تعتبر أشباه الموصلات، التي يقاس حجم مكوّناتها بالنانومتر، من عجائب مراكز البيانات الحديثة المتخصصة بأنظمة الذكاء الصناعي، إلا أن المراوح ما تزال إحدى أهم الآلات المستخدمة في تلك المرافق، نظراً لأن غياب التدفق المستمر للهواء البارد بين صفوف الحواسيب، قد يعرض الرقائق المتطورة إلى سخونة زائدة. وفي ظلّ ارتفاع تكلفة المحافظة على تشغيل ما يكفي من المراوح وأجهزة تكييف الهواء، يبحث صانعو الرقائق ومشغّلو مراكز البيانات، عن طرق جديدة مختلفة تماماً لمعالجة هذه المشكلة.
تجلّت هذه الطموحات في 15 نوفمبر، حين أعلنت شركة "مايكروسوفت" عن مبادرتها الأولى الضخمة في مجال صناعة الرقائق الخاصة بأنظمة الذكاء الاصطناعي. فرقاقتها الجديدة (Maia 100) التي تهدف لمنافسة أفضل منتجات شركة "إنفيديا" (Nvidia) صُممّت لتتصل بما يجوز وصفه باللوحة الباردة، وهي عبارة عن جهاز معدني ُيحافظ على برودته بفضل ضخ سائل تحت سطحه. ويمكن أن تشكّل هذه التقنية خطوة وسيطة نحو التبريد بالغمر الكامل، بحيث تعمل أرفف خوادم كاملة داخل خزانات تحتوي على سائل خاص.
تجارب تبريد
يعرف من يضطرون لتدبّر سبلٍ لتبريد خوادم الكمبيوتر عن فوائد التبريد بالسوائل منذ سنوات، فالمياه أقدر بحوالى أربع مرات على امتصاص السخونة مقارنةً بالهواء. وكان بعض معدّني العملات المشفرة قد اختبروا هذه التقنية في السابق، كما أن بعض مراكز البيانات سبق أن اعتمدت تقنية اللوحات الباردة، لتستخدمها مع رقائق صُممّت أصلاً لتعمل في حالات تبريد الهواء العادية. إلى ذلك، فإن بعض ممارسي ألعاب الفيديو الشغوفين الساعين للاستفادة للحدّ الأقصى من أجهزة الكمبيوتر، والتقليل من الضجيج المزعج للمراوح القوية، استعرضوا بعض أنظمة التبريد التي ابتكروها واستخدموا فيها أنابيب مياه مضاءة.
لكن هنالك مآخذ على التبريد بالسوائل، إذ أن المياه ناقلة للكهرباء، ما قد يلحق الضرر بالمعدّات باهظة الثمن، وهذا يتطلب بالتالي سوائل بديلة في حال وقوع اتصال بينها وبين أجهزة الكمبيوتر. بالنسبة للكثير من مراكز البيانات الضخمة، يشكّل تطبيق استراتيجية تبريد جديدة بالكامل، مشروع بنية تحتية ضخم. إذ يفرض على المشغّلين أن يفكروا مثلاً بكيفية الحؤول دون انهيار الأرضيات تحت وطأة وزن كلّ السائل اللازم لغمر أرفف من خزائن الكمبيوتر التي ترتفع إلى سبعة أمتار. اضطر ذلك كبار مشغلي مراكز البيانات للاستمرار في استخدام المراوح، تاركين تقنيات التبريد بالسائل لمحبي التجارب.
إلا أن المتطلبات الحاسوبية الضخمة لأنظمة الذكاء الاصطناعي غيّرت المعادلة، فالتطورات التي زادت من سعة الرقاقة، ضاعفت أيضاً حاجتها إلى الكهرباء، وكلّما ازدادت كمية الكهرباء التي تستهلكها الرقاقة، تزيد الحرارة التي تولّدها. يستهلك كلّ مسرّع ذكاء اصطناعي من نوع (Nvidia H100) الذي يُعتبر المعيار الأساسي لتطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، 300 واط من الكهرباء على الأقل، أي نحو ثلاثة أضعاف الكمية التي يستهلكها تلفاز مسطح الشاشة قياس 65 بوصة. ويمكن لمركز بيانات أن يستخدم مئات أو حتى آلاف المعالجات، يتجاوز سعر الواحد منها سعر سيارة عائلية.
اقرأ أيضاً: "إنفيديا": أميركا تحتاج 20 عاماً للحصول على استقلالها في صناعة الرقائق
رقائق "مايكروسوفت"
يعدّ التبريد أسرع تكاليف البنية التحتية التي تتكبدها مراكز البيانات نمواً، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 16%، وفقاً لتقرير صدر في نوفمبر 2023 عن شركة "أوميديا ريسرتش" (Omdia Research). ويؤول ما يصل إلى 40% من إجمالي الكهرباء التي يستهلكها أي مركز بيانات إلى عملية التبريد، بحسب جنيفر هافستيتلر، المسؤولة التنفيذية في مجال استدامة المنتجات في شركة "إنتل".
