أُتيح لعمال أحد مستودعات شركة "أمازون" في سياتل أن يشاهدوا لمحةً عما قد يكون عليه مستقبل العمل، وذلك من خلال روبوت شبيه بالبشر طوله نحو 175 سنتمتراً، له مشية الطيور وعيناه بيضاويتان لامعتان. يحمل هذا الروبوت اسم "ديجيت" وقد صُمّم ليؤدي مهمة واحدة بسيطة هي رفع مستوعبات صفراء فارغة عن الرفوف ونقلها نحو نظام مناولة يبعد بضعة أمتار، ويعود ليكرر فعله ذلك مرةً تلو أخرى.
ما يزال هذا الروبوت في مرحلة الاختبار، ولن يحدث على الأرجح تحولاً في قطاع اللوجستيات في القريب العاجل، مع ذلك يُشكّل خطوة تقنية كبرى لشركة "أجيليتي روبوتيكس" (Agility Robotics) ويضعها في مقدمة مساعي إنتاج آلات قادرة على العمل إلى جانب العمّال البشر. وفيما تنسج بعض شركات الروبوتات أحلاماً مستقبلية، متخيلة آلاتها تمهّد لعصر من الوفرة، أو تساعد على استيطان كواكب جديدة، فإن طموحات "أجيليتي،" التي تتخذ من مدينة تانغيت بولاية أوراغون مقراً لها، واقعية أكثر، إذ تسعى لإنتاج 10000 روبوت في السنة وتشغيلها في مستودعات ومخازن حول العالم.
شركة ناشئة تبتكر روبوتاً قد يهدد وظائف عمال المستودعات
استثمار في الروبوت
أسهمت التقنيات التي يستند إليها "ديجيت"، مثل المحركات والبطاريات التي تزداد قوةً فيما تنخفض أسعارها والإبصار الحاسوبي والذكاء الاصطناعي، في إطلاق طفرة استثمارية في مجال الروبوتات الشبيهة بالبشر. وقد جمعت الشركات الناشئة الناشطة في هذا القطاع الجديد رأس مال استثمارياً بقيمة 1.6 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية، حسب بيانات شركة "بيتش بوك" (PitchBook).
لدى شركة "بوسطن ديناميكس" (Boston Dynamics) المعروفة بكلب آلي يدعى "سبوت" وله أربع أقدام، نموذجاً آخر لروبوت يسير على قدمين ويمكنه أن يتشقلب إلى الخلف، في حين تعمل شركات منها "تسلا" وأخرى ناشئة مثل "1 أكس تكنولوجيز" (1X Technologies) و"أبترونيك" (Apptronik) على تطوير روبوتات مصممة لمحاكاة البشر.
في فبراير، أعلنت شركة "فيغور أيه أي" (Figure AI) الناشئة لصناعة الروبوتات الشبيهة بالبشر أنها تلقت دعماً من جيف بيزوس و"مايكروسوفت" و"نفيديا" وأسماء كبرى أخرى في مجال التقنية ضمن جولة تمويل استثماري بنحو 675 مليون دولار.
إلا أن "أجيليتي" تتميز عن نظيراتها على صعيد واحد أساسي، وهو أن روبوتاتها الشبيهة بالبشر بدأ استخدامها فعلاً في مجال العمل، ولو كان ذلك تجريبياً. كما استفادت الشركة من تعيين مديرين تنفيذيين سبق أن عملوا على صنع أجهزة "أيباد" وفي صناعة السيارات وإلكترونيات الطائرات العسكرية كما في شركات ناشئة في مجال الروبوتات، فأحدثت "أجيليتي" تحوّلاً في صفوف المتخصصين الذين كانوا في السابق يركزون على الأبحاث دون أن يعيروا اهتماماً كافياً للخبرة التجارية العملية. وفي 4 مارس، عيّنت الشركة بيغي جونسون التي سبق أن شغلت مناصب عليا في "مايكروسوفت" و"كوالكوم" (Qualcomm) و"ماجيك ليب" (Magic Leap) رئيسة تنفيذية لها.
"أمازون" تختبر "روبوتات بشرية" للعمل بمستودعاتها
حتمية انتاج روبوت شبيه بالبشر
اقتنعت "أمازون" بـ"أجيليتي" بما يكفي لتستحوذ على حصة فيها عام 2022، وكان هذا جزءاً من مبلغ 180 مليون دولار جمعته الشركة الناشئة حتى اليوم. وربما تشتري عملاقة التجزئة "أجيليتي" في المستقبل، كما سبق أن اشترت "كيفا سيستمز" (Kiva Systems)، الشركة الرائدة في صناعة الروبوتات الخفيضة المدولبة التي أحدثت ثورة في قطاع اللوجستيات قبل عقد.
