"بلومبرغ بيزنيس ويك" تحل لغز سفينة الشحن الألمانية "اس اس ميندين" وتكشف هوية المُنقّب عن الكنوز في كبد البحار والمحيط

ملك البحث عن الكنوز في أعماق البحار

سفينة "اتش ام اس إنديورنس" (HMS Endurance) التي غرقت في 1915 واكتُشفت عام 2022 - المصدر: بلومبرغ
سفينة "اتش ام اس إنديورنس" (HMS Endurance) التي غرقت في 1915 واكتُشفت عام 2022 - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

رصد ضبّاط خفر السواحل في أيسلندا إحدى السفن على شاشات أجهزة الكمبيوتر داخل غرفة التحكم، وقد بدت كنقطة وحيدة في المدى الأزرق الواسع على الخارطة الملاحية. تجولت تلك النقطة دائرياً لمسافة 120 ميلاً في عرض البحر لعدّة أيام في شهر أبريل عام 2017 في ظروف جويّة لا يجرؤ بحّار عاقل على مجابهتها، وسط رياح عاتية عصفت في البحر الهائج، فيما امتزجت قطرات المطر مع حبّات البرد.

من شكل السفينة، لم يبد أنها كانت في مهمّة لصيد الأسماك. فحين توقفت "سيبيد كونستراكتور" (Seabed Constructor) في ريكيافيك لتحمّل معدّاتها، لفت مظهرها الغريب أنظار فرق الأخبار المحلية واستدعى زيارة من مسؤول في خفر السواحل. إذ كان هيكلها البرتقالي الجميل يحمل نظام اتصال مستوحى من عصر غزو الفضاء ومهبطاً للطائرات المروحية، إلى جانب رافعة برزت على شكل ذيل عقرب من مؤخرة السفينة. وفيما تقاذفت الأمواج الـ"كونستراكتور" وسط العاصفة، تواصل خفر السواحل مع السفينة سائلاً عمّا تفعله. كانت اجابتها المقتضبة بكلمة "أبحاث" مبهمة لدرجة مغيظة، ما دفع بخفر السواحل لإرسال مروحية للتحقق من أمرها. حلّق الطيار فوق السفينة وأبلغ عن رؤية معدّات تُنزل وتُرفع من المياه.

كانت سفينة "كونستراكتور" خارج المياه الإقليمية الأيسلندية، ولكن داخل منطقة نفوذها الاقتصادية، على بعد بضعة أميال عن كابل انترنت بحري. تناقش خفر السواحل حول ما يتوجب فعله، ثمّ قرروا ارسال دورية مسلحة بقارب لمرافقة السفينة نحو الميناء.

المصدر: بلومبرغ/ خفر السواحل الأيسلندي
المصدر: بلومبرغ/ خفر السواحل الأيسلندي

مهمّة في أيسلندا

حين وصلت السفينة إلى ريكيافيك، اقتيد قبطانها واثنان من مديري العمليات إلى قسم الشرطة ليخضعوا للاستجواب من قبل محققين أيسلنديين. أبدى الرجال الثلاثة تعاوناً حذراً، وتبيَّن أنهم أفراد طاقم متعاقدون يعملون لصالح عميل لندني، لا يستطيعون أو لا يشاؤون الكشف عن هويته. أبلغوا السلطات أنهم كُلّفوا بمهمة البحث عن مقتنيات قيّمة على متن سفينة الشحن الألمانية "اس اس ميندين" (SS Minden) التي أُغرقت خلال الحرب العالمية الثانية، وتُرك حطامها راكداً على عمق 2240 متراً تحت سطح الماء.

كانت سفينة "ميندين" في البرازيل حين اندلعت الحرب عام 1939. وفي حين لا تذكر الحمولةَ التي كانت تنقلها إلى ألمانيا النازية، تشير السجلات التاريخية إلى أن عدداً من رجال الأعمال الألمان كانوا على متنها، بينهم مصرفيان. ويبدو أن حمولتها كانت قيّمة جداً لدرجة أنها حين اعترضتها البحرية البريطانية، فضّل قبطانها إغراقها بنفسه على أن يسمح بوقوعها في أيدي الأعداء.