قالت: "الكهرباء هي الحاجز الأساسي الذي يقيّد مراكز البيانات". حتى أن التحديات الناجمة عن التبريد أجبرت بعض المراكز على الحدّ من بعض أنواع المكونات، وأجبرتها على ترك مساحات فارغة بين الأرفف، أو إبطاء بعض الرقاقات باهظة التكلفة لمنعها من التعرض لسخونة زائدة.
صُمّمت رقائق "Maia" من "مايكروسوفت" لتعمل إلى جانب وحدات تبريد ضخمة، تمرّر السائل عبر لوحات باردة متصلة بها مباشرة. يمكّن ذلك الرقائق من العمل في مراكز بيانات عادية. وتقول "مايكروسوفت" إنها ستبدأ بتركيبها عام 2024.
ولفت مارك روسينوفيتش، كبير المسؤولين التقنيين في قسم "أزور" لدى "مايكروسوفت" والمتخصص بالخدمات السحابية، إلى أن الشركة تأمل بأن يتسع دور التبريد بواسطة السائل أكثر في جميع العمليات في مراكز بياناتها. وقال في مقابلة من منزله: "هذه تقنية أثبتت نجاحها، وهي في مرحلة الإنتاج"، مضيفاً أن هذه التقنية "في طور الإنتاج منذ مدة طويلة، بما في ذلك العمل عليها هنا تحت مكتبي على جهاز الكمبيوتر الذي استخدمه للألعاب".
تعتزم "مايكروسوفت" أن تطوّر أيضاً خلال السنوات القليلة المقبلة مراكز بيانات قادرة على استيعاب التبريد بالغمر، حيث تعمل أرفف الكمبيوتر داخل أحواض تبريد. وفي حين هذه الطريقة ستكون أكثر فعالية من اللوحات الباردة، إلا أنها تتطلّب تحققاً واسعاً من التجهيزات على كلّ المستويات.
اقرأ أيضاً: هل تستعيد "إنتل" ريادتها باستثمار 20 مليار دولار في صناعة الرقائق؟
تسخين المسابح
السؤال الشائك عند اعتماد التبريد بالغمر يتمحور حول نوع السائل الذي يتعيّن استخدامه. استعملت التجارب السابقة مواد كيميائية تُعرف بالدائمة، هي البولي فلوروالكيل التي لا تتحلّل طبيعياً. إلا أن المخاوف المتعلقة بالسلامة والقوانين البيئية الناظمة أدّت إلى خفض استخدام هذه المواد، وكانت شركة "ثري إم" (3M) المنتجة الضخمة لهذه المادة أعلنت في نهاية 2022 أنها ستتوقف عن صنعها.
لم تكشف "مايكروسوفت" عن نوع السوائل التي ستستخدمها أنظمتها. وكانت شركة الطاقة "شل" قد طوّرت عملية لتحويل الغاز الطبيعي إلى سوائل صناعية، وأعلنت "إنتل" أنها تعمل على اختبارها.
في غضون ذلك، لم تتضح بعد خطط شركات الرقائق الأخرى المتعلقة بالتبريد السائل. وقالت هافستيتلر إن "إنتل" عدّلت حديثاً سياساتها بما يتيح لعملائها صنع أنظمة التبريد السائل الخاصة بهم، من أجل تبريد بعض منتجاتها، من دون أن يؤدي ذلك إلى إلغاء كفالتها لهذه المنتجات.
قد يكون ضرورياً إجراء تحديث جوهري لضمان مواكبة مراكز البيانات للمتطلبات المرافقة لتطور أنظمة الذكاء الاصطناعي. ولكن مسألة العثور على الأماكن المناسبة لإنشاء هذه المراكز بدأ يطرح تحديات، إذ ترفض بعض المجتمعات المحلية استضافة معامل تستهلك كمّاً هائلاً من الكهرباء، ولا توفّر إلا القليل من فرص العمل.
إلا أن التبريد بالسائل يمكن أن يجعل منشآت أنظمة الذكاء الاصطناعي جيراناً أفضل، إذا أصبحت هذه المرافق مصدراً للمياه الساخنة.
جون لين من "إكونيكس" (Equinix)، أكبر مورّد مصادر خارجية لمراكز البيانات، هو أحد المشغلين الذين بدؤوا بتطبيق التبريد باستخدام اللوحة الباردة. وقال إن الشركة ستستخدم تدفق المياه من إحدى منشآتها في باريس من أجل تدفئة أحواض السباحة خلال الألعاب الأولمبية عام 2024.