قال أدريان ستوش، رئيس الأتمتة في شركة "جي أكس أو لوجستيكس" (GXO Logistics) التي اختبرت "ديجيت" في أحد مستودعاتها في مدينة فلاوري برانش في جورجيا: "الروبوت الشبيه بالبشر يكاد يكون حتمياً حسبما أتخيل من معرفتي بهذه التقنية". وقد تحدث بإعجاب عن المرونة التي يمكن أن يتمتع بها "ديجيت"، متخيلاً روبوتات في المستقبل تفرّغ حمولات الشاحنات ليلاً لتجهّز الصناديق قبل وصول العمال ليباشروا المناوبة الصباحية، ثمّ تنتقل الآلات للقيام بمهام أخرى.
أعادت "أمازون" قبل نحو عقد تصميم مستودعاتها لتتناسب مع روبوتات "كيفا"، وهي ترى اليوم أن الروبوتات التي تسير على قدمين، ستستطيع القيام بأدوار في الجوانب الأقل أتمتة ضمن منشآتها. وقالت إيميلي فيتيريك التي تدير اختبارات "ديجيت" في "أمازون" إن الروبوت الشبيه بالبشر "لا يحتاج إلى نفس المساحة ونفس التسييج ونفس البنية التحتية" التي تتطلبها روبوتات "كيفا".
تُنسب روحية "أجيليتي" القائمة على تحقيق المنفعة إلى جوناثان هيرست، المؤسس الشريك لبرنامج الروبوتات في جامعة أوريغون. فقد أمضى سنوات في دراسة حركة الروبوتات ذات القدمين، لدرجة أنه اختبر مرة روبوتاً قافزاً أحادي القدم اسمه "ثَمبر". وفي عام 2015، أسس هيرست مع ميخكائيل جونز، أحد طلابه اللامعين، ومع صديقه من الجامعة داميون شيلتون شركة "أجيليتي" لتسويق نتاج أبحاثهم تجارياً.
رأس وعينان رقميتان
تمكنت الشركة من صنع منتجها الأول بفضل منحة من وكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة التابعة للبنتاغون، وكان روبوتاً قوامه وركان وساقان تنحنيان إلى الخلف، يمكن تشبيهه بالحيوانات التي تمشي على أصابع أطرافها مثل الطيور أو القطط، وأطلقت الشركة على الروبوت اسم "كاسي" إيماءاً للاسم الإنجليزي لطائر الشبنم الذي لا يستطيع أن يحلّق.
جاء بعده "ديجيت" الذي له ذراعان بسيطان وجذع، وهو مزوّد بحزمة بطاريات ووحدة معالجة.
كانت شركة "فورد موتور" أول عميل يختبر "ديجيت" في إطار برنامج تجريبي لحافلات ذاتية القيادة داخلها روبوتات لتوصيل الطرود. إلا أن المشروع تعثر حين اتضح أن المركبات ذاتية القيادة بالكامل ما تزال بعيدة جداً عن الواقع. فإذا كان لا بدّ من سائق لقيادة الحافلة، فلن تحتاج لروبوت.
وقال شيلتون، الرئيس التنفيذي المؤسس لـ"أجيليتي" الذي سيكون رئيساً في الشركة بعد تولي جونسون دوره كرئيس تنفيذي: "ضيقنا فهمنا للمجالات التي ستُباشرها الروبوتات الشبيهة بالبشر في البداية". ويعني هذا على وجه التحديد المهام المتعلقة بالمستودعات ونقل البضائع، وهي سوق تستطيع "أجيليتي" أن تثبت فيها فعالية تقنيتها وأن تحسنها، قبل أن تتوسع نحو قطاعات جديدة. حتى أن هيرست توقع أن يتجاوز حجم قطاع الروبوتات الشبيهة بالبشر حجم صناعة السيارات.
بدل اليدين، زُوّد "ديجيت" بطرفين شبيهين بمجذافين، وبالتالي لا يستطيع أن يحمل الصناديق إلا حين يستخدم كلا طرفيه. لطالما حيرت محاكاة براعة الأيدي البشرية ودقتها المهندسين (واجهت ذراع روبوتية متطورة أعلنت عنها "أمازون" عام 2022 صعوبة في التعامل مع أكثر من ثلث البضائع في مستودعات الشركة). وقد تمكنت "أجيليتي" حتى الآن من تجنّب هذه المشكلة من خلال اعتمادها على تقنية أذرع تشبه الملزمة. فيما كان هذا الروبوت لسنوات دون رأس، أضاف له المهندسون اليوم رأساً كبيراً بعينين رقميتين تمكنان زملاءه البشر من إدراك وجهة حركته.
