان) يبحثون عن وظائف سواء في شركات أخرى أو ضمن (أبل)". وبدأ من يعملون على مجموعات نقل الحركة وغيرها من المنتجات الهندسية المرتبطة بالسيارات بالمغادرة.
في مساء الاثنين 26 فبراير، تلقى حوالي ألفَي موظف ضمن مجموعة المشاريع الخاصة في "أبل" ممّن يعملون على صنع السيارة، رسالة إلكترونية تدعوهم لاجتماع عام في العاشرة من صباح اليوم التالي.
في صباح الثلاثاء، اجتمع الموظفون في غرف اجتماعات ومكاتب مبنى "أبل" في سليكون فالي حيث أُبلغوا أن مشروع "تايتان" سيبدأ إغلاقه على الفور. كان لينش وويليامز من أعلنا الخبر عبر اتصال فيديو دون أن يفسرا سبب القرار.
استغرق الاجتماع نحو 12 دقيقة، شكر خلالها الرجلان الموظفين على عملهم، وانتقلا للحديث فوراً عن إعادة الهيكلة والتسريح من العمل. أبلغ الموظفون أن بعضاً منهم سينتقل فوراً إلى قسم الذكاء الاصطناعي، فيما سينتقل آخرون إلى قسم هندسة البرمجيات، إلا أن جزءاً من الفريق أصبح بلا عمل.
أمكن لمهندسي الأجهزة التقدم لوظائف في فرق أخرى ضمن الشركة، ولكن لا توجد شواغر للجميع. تلقى موظفون آخرون مثل مئات المهندسين المختصين بالسيارات وفنيي المسارات التجريبية والمختصين باختبار السيارات ذاتية القيادة وخبراء سلامة القيادة، رسائل إلكترونية تتضمن حزم تعويضات نهاية الخدمة. أمّا بخصوص الحلبة في أريزونا، فقد باشرت "أبل" السعي لبيعها.