أعلنت شركة "أوبر" أول ربح سنوي في تاريخها في 7 فبراير، وكان هذا إنجازاً مهماً لشركة طلب وسائل النقل وتوصيل الطعام التي تتخذ في سان فرانسيسكو مقراً. إذ إن الشركة الناشئة، التي اشتهرت فيما مضى بإهدار الأموال لتنمو بأي ثمن، لم تنجح بتحقيق أرباح قوية فحسب؛ بل انضمت أخيراً إلى مؤشر "ستاندرد أند بورز 500". كما وافق مجلس إدارتها في 14 فبراير على خطة لرد ما يصل إلى 7 مليارات دولار إلى حملة الأسهم.
بعبارة أخرى، يبدو أن طفلة وادي السيليكون المدللة نضجت، وفيما يلي نظرة على تدرج الشركة خلال أبرز العصور في طريقها الوعرة نحو الربحية:
النمو بأي ثمن
تأسست "أوبر تكنولوجيز" في 2009، وسطع نجمها في عصرٍ تدفق فيه رأس المال الجريء بسخاء مع استحكام انخفاض أسعار الفائدة. أنفقت الشركة، تحت قيادة مؤسسها المشارك ترافيس كالانيك، الذي أصبح رئيسها التنفيذي لاحقاً، أموالاً طائلة في سعيها لتحفيز الوصل بين سائقي السيارات السوداء الفخمة والزبائن عبر تطبيق خدمة طلب السيارات. جعل هذا خدمة سيارات الأجرة أيسر كثيراً، لاسيما مع إمكانية طلبها بضغطة زر عبر الهاتف تكفي ليحصل المرء على وسيلة انتقال غير مشتركة خلال دقائق.
قال إميل مايكل، رئيس اعمال "أوبر" في بداية نشاطها، إن الشركة ضمنت حصول السائقين على ما لا يقل 500 دولار عند اتمام أول 10 رحلات وذلك لترفع حجم نشاطها، كما عرضت رصيداً مجانياً قدره 20 دولاراً للزبائن إن استخدم أصدقاؤهم التطبيق بناءً على توصيتهم. أضاف مايكل: "لقد كلفنا ذلك كثيراً من المال.. لم يكن أي ممن دخل السوق يحاول أن يحقق أرباحاً، بل كنا نحاول أن نكسب حصة سوقية وأن نعود الركاب على أن يتمكنوا من الحصول على وسيلة تنقل في غضون 10 دقائق أو أقل في أي مدينة بشكل موثوق".
لعبت أوبر أيضاً لعبة القط والفأر مع الهيئات التنظيمية المحلية، فتجنبت القوانين المحلية التي تنظم عمل سيارات الأجرة. كما أغضبت الشركة المسؤولين المحليين بمناورات مثل تجنب السلطات من خلال تقديم نسخة مزيفة من تطبيقها لمفتشين ومسؤولين لمنعهم من عمليات الضبط المفاجئة التي قد توقع بالسائقين المتعاملين معها.
ولم تكترث "أوبر" لكون هذا النهج الجريء يجعل لها أعداءً طالما أنه يساهم أيضاً في تأمين مركز سوقي ونمو قويين، حيث استقطبت الشركة الركاب من سوق سيارات الأجرة وكذلك من وسائل النقل العام.
بحلول 2016، أي بعد سبع سنوات من تأسيسها، قُدرت قيمة الشركة بنحو 69 مليار دولار بإجمالي 45 مليون مستخدم نشط شهرياً. بينما كان لدى شركة "ليفت" (Lyft)، أبرز منافسيها، 6.6 مليون مستخدم بعد أربع سنوات من إنشائها.
دشنت "أوبر"، بالإضافة إلى عملها الأساسي، قطاعاً طموحاً لتطوير المركبات ذاتية القيادة، وأنفقت الكثير لتأمين مكانتها في سوق طلب وسائل التنقل من الدراجات النارية والسكوتر. غير أن الجمع بين كثير من الأنشطة التي تسجل خسائر لم يكن وصفةً إداريةً ناجحةً لتحقيق الأرباح في المدى القريب، فقد تزايدت خسائر الشركة الناشئة لتبلغ 7.87 مليار دولار بحلول 2018.
