فيما يستهل الصينيون سنةً قمريةً يسمونها عام التنين، الذي يعتبر أحد أكثر الكائنات الميمونة في الأبراج الفلكية، يواجه قادة الصين صعوبات في استعادة الثقة في الداخل والخارج.
يعاني اقتصاد الصين من انكماش الأسعار، ومن تراجع مستمر في سوق الإسكان، ومن موجة تخارج من الأسهم. ولا يبدو أن السياسات التحفيزية التي تعتمدها بكين تدريجياً، مثل خفض متطلبات احتياطي البنوك لتعزيز الإقراضن وطرح مزيد من السندات الحكومية لتمويل مشروعات البناء، تساعد على رفع المعنويات.
إحدى القضايا الرئيسية هي تركيز الحكومة على الترويج لما يسميه الرئيس شي جين بينغ "التطوير عالي الجودة"، وهو مصطلح شامل لمجموعة متنوعة من أهداف السياسات، تتراوح من تعزيز قدرات الصين في التقنيات المتطورة إلى مكافحة عدم المساواة الاجتماعية. يُعد ذلك هدفاً طموحاً يفوق في تعقيده تركيز المسؤولين أحادي التفكير سابقاً على تحقيق مستويات عالية من التوسع الاقتصادي.
قال هاوز سونغ، الاقتصادي في "بولسون إنستيتيوت" (Paulson Institute)، وهو مركز أبحاث يركز على العلاقات الأميركية الصينية إن "أكبر تحدٍّ هو إهمال الصين لتدهور النمو الذي يفاقم جميع المشكلات الهيكلية والعلمانية التي تواجه الصين. الحل هو إعطاء أهمية أكبر للنمو في السياسات الحكومية".
فيما يلي خمس نقاط تعكس التحديات التي تواجهها الصين في 2024:
انكماش الأسعار أكبر المخاوف الحالية
يصف مصطلح "انكماش الأسعار" وضعاً تتراجع فيه أسعار السلع والخدمات في قطاع كبير من الاقتصاد. لا ينبغي الخلط بينه وبين انحسار التضخم، الذي يشير إلى استمرار ارتفاع الأسعار لكن بوتيرة أبطأ، وهو ما يحدث في الولايات المتحدة.
بعد احتساب أثر التضخم، نما الناتج المحلي الإجمالي للصين 5.2% في 2023. لكن من حيث القيمة الاسمية، فقد نما ثاني أكبر اقتصادات العالم 4.6%، وهذه أبطأ وتيرة خلال أربعة عقود تقريباً من دون احتساب السنوات التي شهدت فرض قيود بسبب الجائحة.
قال لاري هو، كبير الاقتصاديين المتخصصين في الشأن الصيني في "ماكواري غروب" (Macquarie Group) إن "النمو الاسمي، وليس النمو الحقيقي، هو ما يهم الشركات والأسر والمستثمرين".
اقرأ أيضاً: الصين تعاني تخمة معروض في السلع مع استمرار انكماش الأسعار
تراجع معامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي، وهو أكثر المقاييس شمولاً للأسعار في الاقتصاد، على مدى الفصول الثلاثة الأخيرة، وهو أطول تراجع متواصل منذ 1999. إن أسعار السلع المصنعة تتصدر انخفاض الأسعار، وهذا أحد الآثار الجانبية لنهج بكين في التحفيز الاقتصادي. يوجه المسؤولون القروض نحو شركات التصنيع لتعزيز الإنتاج. لكن في ظل ضعف النمو في إنفاق المستهلكين على السلع داخل البلاد، وتراجع الطلب على الصادرات الصينية في الخارج أيضاً، فلا مناص أمام الشركات من خفض أسعار منتجاتها.
استمرار المشكلات القديمة
نما الاقتصاد الصيني بوتيرة أسرع من نظيره الأميركي خلال العام الماضي، لكن مقارنةً بالتوقعات في بداية 2023، فقد كان أداء اقتصاد الصين أقل من المتوقع فيما فاق أداء نظيره الأميركي التوقعات باستمرار.
يمكن أن نعزو ذلك لأزمة سوق العقارات في الصين. الأمر ليس جديداً، إذ بدأ التراجع في 2021، لكنه يتصدر عناوين الأخبار من جديد بعدما أصدرت قاضية في هونغ كونغ حكماً بتصفية "تشاينا إيفرغراند غروب"، وهي واحدة من عدة شركات تطوير عقاري متعثرة.
اقرأ أيضاً: "إيفرغراند" من البزوغ إلى الخفوت.. رحلة أكبر شركة عقارات صينية
رغم جهود بكين لردع المضاربة في سوق العقارات، فإن البناء ما يزال يمثل شريحة كبيرة من الاقتصاد، إذ يدفع الطلب على سلع وخدمات قيمتها نحو خمس الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لـ"بلومبرغ إيكونوميكس". كما تراجعت قطاعات ذات صلة، مثل المفروشات المنزلية والأسمنت. وثمّة تأثير تمدد إلى قطاعات أخرى، إذ يثني تراجع أسعار المنازل عديداً من الأسر عن الإنفاق على كل شيء من الإلكترونيات إلى السلع الفاخرة.