حقبة جديدة للروبوت "ديجيت"
ما يزال دور "ديجيت" يقتصر على المرحلة الأخيرة من العمليات في مستودعات "أمازون" حيث يشبه العمل هناك طريقة عمل خطوط التجميع، فمهمة الروبوت هي حمل السلال الفارغة وإعادتها للتداول. تسعى"أجيليتي" في نهاية المطاف ليعمل الروبوت في وظائف جديدة، مثل إفراغ الشاحنات وفرز البضاعة وغيرها من المهام المشابهة. وعلى حدّ تعبير كبير مهندسي "أجيليتي" ونائب الرئيس لشؤون الابتكار براس فيلاغابودي السؤال هو: "ما هي حالات الاستخدام التي تُفضي إلى اعتماد مئات وآلاف الروبوتات في المرافق؟".
أمّا الخطوة التالية فتتعلق ببدء تشغيل معمل في مدينة سيلم في أوريغون يقع في حديقة صناعية كانت في السابق مزرعة ألبان يشغّلها سجناء سابقون. وتتوقع "أجيليتي" إتمام خط الإنتاج الأول في الربع الثاني من العام. وستعمل على بناء وحدات اختبار وتطويرها على مدى عدة أشهر، ثم ترسل الدفعة الأولى من الروبوتات التجريبية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام إلى عملاء قد تكون منهم "أمازون" و"جي أكس أو" وشركات أخرى ستعلن عنها "أجيليتي" لاحقاً.
وقالت كبيرة مسؤولي العمليات أيندريا كامبل التي تعمل في مجال التصنيع منذ 25 عاماً، تخللتها فترات لدى "أبل" و"فورد"، إن "أجيليتي" ستنتج على الأرجح " عشرات إلى بضع مئات" من الوحدات خلال الأشهر الـ12 التالية. لكن زيادة العدد إلى 10 آلاف في السنة سيحتاج إلى مزيد من الوقت. قالت جونسون، الرئيسة التنفيذية العتيدة، إن الشركة الناشئة ستضطر للتطور مع دخولها حقبة جديدة، وأضافت: "توجد كثير من الحواجز التي لا بدّ من تجاوزها من أجل إيصال الروبوت إلى منشآت أو مصانع العملاء بسلاسة، وسيكون ذلك بمثابة مرحلة انتقالية للشركة".
تأجير الروبوتات
ما يزال أمام "ديجيت" طريق طويل قبل أن يصبح قادراً على منافسة العمّال البشر. في أداء تجريبي أمام الصحافيين العام الماضي، استغرق "ديجيت" وقتاً أطول للاستدارة حاملاً حقيبة من الوقت الذي استغرقه عامل "أمازون" لحمل الحقيبة ووضعها على جهاز المناولة والعودة لجلب حقيبة أخرى.
ونظراً لمحدودية أمد البطارية، لا يمكن أن يعمل "ديجيت" إلا لبضع ساعات متواصلة قبل أن يتطلب إعادة شحنه. وقد حاولت "أمازون" استخدام الروبوتات ضمن نظام مناوبة، حيث يعمل بعضها فيما يُشحن بعضها الآخر (في وضعية رقود، أشبه بروبوت يمارس اليوغا). كما أن واجهة استخدام الروبوتات ما تزال مصممة ليتعامل معها باحثون ومطورو البرمجبات، ولا تناسب إلا الشركات التي لديها خبرة تقنية عميقة.
قال دوايت كلابيش، نائب رئيس شركة "غارتنير" (Gartner) البحثية التي تتابع التقنيات في مجال اللوجستيات إن سنوات ستمرّ قبل أن نتمكن من استئجار روبوتات من متجر مثل "هوم ديبو". أضاف: "أعتقد أن الاستخدامات ستبقى محدودة نوعاً ما في المستقبل القريب... نحن نبحث عن الأماكن التي يمكن أن تعمل فيها الروبوتات".
لدى ستوش، المسؤول التنفيذي في "جي أكس أو"، حيث يُختبر "ديجيت" في جورجيا، قائمة أمنيات مثل أن يكون للروبوت يدان ليمسك بالأشياء وبرنامجاً إلكترونياً يمكّنه من اتخاذ مزيد من القرارات السريعة. قال إن الشركة تخطط لدمج الروبوتات الشبيهة بالبشر، سواء تلك المصنوعة من "أجيليتي" أو شركات أخرى ضمن عملياتها على أساس دائم.
