ظهرت الحفاضات التي ترمى بعد استعمالها في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية حين اتجهت أعداد كبيرة من النسوة للعمل، ولم يعد وقتهن يتيح غسل تلك القماشية. سرعان ما أصبحت هذه الحفاضات الصغيرة الموفرة للجهد مادةً استهلاكية رئيسية، وكانت لعقود مصدراً موثوقاً لنمو بعض كبرى شركات الاستهلاكيات. لكن الحال تحول، فقد اعترى الركود معدل الإنجاب في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، وأثّر على آفاق قطاع تبلغ عوائده السنوية 5.9 مليار دولار، ولطالما اعتبر ذلك إيراداً سنوياً ثابتاً.
يعتبر تراجع الولادات حديثاً في أميركا مشكلة غير مسبوقة بالنسبة لشركتين تحتكران الصناعة: "بروكتر آند غامبل"، التي تصنع حفاضات "بامبرز" (Pampers) و"لافز" (Luvs)، و"كيمبرلي-كلارك"، صانعة حفاضات "هاغيز" (Huggies). ما زاد الطين بلّة، أن التضخم الزائد في منتجات رعاية الأطفال منذ الجائحة يدفع بعض الأسر لخفض مشترياتها من الحفاضات. تشير بيانات من شركة "سيركانا" (Circana) لأبحاث المستهلكين، إلى أن سعر التجزئة لرزمة الحفاضات ارتفع 35% في 2023 من مستوياته في 2019.
تتعامل الأسر مع هذا الوضع بالتحول إلى خيار الحفاضات التي يمكن غسلها، وإلى تدريب الأطفال المبكر على استخدام المرحاض، بل هناك من اتجهوا للتقليل من تغيير حفاضات الأطفال. تدفع هذه التغيرات الشركات لتجربة كل الأساليب المختلفة لتعزيز مبيعاتها، ومن ذلك تطوير حفاضات للأطفال الأكبر سناً، وإقناع الأهل بأن يسمحوا لأطفالهم باستخدام الحفاضات الليلية لفترة أطول من طفولتهم.
تنامي القلق
قال نيك مودي، وهو محلل لدى "آر بي سي كابيتال ماركتس" (RBC Capital Markets): "لا أعتقد أننا شهدنا من قبل وضعاً تتراجع فيه معدلات المواليد فيما كنا نعيش هذا المستوى من التضخم". وأضاف: "كانت زيادات الأسعار كبيرة لدرجة أننا بتنا في منطقة مجهولة".
اقرأ أيضاً: توقعات بتباطؤ التضخم الأميركي مع تراجع أسعار الخدمات
هناك ضرورة لإلقاء نظرة على معدل الخصوبة المتراجع في أميركا، لإدراك سبب قلق الشركات التي تركز على منتجات الأطفال. فمعدل الخصوبة هو عدد المواليد سنوياً لكل ألف امرأة بين 15 و44 عاماً. وصل ذلك المعدل إلى ذروته في الخمسينيات خلال طفرة المواليد، عند نحو 120. لكنه تراجع إلى أقل من 60 بحلول 2020.
لسنوات، كان ما يزال بإمكان شركات المنتجات الاستهلاكية أن تعتمد على الأميركيات من غير البيض والأمهات المهاجرات لتعديل تباينات الطلب. لكن مواليد تلك الفئات تراجعت أيضاً حديثاً. على سبيل المثال كان معدل خصوبة النسوة لاتينيات الأصول المولودات خارج الولايات المتحدة في 1990 نحو 150، أي قرابة ضعفي معدل الخصوبة على مستوى البلاد. لكن بحلول 2019، تراجع معدل خصوبة هذه الفئة إلى نحو 85، وفقاً لتحليل من مكتب تعداد الولايات المتحدة.
ومعدل المواليد المتراجع في أميركا ليس الشيء الوحيد الذي يستوقف مصنّعي الحفاضات وغيرها من منتجات الأطفال. فالنساء في الولايات المتحدة ينجبن في سنٍ أكبر أيضاً.
يعتبر المجتمع طبعاً أحد أوجه ذلك الاتجاه مفيداً على نحو خاص، إذ تراجع إنجاب المراهقات (في الفئة العمرية بين 15 و19 عاماً) بنسبة 73% من 1990 وحتى 2019. لكن مواليد النساء الأميركيات بين 20 و24 عاماً تراجعت 43% خلال الفترة ذاتها، فيما شهد المعدل ارتفاعاً نسبته 132% للنساء بين 40 و44 عاماً.