موقع Wrecksite
موقع Wrecksite

تردد خفر السواحل في البداية بالسماح للسفينة باستكمال مهمّتها، إلا أنه رضخ بعد بضعة أسابيع بعد أن تلقّى رسالة من محامي "كونستراكتور" الذي هدّد باللجوء إلى القضاء. بالنتيجة، تحصَّل الفريق على تصريح بيئي مكّنه من العودة لانتشال حمولة سفينة "ميندين". تضمّن طلب التصريح خطة لاستخدام غواصات تعمل بالبطارية يتم التحكم بها عن بعد لفتح هيكل السفينة، وثني صفيحة معدنية، ومن ثمّ استخراج صندوق خشبي من غرفة البريد. وقد جاء في الطلب "يتوقع عميلنا أن تستغرق العملية ما بين 24 إلى 48 ساعة في حال كانت الأحوال الجوية مساعدة".

ممول التنقيب عن الكنوز

لم تكتشف السلطات الأيسلندية قطّ هوية ذلك العميل الغامض الراعي لبعثة استكشاف سفينة "ميندين"، وما كان ليخطر في بالها أن السفينة الألمانية ما هي إلا واحدة من عشرات السفن الغارقة التي سعى خلفها على مرّ السنين. فالتقارير الإعلامية عن اكتشاف حطام السفن وصفت الرجل بالمتموّل اللندني المجهول، الذي عُرف باسم "منتشل الحطام" أو "المبادر"، هو الذي أطلق عملية فائقة التطوّر التقني تهدف إلى استرجاع كنوز تاريخية مدفونة تعود إلى قرون مضت وحضارات مختلفة على امتداد البحار والمحيطات. وقد نجح في الحفاظ على سرية عمله حتى الآن.

لحلّ اللغز، أجرت "بلومبرغ بيزنيس ويك" تحقيقاً ركّز على عمليات هذا المتموّل على مدى 11 شهراً، وأجرت مقابلات مع أكثر من 40 موظفاً حالياً وسابقاً في شركاته، بالإضافة إلى متعاقدين وعلماء آثار ومسؤولين حكوميين وضباط إنفاذ قانون ومحامين. وقد طلب العديد منهم عدم الكشف عن هوياتهم خشية التعرض لعواقب قانونية بسبب الحديث عن مسائل يعتبرها المتموّل شأناً خاصاً. استندت البحوث أيضاً إلى تقارير الشركات ووثائق قانونية وسجلات حكومية وبيانات رصد مواقع السفن عبر الأقمار الاصطناعية للتحقق من عمليات استكشاف ظلتّ طيّ الكتمان في السابق.

ملاذ ضريبي في كبد البحر

جذب لمعان الكنوز في باطن البحر المغامرين منذ الأزل، ولكن الكثير منهم انتهوا أفقر حالاً بدل أن يغتنوا.

تختزن البحار زهاء ثلاثة ملايين سفينة غارقة محمّلة بكنوز تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، ولكن انتشالها مهمّة محفوفة بالمخاطر والصعاب، ومكلفة أيضاً. إلا أن تطوّر المعدّات التكنولوجية المستخدمة تحت الماء مهّد لاستكشاف مساحات شاسعة في قعر المحيطات تحتضن إلى جانب الأحجار الكريمة والكنوز الثقافية، عناصر نادرة ونفط وغاز ومعادن تُستخدم في صناعة البطاريات وأيضاً كائنات لم يكتشفها العلم بعد. وكل ذلك بعيد عن سطوة الهيئات الناظمة الحكومية التي قد تفرض قيودها على روّاد الأعمال المتحمّسين.

في السباق على الذهب في قعر البحر، الفائز هو من يصل أولاً. وحالياً، تقتصر المشاركة في هذا السباق على أصحاب المصالح من شركات وأثرياء ربما لا تنسجم غاياتهم مع تطلعات باقي البشرية. ولا شكّ أن الشخص المعروف بـ"المبادر" هو أكثرهم فعالية، إذ يُعدّ أحد أنجح متصيّدي حطام السفن في العصر الحديث، وربما أنجحهم في التاريخ. اسمه الحقيقي أنطوني كلايك، يبلغ من العمر 43 عاماً يعمل مديراً تنفيذياً في أحد صناديق التحوّط ونادراً ما يغادر اليابسة. ربما يعزى البحث الذي يقوده كلايك عن حطام السفن إلى مسعى أكثر شعبية في أوساط كبار الأثرياء، هو البحث عن تقليل الضرائب. ففي مطلع الألفية، بدأ محاسبو الشركات والمصرفيون في المركز المالي في لندن بالبحث عن ملاذات أكثر ابتكاراً لتوظيف أموال عملائهم، مثل الاستثمار في توزيع أفلام "هاري بوتر"، أو دفع مكافآت على شكل زجاجات من النبيذ الفاخر.

