استدعت جامعة موسكو الحكومية أستاذ علم الأعصاب المشارك ستانيسلاف كوزلوفسكي كي يعود إلى العاصمة ليجتمع إلى إدارتها فيما كان يحاضر في أذربيجان قبيل عيد الميلاد. قال كوزلوفسكي إنه أُبلغَ لدى وصوله موسكو استجابةً للرسالة العاجلة بأن الحكومة توشك على إدراجه "عميلاً لجهة أجنبية" وطرح مديروه خيارين، إما أن يستقيل أو أن يُقال من عمله في الجامعة الذي بدأه منذ ربع قرن. فضّل كوزلوفسكي أن يستقيل.
كانت "جريمة" كوزلوفسكي، وفق ما استطاع أن يفهم، هي أنه مدير منظمة "ويكيميديا روسيا" (Wikimedia Russia)، التي تأسست قبل 16 عاماً لتدعم "ويكيبيديا" في البلاد وتروج لها. على مدى أكثر من عقد، شنّت حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حملة ضد الموسوعة العالمية، قائلة إنها تتحدى القيود بشأن ما يمكن نشره عن موضوعات حساسة مثل الغزو الروسي لأوكرانيا.
وشملت الحملة انتقادات منتظمة من ساسة بينهم بوتين نفسه تتهم "ويكيبيديا" بأنها تعين أعداء الدولة، وجاءت فيها غرامات متكررة على "ويكيميديا فاونديشن" (Wikimedia Foundation)، التي تحافظ على البنية التحتية لـ"ويكيبيديا" على مستوى العالم. رفضت المؤسسة، التي تتخذ من سان فرانسيسكو مقراً لها، أن تدفع الغرامات المفروضة عليها.
قال كوزلوفسكي: "على حد علمي، أنا أول شخص في روسيا يعاني بسبب دعم (ويكيبيديا)"، لكنه أضاف أن الجهة التي عاقبته لم تكن الحكومة، بل الجامعة. في بيان إلى وكالة الأنباء "تاس" (TASS)، شككت الجامعة برواية كوزلوفسكي، قائلة إنه كتب خطاب استقالته من تلقاء نفسه. تشيع إلى حد ما استقالة من يُنظر إليهم على أنهم يوجهون انتقادات للسلطات في روسيا من وظائفهم، في ما يبدو ظاهرياً خطوة طوعية يرى كثيرون أنها قسرية. كوزلوفسكي ليس على قائمة عملاء الجهات الأجنبية لدى الكرملين.
قرار وقف النشاط
في اليوم الذي استقال فيه كوزلوفسكي، عقد أعضاء "ويكيميديا روسيا" اجتماعاً طارئاً اتفقوا فيه على الإغلاق، بعد أن خلصوا إلى "استحالة العمل في مثل هذه الأوضاع". حالياً، ستواصل نسخة "ويكيبيديا" باللغة الروسية نشر المقالات، إذ تُعتبر سابع أكبر نسخة من "ويكيبيديا" في العالم ولديها آلاف المحررين المتطوعين الملتزمين، كما أن خوادمها خارج البلاد.
لكن نهاية "ويكيميديا روسيا" تفاقم الشعور بأن القيود تزداد على مشروع يبدو بوضوح أن بوتين يضعه نصب عينيه، ويُرجّح أن يتراجع النشاط دون وجود المجموعة لدعم المحررين القائمين على العمل وتعيين آخرين جدد.
بوتين يريد حرباً ثقافية مع الغرب.. لكنه لا يملك سلاحها
على مدى العقدين الماضيين، اختلفت "ويكيبيديا" بشكل دوري مع الرقابة الحكومية. قالت أنوشا علي خان، كبيرة مديري الاتصالات في "ويكيميديا فاونديشن"، في رسالة بالبريد الإلكتروني، إن متاعب "ويكيبيديا" في روسيا "متسقة مع الاتجاهات العالمية التي تبرز تراجعاً في الحرية على الإنترنت". أكدت علي خان استقلالية النسخ المحلية مثل "ويكيميديا روسيا"، فيما أضافت أن المؤسسة "يؤسفها ويقلقها الأوضاع التي ربما تكون قد أثّرت على قرار (ويكيميديا روسيا) بوقف نشاطها".
