تجلب عثرات خدمات ابتكار الصور عبر الذكاء الاصطناعي، مثل "ميدجورني" (Midjourney) و"دال-إي" (DALL-E) من "أوبن إيه آي"، متعةً للمصمم كولين دَن حين تنتج صوراً اعتباطيةً، مثل أن تأتي بصورة يبدو فيها شخص واحد يمشي مدبراً، حين يطلب إليها إنتاج صورة لأناس يسيرون سويةً. يُذكّر ذلك دَن بالعمل مع واحد من زملائه على مجموعة أفكار غريبة قبل أن يتوصلا إلى واحدة صحيحة.
طوّرت شركة دَن "فيجوال إلكتريك" (Visual Electric) الناشئة واجهة مستخدم جديدة لتحسين هذه العملية. عادةً ما تنتج مولدات تحويل النص إلى صور صورة واحدة عبر نافذة دردشة، لكن عبر تطبيق دَن، تظهر الصور الموّلدة في صفوف وتُرتب إلى جانب أو فوق الصورة التي تخضع للتعديل، فتتيح معرضاً من الصور المصغرة. النتيجة هي تقديم تشكيلة من مسودات الصور تتيح للمستخدمين استكشاف أفكار إبداعية متنوعة بناءً على طريقة تفسير الذكاء الاصطناعي لأوامرهم، سواء كان ذلك أفضل أم أسوأ.
قال دَن، المصمم الذي عمل سابقاً لدى "دروب بوكس" (Dropbox) و"فيسبوك" وتحظى شركته الناشئة في ساوساليتو بولاية كاليفورنيا بدعم "سيكويا كابيتال" (Sequoia Capital)، إن الغرض من نمط سير العمل ذلك هو إلهام "عملية استكشاف متشعبة وفوضوية". تركز شركته بشكل أكبر على السماح للذكاء الاصطناعي بأن يأتي بنتائج غير متوقعة، وليس على تحقيق المستهدفات المتوقعة بأقل قدر ممكن من الخطوات. توجد أدوات لإعادة كتابة الأوامر تلقائياً تضيف وصفاً أغرب، ولتغيير الجمالية وفقاً للمزاج، وتعديل مدى حرية الكمبيوتر في ترجمة مفرداتك.
تشجيع الهلوسات
بعبارة أخرى، فإن أحد أهداف "فيجوال إلكتريك" هو تشجيع ما يُسمى "الهلوسات"، وهو مصطلح شبه علمي يعني اختيار أنظمة الذكاء الاصطناعي في بيانات التدريب التي تلقتها واختلاقها أشياء غير حقيقية. يسعى المهندسون لمنع هلوسة روبوتات الدردشة منذ فترة طويلة سبقت إتاحة "تشات جي بي تي" في أواخر 2022، لكن ما يزال روبوت الدردشة هذا وغيره من الأدوات يقدمون إجابات على أسئلة المستخدمين فيها اختلاقات.
على سبيل المثال، حين سُئل "بارد" (Bard) من "غوغل" عن التضخم في برنامج (60 Minutes)، اختلق سلسلة من كتب في الاقتصاد تبدو حقيقية، بل وجعل لها ملخصات وهمية. أما محرك "بينغ" بعد أن أدمجت فيه تقنيات "أوبن إيه آي"، فقد انخرط في محادثات محرجة هدد فيها بالابتزاز كما أنه عبر عن مشاعر حب تجاه أوائل مختبريه. إن الطابع المشابه لواقع الحياة وغير المتوقع لهذه الردود لم يقتصر على إعطاء انطباع بأن لدى الروبوتات عقل تستخدمه للتفكير، بل إنها بدأت تفقد عقلها أيضاً.
إذا كان للناس أن يعتمدوا على نماذج اللغة الكبيرة، مثل الذي يعتمد عليه "تشات جي بي تي" في عمليات البحث على الإنترنت أو كتابة المقالات أو ما سوى ذلك من التطبيقات، فإن مثل هذه الهلوسات قد تفسد الأمر برمته. في ظل خشية الناس من الذكاء الاصطناعي في 2023، ألهمت علاقة التقنية المضطربة بالحقائق كثيراً من التصريحات بأن تخاريف أجهزة الكمبيوتر قد تكون تهديداً لمفهوم الحقيقة بحد ذاته.
معيار للهلوسة
أضحى جنوح أي نظام ذكاء اصطناعي نحو الهلوسة مقياساً لأدائه. لقد طرحت "غاليليو" (Galileo)، التي تساعد الشركات على تحسين تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مؤشراً للهلوسة يصنف مدى صحة أنظمة الذكاء الاصطناعي من شركات مثل "هغينغ فيس" (Hugging Face) و"ميتا بلاتفورمز" و"أوبن إيه آي".
بيّن فيكرام تشاترجي، رئيس "غاليليو" التنفيذي، أن شركات متباينة النشاط في قطاعات المال أو الرعاية الصحية أو ما سوى ذلك تحرص بشكل خاص على أن يكون لها "تحكم صارم" في منتجاتها المدفوعة بالذكاء الاصطناعي الموجهة للمستهلكين. قال: "إن أكبر مشكلة تؤرقهم هي: ماذا لو طرحت هذا المنتج وبدأ يختلق أموراً لا معنى لها؟ قد يضر ذلك بنا وبمنتجنا وقد يكون سيئاً جداً بالنسبة للعالم".