أسهمت شركة "روبرت فرايرز" لإدارة الأصول في لندن في هذا المسعى من خلال طرح فكرة البحث عن حطام السفن من أجل توفير الضرائب. وقد استندت الفكرة إلى إمكانية التعويض عن خطر خسارة ملايين الدولارات من خلال المطالبة بإعفاء ضريبي ضخم في حال الفشل في العثور على حطام سفينة مفقودة. وقد أنشأت "روبرت فرايزر" لهذه الغاية شركات مصمّمة خصيصاً لتولّي عمليات انتشال كلّ حطام على حدة، ثمّ استخدمت الرافعة المالية وغيرها من الحيل المحاسبية لتضخيم الإعفاءات الضريبية للمستثمرين.

مدير صندوق تحوّط مولع بحطام السفن

روّجت "روبرت فرايزر" في كتيبها لعصر جديد من اكتشافات السفن بواسطة روبوتات بحرية بقيمة ملايين الدولارات وأجهزة سونار جانبية قادرة على إنتاج خرائط دقيقة ثلاثية الأبعاد لقاع المحيط. ضمّ أوائل المستثمرين في الشركة مجموعة من المشاهير وروّاد الأعمال في مجال التكنولوجيا، بالإضافة إلى مديرين تنفيذيين في صندوق التحوّط اللندني "مارشال وايس". فالصندوق الذي أسّسه عام 1997 بول مارشال وإيان وايس نمى ليصبح أحد أكبر صناديق التحوّط في لندن، ثمّ في العالم. وهو يدير اليوم أصولاً تقدّر بـ62 مليار دولار، ويشتهر بقدرته على تحقيق الأموال في الأوقات الجيدة كما في السيئة. وقد استثمر كلّ من مؤسسيه في مشروع "روبرت فرايرز" البحري، ومعهما كلايك الذي كان حينها مديراً تنفيذياً شاباً موهوباً في "مارشال وايس".

نشرت صحيفة " فايننشال تايمز" تقريراً عن صندوق التحوّط عام 2002، تحدّثت فيه عن كلايك الذي أنشأ بعد تخرجه من جامعة "أوكسفورد" نظام إدارة محافظ فعّال يتيح مراجعة توصيات نحو ألف محلل للأسهم لعرض أفكار حول التداولات. ويقول الأشخاص الذين عملوا معه إنه شغوف بالتكنولوجيا والبيانات، وأشار عدد من الذين تحدثوا في المقابلات لإعداد هذا المقال طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم بسبب توقعيهم اتفاقيات عدم إفصاح إلى أن الرجل كوّن ولعاً خاصاً بحطام السفن. (قال متحدث باسم "مارشال وايس" إن كلايك قام بهذه الاستثمارات بصفته الشخصية ولا علاقة لصندوق التحوّط بها).

الكنز الضائع في مياه لبنان

بحلول عام 2015، أقامت "روبرت فرايزر" شراكة مع "أوديسي مارين أكسبلورايشن" (Odyssey Marine Exploration) الرائدة في انتشال المقتنيات من أعماق البحار. وقد جذبت الوحدة البحرية التابعة للشركة المالية حوالي 100 مستثمر، ورعت بعثات استكشافية حول العالم، منحت كلاً منها اسماً رمزياً خاصاً وشركة جاهزة. ولعلّ المشروع الأكثر طموحاً كان ذلك الذي حمل اسم "إنيغما" (Enigma) الساعي للبحث عن حطام تاريخي لسفينة "نابريد" (Napried) التي يقال إنها كانت محمّلة بقطع أثرية ثمينة حين غرقت قبالة السواحل اللبنانية عام 1872.