لم ترد سفارة الاتحاد الروسي في واشنطن على طلب بالتعليق.
إذا اختفت "ويكيبيديا" ذاتها في روسيا، فستنضم البلاد بذلك إلى الصين، التي منعت كل نسخ الموسوعة منذ 2019، فتكونا بذلك بين دول قليلة لا يمكن فيها الوصول إلى الموسوعة بلغة البلد الرئيسية.
نسخة منافسة
يبدو أن ثمّة استعدادات لاستبدال "ويكيبيديا" بنسخة تتسم أكثر بالإذعان. بعد فترة قصيرة من حلّ "ويكيميديا روسيا"، ظهرت نسخة منافسة تحظى بتمويل جيد اسمها "روويكي" (Ruwiki) في 15 يناير، بعد فترة اختبار استمرت لستة أشهر. بدلاً من أن تبدأ من لا شيء، زوّدت "روويكي" موسوعتها بنحو مليوني مقال كانت "ويكيبيديا" قد نشرتها باللغة الروسية، وهو أمر يسمح به ترخيص الموسوعة مفتوحة المصدر.
كبير محرري "ويكيبيديا" الروسية يطلق نسخة مناصرة لبوتين
يرأس "روويكي" فلاديمير ميديكو، الذي كان مدير "ويكيميديا روسيا" قبل أن يترك المؤسسة في مايو، حين تولى كوزلوفسكي المهمة. لم يفصح ميديكو عن هوية ممول المشروع، لكن "روويكي" حققت نجاحاً منذ إعلانها عن خططها في الصيف، إذ أبرمت صفقات للعمل مع مؤسسات مهمة وروّجت لنفسها عبر إعلانات في شبكة مترو موسكو.
تسمح "روويكي"، مثل "ويكيبيديا"، بإسهامات محتوى تطوعية، لكنها، على عكس النسخة الروسية من "ويكيبيديا"، تمنح مجموعة من الخبراء كلمة الفصل بشأن ما يمكن نشره بدلاً من أن تترك الأمر ليناقشه مجتمع "ويكيبيديا". تُدقق الموضوعات الحساسة سياسياً لضمان اتساقها مع الخط الحكومي العام. توصي "روويكي" في تعليماتها للمستخدمين الجدد بعدم الكتابة عن المواضيع الشائكة أو الأخبار العاجلة إلى أن تصبح موضوعاً لكتب التاريخ.
تفاؤل رغم التهديد
قال كوزلوفسكي إنه ما يزال متفائلاً بأن "ويكيبيديا" سيظل لها وجود في روسيا، لأن المنافس الجديد سيحتاج إلى سنوات ليعيد بناء مجتمع مشابه من المحررين، إن كان هذا ممكناً أصلاً. كتب كوزلوفسكي في رسالة بالبريد الإلكتروني قائلا إن محرري "ويكيبيديا" المتطوعين "باتوا معتادين على ذلك ويواصلون العمل رغم هذا التهديد".
كتب كوزلوفسكي خطاباً إلى رئيس الجامعة التي عمل بها لعرض قضيته، كما كتب إلى وزارة العدل. لا ينوي كوزلوفسكي أن يغادر روسيا، وقال إنه ليس له مكان يقصده. قال كوزلوفسكي إنه تلقى خطابات دعم من محرري "ويكيبيديا" في الخارج، لكن "ويكيبيديا روسيا" لن تقبل نقوداً أو أي دعم مادي آخر من أي دولة أخرى. قال: "مثل هذه المساعدة لن تكون دعماً بقدر ما ستكون تهديداً... سنتأقلم مع الوضع بأنفسنا، ولا يوجد مخرج آخر".