قد يمثل هذا التحول نحو تأخير الإنجاب مشكلة للشركات التي اعتمدت تقليدياً على الأهل لتوليد جولات عدة من الطلب على المنتجات، مثل الحفاضات وحليب الأطفال الصناعي والألعاب والأحذية الرياضية، عند إنجاب مزيد من الأطفال، وهو ما تتخلى عنه كثير من الأسر اليوم.
الحصص السوقية
قالت برايسي هانا، العضوة المنتدبة والشريكة في "برايس هانا كوسلتانتس" (Price Hanna Consultants) التي تقدم المشورة للشركات في ما يخص منتجات العناية الشخصية والمنتجات غير المنسوجة: "لن أعوّل على أن معدلات المواليد ستغيّر اتجاهها فجأة، لأن هذه باتت من حقائق الثقافة".
من جهته اعتبر غاري ستيبل، الرئيس التنفيذي لـ"نيو إنغلاند كونسلتينغ غروب" (New England Consulting Group)، أن هذا التحول الثقافي له تداعيات تطال ما هو أبعد بكثير من الحفاضات، مشيراً لإنفاق الأسر على منتجات الأطفال.
وأضاف ستيبل: "حين ينجب الأميركيون مزيداً من الأبناء، يكون هنالك ما يكفي الجميع. حين تبدأ السوق بالتراجع، تحدث حرب على الحصص السوقية، ويصبح السبيل الوحيد للاستفادة هو أخذ حصة غيرك. التداعيات هائلة. ما كان يسهل الحصول عليه يوماً، بات الآن موضع حرب على الحصص".
اقرأ أيضاً: أزمة حليب الأطفال تُلحِق بالعائلات الأميركية خسائر اقتصادية
يتوقع ستيبل أن تتأثر الفئات الأخرى بالتحول في التركيبة السكانية. وقال: "حليب الأطفال الصناعي هو الأوضح، لكن قريباً سنرى ذلك يطال ملابس الأطفال والرضع. إن كان هنالك عدد أقل من الأطفال، فستقل الحاجة لمستلزمات رعاية الأطفال".
لقد انخفضت مبيعات الحفاضات بالتجزئة 1% العام الماضي، وهذا تراجع للعام الرابع على التوالي رغم تضخم أسعار المنتجات، وفقاً لـ"سيركانا".
دافع للابتكار
اعتبر جيم روبينسون، مدير "أبزوربنت هايجين إنسايتس" (Absorbent Hygiene Insights) والمستشار في صناعة الحفاضات أن القطاع "يواجه مشكلة في تراجع معدل المواليد الذي لفت انتباه الجميع. إنه سيؤثر على النمو المستقبلي".
يُعد ذلك احتمالاً مقلقاً لشركتي "بروكتر آند غامبل" و"كيمبرلي-كلارك"، اللتين تسيطران معاً على أكثر من نصف سوق الحفاضات في الولايات المتحدة. وبلغت مبيعات "بروكتر آند غامبل" السنوية من حفاضات "بامبرز" أكثر من سبعة مليارات دولار على مستوى العالم، أي نحو 9% من مبيعات الشركة. لكن حجم منتجات رعاية الأطفال الرضع المباعة تراجع في الربع الرابع وسط ارتفاع الأسعار. تمثل الفئة أيضاً مصدراً كبيراً لمبيعات "كيمبرلي-كلارك"، التي تجني نحو سبعة مليارات دولار، أي أكثر من ثلث إيراداتها، من منتجات رعاية الرضع والأطفال.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تخطئ التعامل مع ارتفاع تكلفة رعاية الأطفال
تضيف "بروكتل آند غامبل" خصائص جديدة للحفاضات، وتقول إنه حتى الأهل المقتصدين قد يقدّرونها. قالت الشركة إنها تمكنت من توسيع نطاق مبيعاتها من خط "بامبرز سوادلرز" (Pampers Swaddlers) في أميركا الشمالية من 700 مليون دولار قبل خمس سنوات إلى ما يفوق مليار دولار حالياً، وذلك جزئياً بفضل تصميم حفاضات بابتكارات مثل انحسار الحافة عند البطن لحماية الحبل السرّي وسرة حديثي الولادة، وأيضاً ما تسميه الحاجز المتمدد، وهو يشبه جيباً معكوس الاتجاه على خصر الحفاضة من الخلف ليحول دون كوابيس التسربات عند الظهر، وقد طرحتهما الشركة العام الماضي.
تنويع المنتجات
كما أن عملاقة المنتجات الاستهلاكية تنتج حفاضات للأطفال الأكبر سناً. وقد طرحت "بامبرز" العام الماضي حفاضة للأطفال من وزن 21 كيلوغراماً أو أكثر. قالت هانا: "تعكف شركات تصنيع الحفاضات على إيجاد طرق لإطالة الفترة التي يستهلك فيها الزبائن منتجاتها، مثل السراويل الليلية لصغار الأطفال وحتى للأطفال الأكبر سناً. لقد ساعد هذا الأمر بعض الشيء".
