تعتمد الشركات الناشئة عادةً على سلسلة جولات تمويل في سنواتها الأولى، إلا أن تلقيها لتمويل أدنى من الفترات الماضية، يوحي بتراجع قيمتها، وهو ما قد يكون ضربة قاسيةً لها. لذا لجأت هذه الشركات حديثاً لأساليب مبتكرة في تجنب أن تبدو أقل وزناً، بالأخص حين يسعى مستثمرون للتخلص من حصصهم، سواءً لتراجع اهتمامهم بها، أو لنيّة استخدام أموالهم في أغراض أخرى.
تسبّب ذلك بلعبة شد حبل بين المستثمرين ومؤسسي الشركات حول المعلومات اللازمة لتقييم الشركة، وكانت شركة رأسمال جريء واحدة على الأقل أعلنت التوقف عن شراء أسهم شركات ناشئة في السوق الثانوية، لأنها لا تتمكن من الاطلاع على معلومات مالية، ما يصعّب على المدققين تحديد القيمة العادلة لمحفظتها.
قالت سوناينا سينها هالديا، الرئيسة الدولية لاستشارات رأس المال الخاص في البنك الاستثماري "رايموند جيمس فاينانشال" (Raymond James Financial) إن "كثيراً من الشركات تواجه قرارات قد يقوّضها عدم اتخاذها، والمشكلة الأساسية أن المستثمرين لا يعرفون القيمة الحقيقية للشركات".
حجب المعلومات
على العكس من الأسهم المدرجة في البورصة التي يُعرف سعرها لحظياً، فإن الشركات الخاصة عموماً تُقيّم استناداً إلى جولات تمويل تأتي عادةً بفواصل تزيد عن سنة. إلا أن رأس المال الجريء بات شحيحاً اليوم وسط ارتفاع أسعار الفائدة وتراجع سوق الطروح العامة الأولية التي تلجأ إليها شركات كثيرة كي تتجنب جولات التمويل.
يتخوف مؤسسو الشركات الناشئة من أن يتسبب بيع كثير من المستثمرين لحصصهم بأسعار منخفضة في انتشار إشاعات في السوق بأن قيمة الشركة أقل مما كان يُعتقد سابقاً، فيهدد ذلك جولات التمويل المستقبلية، ويسبب جمع أموال أقل، ما قد يحبط معنويات الموظفين ويدفعهم للبحث عن عمل في مكان آخر.
لذا لدى المؤسسين دافع قوي ليحافظوا على تفاؤل المستثمرين، وللحدّ من البيع في الأسواق الثانوية بأسعار منخفضة، وذلك من خلال عرقلة قدرة المستثمرين على تقييم أسهمهم.
لتحقيق ذلك، قد تعمد بعض الشركات الناشئة لإخفاء ما يجري حقاً داخلها، بما أن الإدارة غير ملزمة قانونياً بتقديم كشف كامل بالمعلومات المتعلقة بها إلى أي طرف ما عدا المستثمرين الرئيسيين الذين لهم حقوق تعاقدية بالاطلاع على المعلومات.
لكن حتى وقت ليس ببعيد، كان غالباً بإمكان المستثمرين الذين لا يملكون هذا الحق أن يحصلوا على معلومات، حسب خافيير أفالوس، الرئيس التنفيذي لشركة البيانات "كابلايت" (Caplight)، لكنه قال: "في ظل هذه الأجواء التمويلية الصعبة، تقلص عدد المستثمرين الذين يتلقون هذه المعلومات، إلا إذا كانوا يملكون حقاً صريحاً بالاطلاع عليها".
اقرأ أيضاً: رهان المستثمرين على اكتتابات 2023 يصيب رغم العائدات المتواضعة
إحجام عن الإفصاح
قبل بضعة أشهر من تسريح منصة الدردشة "ديسكورد" (Discord) %17 من موظفيها في مطلع يناير، كانت قد التزمت الصمت، ورفضت طلبات بعض المستثمرين للاطلاع على بيانات أساسية مثل الإيرادات والنفقات وتوقعات التدفق النقدي، حسب قول مطلعين على المسألة، طلبوا عدم كشف أسمائهم لمناقشتهم معلومات سرية. وقد رفضت "ديسكورد" التعليق.
كانت شركة "إنديغو" (Indigo) التي تساعد المزارعين على تبني مزيدٍ من التقنيات المستدامة قد توقفت في يناير الماضي عن إصدار بيانات حديثة للمستثمرين، كما لم يرد رئيسها التنفيذي وموظفوها على الاتصالات، بحسب أشخاص مطلعين على المسألة. وفي يوليو، جمعت الشركة من جولة تمويل مبلغاً خفض تقييمها إلى 200 مليون دولار، أي أقل بواقع 95% عن تقييمها لعام 2022 الذي بلغ 3.8 مليار دولار. قالت "إنديغو" إنها تزوّد مستثمريها بتحديثات فصلية، إلا أنها تضطر أحياناً للحدّ من المعلومات التي تفصح عنها بداعي السرية.
قد تلجأ شركات ناشئة إلى تكتيك مريب آخر يعتمد على إخفاء معلومات مهمة، أو ببساطة للكذب، على حدّ وصف لورين بونر، المديرة الشريكة لشركة "إم بي إم كابيتال" (MBM Capital) التي تستثمر في شركات خاصة تواجه جولات تمويل تحقق مبالغ أقل من سابقاتها. قالت إن بعض الشركات تحجب بعض النفقات الرئيسية في حساباتها، وتخفي أن مديريها يواجهون تهماً جنائية، أو تقدّم معلومات مغلوطة للمستثمرين. أضافت: "رأينا سلوكيات سيئة من بعض المؤسسين وبعض الشركات الناشئة في سعي يائس لاستمرارية الشركات".