أتمتة المهام الخطرة
يوضح ستوتش أن الشركة لم تواجه حتى الآن ردة فعل سلبية من عمّال يخشون أن تحلّ روبوتات مكانهم، ويعود ذلك بجزء منه إلى محدودية قدرات "ديجيت". مع ذلك، تعلمت "أجيليتي" أن تلتزم الحذر حين تُدخل "ديجيت" إلى مكان عمل جديد. في إحدى التجارب مثلاً، ألبست شركة لوجستيات الروبوتات سترات عاكسة واقية. وقال هيرست، مسؤول قسم الروبوت في "أجيليتي" في بودكاست تحت عنوان "الروبوتات بالنسبة للآخرين" (Robots for the Rest of Us): "كردة فعل أولية، شعر الأشخاص وكأن الروبوت مساو لهم، كأنه زميل أو إنسان.. كان يرتدي معدات السلامة نفسها ويبدو مثلهم، ولم يستسيغوا ذلك". لم تفصح "أجيليتي" عن اسم الشركة المعنية.
من جهتهم، يشدّد الشراة المحتملون للروبوتات على أنهم يسعون إلى أتمتة المهام الخطرة والتكرارية التي لا يحبّذها البشر. كما يراهنون على أن تغييراً طرأ على السردية المتعلقة بأتمتة العمل منذ جائحة كورونا، فبدل الخوف من أن تحلّ الروبوتات مكان البشر، يسود القلق اليوم حيال وجود ملايين الوظائف الشاغرة.
بالنسبة لـ"أمازون" التي تتعرض لانتقادات من الهيئات الناظمة بسبب ارتفاع الإصابات بين عمال مستودعاتها، يمكن أن تحل الروبوتات البشرية مكان العمّال في نقاط الاختناق الأخطر. وكانت الهيئة المسؤولة عن السلامة في ولاية واشنطن، التي غرمت "أمازون" على خلفية انتهاكات في عدد من المستودعات، وجدت أن العمّال الذين ينقلون البضاعة من وإلى نظام المناولة، وهي الوظيفة التي يشغلها "ديجيت" حالياً، هم من أكثر العمال عرضة للإصابات في منشآتها. وقالت "أمازون" التي قدمت طعناً بالغرامات إنها تعمل على تحسين إجراءات السلامة.
إصابات عمال مخازن "أمازون" تضعها تحت مجهر المنظمين
روبوتات أقدر على التكيف
من جهتها، قالت غيتيريك، المسؤولة في "أمازون" إن الموظفين العاديين في الشركة ينتابهم الفضول حيال "ديجيت"، لكنها رفضت الكشف عن انطباعهم الأولي حياله. في غضون ذلك، تعمل "أمازون" على تصميم محاكاة من الواقع الافتراضي لاختبار كيف يمكن أن يتفاعل "ديجيت" مع الموظفين البشر، وكيف سيتعامل العمّال مع زملائهم الإلكترونيين.
كذلك، تدعم الشركة دراسة يجريها معهد ماساتشوستس للتقنية حول تأثير الأتمتة على الوظائف. ولم تكشف "أمازون" عن الوقت الذي سيبدأ فيه اختبار "ديجيت" أو غيره من الروبوتات الشبيهة بالبشر على مستوى أوسع.
في غضون ذلك، تعمل "أجيليتي" على صنع روبوتات أقدر على التكيف، وإطالة أمد بطارياتها وجعل الروبوتات أكثر مرونة. كما تجري تعديلات شاملة على برنامجها الإلكتروني الخاص بالأوامر والتحكم لتسهيل استخدامه.
لقد عرض مهندسون كيف يمكن للتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي أن تساعد "ديجيت" على ترجمة الأوامر التي يتلقاها باللغة الطبيعية إلى أفعال روبوتية، كما تخطط "أجيليتي" لأن تقدم في معرض متخصص باللوجستيات يقام لاحقاً هذا الشهر معدّات جديدة مصمّمة لتمكين "ديجيت" من إمساك أنواع مختلفة من المستوعبات.
وقال هيرست في بودكاست: "قطاع اللوجستيات ما هو إلا سوق أولية.. بمرور الوقت، سيأتي دخول سوق التجزئة وصف البضائع على الرفوف والمنشآت الطبية واللوجستيات في المستشفيات والمجالات الأقرب إلى الناس".