عثرة اليونيكورن
لم تقف مشاكل "أوبر" المتعلقة بالصورة العامة السلبية عند حدود المسؤولين المحليين، إذ أثارت سلسلة فضائح إعلامية حول ثقافة العمل السامة في الشركة وسلوك كالانيك الشخصي والتحقيقات التنظيمية المتزايدة حول ممارساتها التجارية قلقاً بين أعضاء مجلس الإدارة والمستثمرين بشأن المخاطر القانونية التي تشكلها الشخصية المجابهة للرئيس التنفيذي. أدت هذه العوامل مجتمعة إلى عزله في 2017 واستبداله برئيس مجموعة "إكسبيديا" التنفيذي السابق دارا خسروشاهي لإصلاح الشركة.
كانت قيادة خسروشاهي للشركة انسلاخاً واضحاً عن عصر كالانيك، فقد كانت نبرته تصالحية عندما قدم نفسه في إعلان بعنوان "المضي قدماً"، وذلك في إطار حملة عالمية بتكلفة 500 مليون دولار لتحسين صورة الشركة. كما كان تعيين نيلسون تشاي، المسؤول المصرفي ذو الخبرة الواسعة، كرئيس مالي في 2018 بمثابة تحول للشركة لتصبح أكثر انضباطاً بشأن التكاليف، ما وضعها على المسار الصحيح لتصبح شركة مساهمة ذات ميزانية جيدة.
قال تشاي: " عندما انضم دارا خسروشاهي إلى الشركة، كان لديه الكثير لإصلاحه.. عندما التحقت بالشركة، كان خسروشاهي فعلاً بحاجة (شخص آخر أكثر مسؤولية) حسب تعبيره، ليساعده في إصلاح الشركة. فلم تكن الشركة تعمل كشركة مساهمة أو كما ينبغي أن تفعل. وبصراحة، كان من الواضح أن القطاع المالي بأسره واجه تحديات كبيرة".
تمكنت "أوبر" من جمع 8.1 مليار دولار من خلال الطرح العام الأولي ببورصة نيويورك في 2019، بعدما وضع تشاي ومدير الحسابات الجديد، غلين سيريموني، الضوابط والإجراءات اللازمة لتشغيل شركة مساهمة.
مع ذلك، كان المستثمرون متشككين بشأن مسار نمو الشركة وقطاع خدمات نقل الركاب عموماً، فانخفض سهم "أوبر" بواقع 7.6% في أول أيام تداوله في البورصة، فكان بذلك أسوأ اكتتاب في الولايات المتحدة على مدى عقد وسط اضطراب سوق الأوراق المالية.
فرصة مواتية
لقد كانت حقبة "كوفيد-19" حاسمة ومفصلية في تاريخ "أوبر". قال تشاي إن الشركة اضطُرت لأن تقيم أولويات استثماراتها عندما دمر الوباء عملها الأساسي في مجال طلب السيارات، فتخلصت من نشاطها الخاسر في مجال الدراجات النارية والسكوتر الذي استحوذت عليه في 2018، فضلاً عن تصفية قسم المركبات ذاتية القيادة، الذي توقف عن اختبار هذه المركبات بعدما صدمت إحداها امرأة في ولاية أريزونا وأودت بحياتها.
كما غادرت "أوبر" بعض الأسواق الخارجية، واستغنت عن 20% من عامليها. لكنها حافظت على عدد موظفيها دون تغيير ملحوظ مذ ذاك.
كما كثفت "أوبر" استثماراتها في مجال توصيل الطعام والبقالة، ما سمح لها بالاستفادة من الإغلاقات بسبب الوباء. فاستحوذت على تطبيق توصيل الطعام "بوستميتس" (Postmates)، وشركة توصيل المشروبات الكحولية "دريزلي" (Drizly)، وشركة توصيل البقالة الأميركية اللاتينية "كورنرشوب" (Cornershop).
تعني هذه الصفقات في أسواق جديدة أن "أوبر" تكبدت مزيداً من الخسائر قبل أن تتمكن من تحويل قطاع التوصيل إلى قطاع مربح. لكنها خفضت الوظائف لاحقاً في الشركات التي استحوذت عليها ودمجت علاماتها التجارية في تطبيقها الرئيسي، وكان ذلك مؤشراً على ضبط التكاليف المتزايدة.