كما أن القطاع يجد أفقاً أرحب في سوق حفاضات البالغين فيما يكبر سن مواليد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. إن المنتجات المخصصة لسلس البول بين البالغين مهيأة لأن تظل بين أسرع فئات منتجات العناية الشخصية نمواً خلال السنوات المقبلة، وفقاً لديانا غوميز، المحللة لدى "بلومبرغ إنتليجنس".
اقرأ أيضاً: عدد المواليد في أمريكا يرتفع مجدداً بعد تجاوز أسوأ مراحل أزمة كوفيد
لكن رغم أن أحجام مبيعات التجزئة لمنتجات سلس البول بين البالغين نمت خلال السنوات الثلاث الماضية، فهي ما تزال دون نصف حجم سوق حفاضات الأطفال، وفقاً لبيانات "سيركانا". لذا ركزت الشركات بشكل مكثف على المنتجات الجديدة للأطفال.
أوضح أندريه شولتن، المدير المالي لـ"بروكتر آند غامبل"، أن الشركة تحاول على سبيل المثال أن تبيع مزيداً من حفاضات التدريب والسراويل الداخلية المخصصة للأطفال الذين يتبولون أثناء النوم حتى سن 12 عاماً. وقال: "حين تفكر بمن يبللون الفراش، أي الأطفال الذين يواجهون صعوبات في ألا يتبولوا في الفراش ليلاً، فنحن نتعامل مع حاجة استهلاكية لم تُلبَّ بعد".
دعم النشاط
قال شولتن إن دفع القائمين على رعاية الأطفال لاستخدام مزيد من المناديل المبللة وسيلة أخرى لتدعم الشركة نشاطها في مجال منتجات الأطفال. بيّن أن "بروكتر آند غامبل"، التي تبيع حالياً مناديل مبللة لاستخدامات شتى وليس فقط لتنظيف الأطفال، وتشمل تنظيف الوجه وأسطح المطابخ، تسعى لأن توسس نظاماً مع الأهل، وقال: "مع كل تغيير حفاضة، لا يقتصر الأمر على الحفاضة، بل يشمل المناديل المبللة".
اقرأ أيضاً: الإنفاق الاستهلاكي الأساسي الأميركي يسجل أقل ارتفاع منذ 2020
في تلك الأثناء، تراهن "كيمبرلي-كلارك" المنافسة على أن مناديل الترطيب الجديدة للأطفال التي طرحتها، والأنواع المتعددة من الحفاضات الخالية من العطور، ستجذب الآباء الذين يقلقون بشأن حماية بشرة أطفالهم الحساسة.
قال مات باريسي، المدير العام لنشاط الحفاضات في "كيمبرلي-كلارك"، إن "حفاضة المستقبل تركز باستمرار على تلبية احتياجات المستهلك بشكل أفضل". كما أضاف أن المتسوقين يطالبون بشكل متزايد بمنتجات خالية من العطور، وقال: "نحن نجد تجاوباً من المستهلكين مع ذلك".
أكدت الشركة أن الإقبال على المناديل المبللة المهدئة والمنعشة الجديدة التي طرحتها، والتي تعد بتنظيف وترطيب وتهدئة بشرة الطفل الحساسة، يتوافق مع توقعاتها بفعل تكرر ابتياع الأهل لها رغم ارتفاع أسعارها عمّا سواها.
رغم ذلك، فإن المنتجات الجديدة ذات الخصائص المتطورة لا تحقق النجاح دوماً. إذ طرحت "بروكتر آند غامبل" نظام "بامبرز لومي" (Pampers Lumi) قبل أربعة أعوام، وكان يشمل كاميرا فيديو وجهاز استشعار متصل بالحفاضات لإخطار الآباء عبر تطبيق للهاتف المحمول حين تتسخ. لكن نظام الرعاية الذكي هذا، الذي سوقته بسعر 349 دولاراً، لم يلق رواجاً فأوقفته الشركة.
زيادات سعرية
إن سبب جزء كبير من الزيادات في أسعار الحفاضات، وغيرها من المنتجات الغذائية والمنزلية، على مدى العامين السابقين، كان سعي المتسوقين لتخزين المنتجات خلال إغلاقات الجائحة، فيما كان نقص المواد الخام والأيدي العاملة يعيق مواكبة ارتفاع الطلب. كما سعى المصنّعون للتعافي والعودة للربحية التي فقدوها خلال الجائحة، إضافة لمحاولتهم تعويض ارتفاع تكلفة سلسلة الإمداد وزيادات الأجور.