بعد عدة توقعات خاطئة بأن يشهد سوق العقارات تحولاً، توصل المحللون في وول ستريت إلى إجماع مفاده أن الأوضاع لن تستقر حتى 2025.
حاجة لتحفيز أكثر وأفضل
بلغت مطالبات مستشاري الحكومة الصينية بمزيد من التحفيز درجة الإلحاح خلال الصيف، وكان رد فعل بكين أنها اتجهت لإنفاق يحدث عجزاً في منتصف العام على غير العادة. رغم أن التوقيت أشار إلى مرونة مُرحّب بها، فإن حجم الإنفاق، الذي بلغ تريليون يوان (13.9 مليار دولار)، كان هزيلاً مقارنةً بجهود التدخل في السابق. وجّه مسؤولون حكوميون الأموال نحو البناء، وهي طريقة مجربة لكنها أقل فاعلية في تحفيز الاقتصاد، متجاهلين التوصيات بأن توجيه المساعدات إلى الأسر قد يؤتي نتائج أفضل.
اقرأ أيضاً: الصين تكثف دعم الاقتصاد عبر إصدار ديون جديدة
كشف المكتب السياسي للحزب الشيوعي النقاب عن شعارين في ديسمبر ألمحا إلى حصول سوق الإسكان على مزيد من الدعم، وتركيز أكبر على النمو الاقتصادي. لكن لا ينبغي تفسير أي منهما على أنه عودة لما كان الوضع عليه في الماضي.
ربما حان الوقت لأن يأخذ المستثمرون الحكومة على محمل الجد حين تقول إنها لن تعمد مجدداً لتحفيز "طوفاني" (في إشارة إلى ردة فعل الحكومة خلال الأزمة المالية العالمية) أو لرفع الطلب بشكل كبير على الإسكان (مثلما فعلت بعد تحول نزولي في 2015). عوضاً عن ذلك، سيعطي صناع السياسات الأولوية لصناعات مثل إنتاج التقنيات المتطورة، التي تُعتبر أساسية لمسعى الرئيس شي لتجديد النموذج الاقتصادي الذي تتبعه الصين.
تراجع المعنويات
يضعف مستوى الثقة المنخفض باستمرار في أوساط الأسر والشركات، فاعلية التحفيز. قد يكون ذلك من آثار الأعوام القليلة الماضية، التي شهدت فرض قيود غير متوقعة بسبب الجائحة، إلى جانب تراجع سوق الإسكان، وحملات مفاجئة على قطاعات منها التعليم والتقنية، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين.
أحد المؤشرات على أن الأسر الصينية تشعر بقدر أقل من الأمان هو أنها بدلاً من أن تستثمر في الإسكان أو الأسهم، فهي تدخر المال في حسابات التوفير المصرفية. تُتاح للشركات قروض بقدر كبير، لكن خارج قطاعات النمو مثل المركبات الكهربائية والتقنيات النظيفة، ويبدو أهن أصحاب أنشطة الأعمال مترددون في التوسع في ضوء ضعف الطلب وتراجع الأسعار.
اقرأ أيضاً: الصين تضخ أكبر دعم نقدي منذ 2020 لانتشال الاقتصاد
هنالك رأي متفائل بأن الثقة ستتعافى عندما تصبح الأزمات الأخيرة جزءاً من الماضي، وتتحسن علاقات الصين مع الولايات المتحدة وأسواق رئيسية أخرى. من ناحية أخرى، يرى المتشائمون أن تراجع سوق العقارات سيظل يؤثر على الثقة. هذا إلى جانب أن احتمال إعادة انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، لن يجلب راحة البال.
انتظار بلوغ أدنى نقطة
تنعكس المخاوف حول مستقبل الصين في أسعار الأسهم المتداولة في بورصات البر الرئيسي وهونغ كونغ. وقد بدد الهبوط على مدى عام، نحو ستة تريليونات دولار من القيمة السوقية للأسهم من أعلى نقطة بلغتها في 2021.
رغم أن سوق الأسهم ليست أداة موثوقة لرصد أداء اقتصاد الصين على المدى الطويل، فهي تتأثر على المدى المتوسط بالاتجاهات في النمو الاسمي، وذلك لأنها تؤثر على الأرباح.
لذا لا يُرجّح أن جهود بكين لتعزيز التقييمات من خلال تعديل قواعد السوق، مثل الحدّ من البيع على المكشوف، وإمكانية استخدام الأموال الحكومية لشراء الأسهم بكميات كبيرة، وهي فكرة طُرحت الشهر الماضي، أن تؤدي إلى صعود دائم. قال سونغ من "بولسون إنستيتيوت": "من دون تعافي النمو، لا أرى إمكانية تُذكر في أن تعزز السياسات سوق الأسهم بشكل مستدام".