كما أنفقت "أوبر" على الخصومات والحوافز لجذب المستخدمين والسائقين مجدداً إلى المنصة مع انحسار الوباء، ما تسبب بخسارتها أكثر من 30 مليار دولار بحلول 2022. مع ذلك، انجذب المستثمرون إلى الفوائد المحتملة لتوسع "أوبر". تمكنت الشركة من كسب مستخدمين وسائقين بأكثر من أي وقت مضى، وبدأت تنفق أقل لجذب مستخدمين جدد مقارنةً بما قدمته من خصومات كبيرة في بدايتها. كما استفادت "أوبر" بشكل غير مباشر من ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية، فتقلصت المنافسة بسبب صعوبة عثور المنافسين المحتملين على استثمارات.
التحديات المستقبلية
ما تزال "أوبر" وغيرها من شركات اقتصاد العمل الحر في مرمى القانون، إذ يطالب السائقون بزيادة مدفوعاتهم وبمزايا أفضل. أنفقت الصناعة ملايين الدولارات لتمرير تشريع في 2020 في كاليفورنيا يبقي على تصنيف السائقين كمقاولين مستقلين وليس كموظفي دوام كامل، الأمر الذي من شأنه أن يُحدث زيادة تكاليف كبيرة.
لكن السائقين والجماعات العمالية استمروا بإبداء قلقهم بشأن نموذج التسعير الغامض الذي تعتمده "أوبر"، والذي يحدد حصة الشركة من كل رحلة. انخفض الدخل الشهري للسائقين وعمال التوصيل في "أوبر" خلال 2023 17% مقارنةً مع العام السابق، وفقاً لتحليل بيانات 500 ألف سائق عبر "غريدوايز" (Gridwise)، وهو تطبيق يستخدمه السائقون لتتبع أرباحهم. يجادل بعض المحللين بأن "أوبر" حققت معظم أرباحها من تقليل مدفوعات السائقين.
من جانبها، تؤكد "أوبر" أن النسبة الإجمالية التي تحصل عليها من رحلات السائقين ظلت ثابتة إلى حد كبير، وقالت إن متوسط دخل سائقيها في الولايات المتحدة انخفض 5.7% خلال الربع الرابع من 2023 ليصل إلى 33 دولاراً في ساعة الاستخدام مقارنة مع 35 دولاراً في 2022، مع تراجع الحوافز، لكنها تؤكد في الوقت ذاته أن دخل السائقين ارتفع 30% تقريباً على مدى السنوات الست الماضية. لا يأخذ مقياس الدخل سالف الذكر في الاعتبار الوقت الذي يمضيه السائقون في الانتظار بين عمليات التوصيل المختلفة ولا المصاريف التي يتحملونها مثل البنزين وصيانة السيارة.
مررت "أوبر" ومنافسوها في الأسواق، التي دخلت فيها القوانين المتعلقة بحقوق العمال حيز التنفيذ، الزيادة في التكلفة إلى عملائها. على سبيل المثال، أضافت "أوبر" رسوماً بقيمة دولارين على جميع طلبات التوصيل بعدما فرضت مدينة نيويورك حداً أدنى لأجور عمال التوصيل. ثم عدلت الشركة تطبيقها لتأجيل خيار الإكرامية إلى ما بعد الدفع لتخفيف صدمة الرسوم الجديدة على المستهلكين، فانخفضت الإكراميات التي يتلقاها العمال بشكل كبير، حتى مع ارتفاع إجمالي أجورهم لتلبية المعيار الجديد. كما أدخلت نظام جدولة للحد من عدد السائقين الذين يمكنهم العمل على توصيل المنتجات في وقت معين، وكان مؤدى ذلك كبح للتكاليف.
بشكل عام، يبدو أن الزبائن على استعداد لدفع زيادات في تكلفة خدمات "أوبر". وحتى مع المخاطر التنظيمية المستمرة، فإن هيمنة "أوبر" تضع ضغوطاً على المسؤولين للتعامل إيجابياً مع الشركة. قال علي مغربي، أحد كبار محللي الأسهم لدى شركة "مورنينغستار" للخدمات المالية، والذي يتابع مسيرة "أوبر" منذ 2019: "تُبين هيمنة (أوبر) لعديد من الجهات التنظيمية أن هذا هو ما يفضله المستهلك... في نهاية المطاف، يضع المنظمون ذلك في اعتباراتهم".