قالت بريتني كواتروشي، المحللة لدى "إدوارد جونز" (Edward Jones): "كانت الشركات تعاني ضغوطاً من كل الجهات. لم يقتصر الأمر على نقص العمالة، بل كان هنالك ارتفاع في تكاليف السلع الأساسية وسعر البنزين. كانت الشركات بحاجة لأن تدفع للحصول على تلك المواد قبل أن يشتريها أي طرف آخر. كان كثير من تلك الأسعار مستحكماً، وهنا نجد أن هذه الأسعار حُملت للمستهلكين".
رغم أن الشركات تروج لحفاضات باهظة الثمن متعددة الميزات لتحافظ على أرباحها، فإن معقولية التكلفة مشكلة تتنامى في أنحاء الولايات المتحدة. وبيّنت دراسة من شبكة "ناشونال دايبر بانك"، التي ترعاها مصارف محلية وشركات مثل "هاغيز" لمساعدة الأسر المحتاجة في الحصول على الحفاضات، أن 47% من الأسر الأميركية التي لديها أطفال قالت إنها تفتقر للمال لشراء الحفاضات اللازمة للحفاظ على نظافة أبنائها وعلى صحتهم وحمايتهم من البلل. كان العوز أقل بكثير منذ فترة قريبة، إذ كان يطال نحو ثلث تلك الأسر في 2017.
صدمة أسعار
قالت جوان سامويل غولدبلوم، رئيسة الشبكة إن "التضخم يُصعب بشدة على الأسر تلبية احتياجاتها الأساسية". كما أضافت أن الناس قد يستخدمون الحفاضة نفسها لفترة أطول مما ينبغي أو "يستخدمون أشياء غير مخصصة لأن تستخدم حفاضة، مثل القمصان القطنية وغيرها من المواد القادرة على الامتصاص".
من جهتها أشارت ريكي راي، مؤسسة "دايبر بانك أوف شيكاغو" (Diaper Bank of Chicago)، الذي تلقى في 2023 أكثر من ضعف الطلبات على حفاضات مقارنةً بالعام السابق، إلى أن الأسر التي لا تستطيع تحمل تكلفة الأساسيات في شيكاغو غالباً ما تضع مناشف ورقية في الحفاظات لتطيل أمد استخدامها. قالت: "سمعنا أن الناس يحاولون تعجيل تدريب الأطفال على استخدام المرحاض، وأنهم ينتظرون لفترات أطول قبل تغيير الحفاظات".
اقرأ أيضاً: بسبب "كورونا".. أزمة مواليد عالمية تُنذر بتبعات اقتصادية خطيرة
يشعر الأهل بالضائقة المالية، ومنهم ريتشارد ديكسون، 62 عاماً، الذي يعيش في كنساس سيتي في ميزوري، ويربي مع زوجته أربعة من أحفادهما. قال إن العلامات التجارية مثل "بامبرز" و"هاغيز" بعيدة المنال. فعبوة من سراويل التدريب من الفئة المتوسطة لحفيديه التوأم، 5 أعوام، تكلفه حوالي 30 دولاراً، فيما كان سعرها قبل أعوام قليلة أقرب إلى 24 دولاراً.
لا يرجح أن تتلاشى صدمة الأسعار هذه قريباً. فرغم أن التضخم بدأ بالاعتدال في جوانب أخرى من الاقتصاد، إلا أن صانعي الحفاضات لم يطالهم تخفيف كبير. قالت "كيمبرلي-كلارك" إن أسعار الراتنغ، التي تؤثر على تكلفة مواد البولي بروبلين المستخدمة في أجزاء مختلفة من الحفاضات، أخذت ترتفع العام الماضي.
كما بيّنت هانا، المستشارة في "برايس هانا كوسلتانتس"، أن أسعار زغب الورق مهيأة للارتفاع بعدما أوقفت واحدة من أكبر مورديه، هي "إنترناشونال بيبرز" (International Papers)، إنتاجه في اثنتين من منشآت الإنتاج في فلوريدا وكارولينا الشمالية. قالت هانا: "هناك مواد معينة مهمة لهذه المنتجات ما تزال إشكالية".
رغم ذلك، فقد تكون تكاليف المواد على المدى الطويل أصغر تحديات شركات صناعة الحفاضات وغيرها من الشركات الأميركية فيما يضطرون للتأقلم مع تغييرات في الآفاق المستقبلية للتركيبة السكانية والتي من شأنها أن تثبط الطلب على منتجاتها ببطء. قال ستيبل من "نيو إنغلاند كونسلتينغ غروب": "لهذا الأمر تداعيات هائلة. إنه تأثير تراتبي يطال عدة فئات مع مرور الوقت".