نظراً للتعقيد الذي ينطوي عليه الذكاء الاصطناعي الحديث، فإن الخبراء ليسوا واثقين إطلاقاً من إمكانية حل هذه المشكلة بكاملها. لكن قد لا تحتاج كل المشاكل إلى إصلاح. حين سئل ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لـ"مايكروسوفت"، عن تداعيات هذا الخلل قال: "أحياناً تكون الهلوسات خصائص فعلية، وهذا اسمه إبداع، وأحياناً تكون خللاً. نحاول جميعاً تحسين قدرتنا على إتقان ذلك الأمر".
يعزم عدد متنامٍ من المطورين هذا العام للاستفادة من سحر وشطحات تلك الأخطاء. قارن دَن هذا الأمر بالطرق التي ربما تكون محفوفة بالمخاطر التي سعى البشر من خلالها لاستخدام مواد كيميائية للاستفادة من النزعات الفنية التي تنجم عنها. وقال مازحاً: "إن تجربة ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك تشبيه ملائم جداً... إذا نفذ نموذج اللغة الأمر المطلوب منه بحذافيره، فإنه لا يكون شريكاً مبدعاً".
مساحة حرية
قال أناستاسيس جيرمانيديس، مدير التقنية في شركة "رانواي إيه آي" (Runway AI) المليارية التي تحول النصوص إلى مقاطع فيديو، إن بعض "الالتزام بالمطلوب" ضروري، إذ ينبغي أن يظهر قط في مقطع فيديو طُلب أن يظهر فيه قِط وألا يظهر فيه كلب بدل ذلك، لكن فريقه لا يود أن يُقضى على الناتج الخيالي. بالنسبة للأوامر الأقصر، قال جيرمانيديس إن "رانواي" تملأ الفراغات أحياناً، "ما يعطي مساحة أكبر من الحرية للنموذج ليتخيل الخصائص الغائبة أو التي لم يحددها المستخدم".
كما وجد جيرمانيديس أن أصحاب المهن الإبداعية يجربون البرنامج ويقدمون أوامر مفصلة لتحفيز الرؤى السيريالية. صنع المخرج بول تريلو على سبيل المثال فيلماً قصيراً باستخدام "رانواي" حاز على إشادة وكان أكثر جنوحاً للاستفادة من هلوسات المحرك، إذ احتوى على مشاهد لعربات قطارات أنفاق وهي تغرق وعلى تعبيرات وجوه تتحرك على غرار الرسوم المتحركة الطينية. كانت العيوب هي ما جعلته مذهلاً.
في مقابلة مع صحيفة "نيويوركر"، التي قالت إن الفيلم المسمى (Thank You for Not Answering) "فيه سمات إخراج كل من إدوارد هوبر ودايفيد لينش"، قال تريلو إن الذكاء الاصطناعي اتخذ قرارات سينمائية لم يكن سيختارها بنفسه وإن "الأمر كان أشبه بالقدرة على الطيران خلال حلم".
جرعات هلوسة
يسعى مطورون آخرون لتقييد أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة عبر إدخال جرعات ضئيلة جداً من الهلوسة. طوّرت شركة "إنورلد إيه آي" (Inworld AI)، التي تساعد مطوري ألعاب الفيديو في بناء شخصيات تفاعلية، خاصية "الجدار الرابع" وذلك للحد من ردود أفعال الشخصيات تجاه اللاعبين. تُسبغ على الشخصيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي صفات ومشاعر وذكريات وطموحات، وهو ما قد يؤدي إلى تصرفات مثيرة للاهتمام وفريدة من نوعها.
لكن كايلان غيبز، المؤسس المشارك ورئيس قسم المنتجات، قال إنه إذا ابتعدت الشخصيات عن النص بأكثر مما ينبغي، فقد يقوض ذلك الانغماس في اللعبة. ينبغي أن يتمكن روبوت في لعبة عن "حرب النجوم" من تأليف قصة شخصية عن كوكبه الأصلي، لكن يجب ألا ينكر خطأً أن لوك سكاي ووكر هو ابن دارث فيدر. قال غيبز: "هناك توازن بين هلوسات توسع عالماً وأخرى تقوضه".
رغم ذلك، أشار غيبز إلى أن بعض المطورين يتوقفون عن تفعيل خاصية الجدار الرابع، خصوصاً في الألعاب الأصغر التي تشبه (Dungeons & Dragons)، بحيث لا يُقيد عالم اللعبة بعقود من السرديات السابقة. لاحظ غيبز أن بعض صانعي الألعاب أوقفوا هذا الإعداد خلال الإنتاج واستخدموا الهلوسات لتخيل قصص ومهام فرعية جديدة. قال: "تجد كاتباً يقول لسان حاله: لدي فكرة تقريبية لهذا العالم، وسأصمم شخصياته وأتحدث معهم وسأرى ما ينتج عن ذلك".
توصيف مختلف
وفق ذلك المنطق، الأمر لا يتعلق بتغير مدى قبول الهلوسة بل بتغير توصيفها. يتحدث أصحاب المهن الإبداعية عن الأمر من زاوية إسباغ صفة بشرية وليس على أنه آلة تنتج أكاذيب. وقد تكون الاختلالات التي تحدث أثناء إعداد أغنية أو حملة تسويق من إنتاج الآلة هي مبتغى المستخدم.
يواجه دَن، صاحب "فيجوال إلكتريك"، تلك المشكلة تكراراً حين يولّد رسومات باستخدام الذكاء الاصطناعي. إذ حين تزيد التعليمات التي يقدمها دَن، ينحرف الكمبيوتر بعيداً عن مقصده. قال: "تكون ردة الفعل الأولية: هذا سيئ، إنه مغلوط". لكن بعد أن يتمعن به لبضع دقائق، كثيراً ما يدرك أن الكمبيوتر قد أصاب.