حثّ ماركوس نيو، الرئيس التنفيذي لشركة رأسمال الجريء "إنفست إكس" (InvestX) المتخصصة بالتعاملات في السوق الثانوية، هيئة الأوراق المالية والبورصات بأن تلزم الشركات الخاصة الكبرى بتقديم إفصاحات مالية. ورأى أن ذلك سيسهم في تقدير قيمة الشركة الناشئة، ويصعّب على المساهمين المطلعين على نتائج الشركة أن يستغلوا المستثمرين الأقل اطلاعاً. قال نيو: "في حال لم تتوفر أي معلومات، تتوقف السوق الثانوية الخاصة بالشركة، لأن المشترين لا يستطيعون تحديد سعر عادل... هذه وسيلة الشركات لوقف التداول".
اقرأ أيضاً: عالم الشركات الناشئة يصطدم بواقع الانكماش القادم
مع ذلك، فإن مقترح نيو لن يلغي تكتيكاً آخر، فالشركات إما تمنع المعاملات الثانوية كليةً أو تمنعها حين تكون بسعر يقل عما تحدده. على سبيل المثال، رفضت شركة "إنستاكارت" (Instacart) الناشئة لتوصيل البقالة، أن تسمح لمعظم مساهميها بالبيع لسنوات. ولم يتمكنوا من التخارج إلا عند الاكتتاب العام الأولي للشركة في سبتمبر، وقد حقق قيمة سوقية قدرها 10 مليارات دولار، أي نحو ربع تقييمها عند 39 مليار دولار عبر جولة تمويل في 2021. لم تستجب "إنستاكارت" لطلبات التعليق.
حظر البيع
بلغ تقييم الشركة الناشئة المالية "ريفولوت" (Revolut) 33 مليار دولار في آخر جولة تمويل في 2021، لكن حين قدّم مستثمرون عروضاً لشراء أسهمها عبر السوق الثانوية قيمتها عند نحو 13 مليار دولار العام الماضي، لم توافق على طلبات تحويل الأسهم، بحسب أشخاص مطلعين على الشركة. قالت "ريفولوت" إنها لا تسمح بالبيع الثانوي إلا بعد جولات التمويل مباشرةً.
قال بعض الوسطاء إن المساهمين الكبار الذين يحاولون بيع الأسهم بأسعار مخفضة قد يتلقون اتصالاً من رئيس الشركة التنفيذي ليثنيهم عن ذلك، مبيناً أن هذه الخطوة تشير إلى تقييم أدنى في السوق. ولكن في كثير من الشركات الناشئة، أصبح شائعاً أن يتجاهل الرئيس التنفيذي وغيره من الموظفين طلبات الموافقة على البيع. بالطبع، يمكن للشركات الناشئة أن تتخذ مثل هذه الإجراءات للسيطرة على هوية المساهمين فيها، فهي تفضل أن تنال دعم مستثمرين مؤسسيين يستمرون معها على المدى الطويل، بدل تقلبات المستثمرين الأصغر. ولكن برأي كريستيان مونافو، كبير المسؤولين الاستثماريين لدى شركة "ليبرتي ستريت أدفايزرز" (Liberty Street Advisors) يمكن موازنة ذلك مع رغبة المساهمين في الحصول على السيولة. قال: "الممارسة الأفضل هي أن تعمل مع المساهمين في شركتك من أجل معالجة احتياجاتهم للسيولة، ويمكنك أن تفعل ذلك بطريقة منضبطة".
التفاف المستثمرين
تفرض شركات أخرى شروطاً قد تثني عن الصفقات الثانوية. لقد انتقلت "ديسكورد" العام الماضي، من الموافقة على الصفقات كل على حدة إلى دراستها على دفعات مرة في كل فصل، ما تسبب في تأخيرات تهدد إنجاز الصفقات. وفي 2021، عند تقييم عملاقة خدمات الدفع "سترايب" (Stripe) عند 95 مليار دولار، أبلغت الشركة المساهمين أن بمقدورهم أن يبيعوا عبر السوق الثانوية، بشرط أن يمتنع الشراة عن بيع تلك الأسهم لمدة أربع سنوات بعد الطرح الأولي العام، فانخفض الطلب على الأسهم بشدة، بحسب أشخاص مطلعين على المسألة. وفي العام الماضي، جمعت جولة تمويل "سترايب" مبلغاً بالكاد تجاوز نصف تقييمها السابق، واستخدمت الأموال لشراء أسهم يملكها موظفوها. وقد رفضت "سترايب" التعليق.
توصّل بعض الراغبين بالبيع إلى طرق للالتفاف على الشركات الناشئة من أجل التخلص من أسهمهم دون علمها. فيمكنهم وضع الأسهم ضمن كيان لأغراض خاصة يستطيع الشراة أن يستثمروا فيه. ويلجأ آخرون إلى إنشاء عقود آجلة، فيحتفظون رسمياً بملكية الأسهم، إلا أن الشاري يتلقى أي أرباح أو خسائر مستقبلية، ويصبح المالك الجديد مسجلاً بعد الطرح الأولي العام أو بعد بيع الشركة.
قال كين سميث، مؤسس شركة "نكست راوند كابيتال بارتنرز" (Next Round Capital Partners) التي تساعد الشركات في السعي للتمويل إن "الطرق المختلفة التي تتلاعب بها الشركات بالسوق الثانوية يشوه التقيمات بشدة". ورأى أنه حتى حين يخفض المستثمرون تقييم استثماراتهم، فهم "على الأرجح تكون محافظهم تضم حصصاً في شركات مقيمة بأعلى مما تستحق".