كانت السفينة تنقل حينها شحنة لصالح القنصل الأميركي في قبرص لويجي بالما دي سيسنولا الشغوف بالتحف الأثرية من منطقة البحر المتوسط. ففي حين كان يعدّ الرجل جامعاً للتحف في ذلك الزمن، يمكن توصيفه اليوم على الأرجح بناهب آثار. شحن سيسنولا حوالي 30 ألف منحوتة وقطعة سلاح أثرية وأوان مطبخية من حقبة ما قبل الميلاد إلى الولايات المتحدة حيث يمكن مشاهدتها حتى اليوم في المعرض الذي يحمل اسمه داخل متحف ميتروبوليتان للفنّ في نيويورك، إلا أنه فقد حوالي 5 آلاف قطعة عند غرق سفينة "نابريد".

استثمر مارشال ووايس وكلايك في مشروع "إنيغما". وقال كولين إيمسون، رئيس مجلس الإدارة التنفيذي لـ"روبرت فريارز" حينها إن كلايك كان أكثرهم حماساً وانخراطاً في أدق التفاصيل، بما يشمل متابعة المكان المحتمل لوجود الحطام. وفي حين لم تعثر البعثة على سفينة "نابريد" إلا أنها وقعت على العديد من السفن التجارية التي تعود إلى آخر أيام السلطنة العثمانية، إحداها ضخمة جداً لدرجة أن علماء الآثار أطلقوا عليها اسم "كولوسوس" (Colossus). ووجدوا في داخلها جراراً مزججة بالفيروز مليئة بحبوب الفلفل وفخاريات صينية تعود إلى سلالة مينغ ونراجيل تركية.

قبرص تصادر مقتنيات انتشلت من السفينة "كولوسوس"

أنزل فريق "إنيغما" غواصة مربوطة غير مأهولة للوصول إلى سفينة "كولوسوس"، وقد استخدمت أكواب شفط مركبة على أذرعة آلية لانتشال مئات المقتنيات بحذر في عملية قُدّرت تكلفتها بمئات آلاف الدولارات على أقل تقدير. وعلى الرغم من أن أهمية الشحنة تكمن في قيمتها التاريخية، إلا أنه منذ البداية كانت نيّة "روبرت فرايز" وعملائها بيع بعض من المقتنيات على الأقل إلى جامعي التحف بهدف تحقيق الربح. وقال إيمسون "لا تحتاج إلى الكثير من جرار سلالة مينغ لجعل الأمر يستحق العناء".

ولكنهم لم يحصلوا على الفرصة لتحقيق مرادهم، فحين توجهت السفينة إلى قبرص للتزوّد بالوقود في ديسمبر 2015، أوقفتها السلطات واستحوذت على كافة التحف المستخرجة من "كولوسوس". إذ تتشدّد السلطات القبرصية في مسائل الإرث الثقافي، ربما بفعل ما تسببت به أنشطة سيسنولا نفسه، وقد أفرجت لاحقاً عن السفينة الاستكشافية ولكنها تحتجز الحمولة في الجزيرة منذ ذلك الحين.

نزاعات على ملكية المقتنيات

يرى إيمسون من "روبرت فرايز" أن ثمّة ثلاثة أسئلة أساسية حول كلّ حطام سفينة: هل يمكنك العثور عليه؟ هل يمكن تمويل عملية الانتشال؟ هل يمكنك الاحتفاظ بالحمولة؟ وغالباً ما يسبب السؤال الأخير الإشكالية الأكبر. فالمسؤولون القبارصة ليسوا وحدهم من يقفون في وجه صيادي الكنوز، فقد صادقت 73 دولة على معاهدة الأمم المتحدة لحماية التراث الثقافي المغمور بالمياه عام 2001 التي تنصّ على اتخاذ الأطراف الموقعة على الاتفاقية "كافة الإجراءات المناسبة" للتصدي للاستغلال التجاري لحطام السفن. حتى أن بعض الأكاديميين يمنحون قدسية للسفن الغارقة لدرجة يعتبرون أنه لا يحق للغطاسين وآلاتهم أن يمسّوا مكان الحطام. وكان روبرت بالاراد، خبير الجيولوجيا البحرية الذي اكتشف حطام "التايتانيك" قال بعد أن نهب مصطادو الكنوز السفينة الأشهر في العالم "أنت لا تذهب إلى متحف اللوفر وتلمس الموناليزا باصبعك".

من ناحية أخرى، ثمّة علماء آثار يؤيدون انتشال حمولات السفن الغارقة، ولا يرون منفعة لأحد في إبقاء المقتنيات التاريخية مدفونة تحت الماء. فيفضلون رفعها وعرض ولو جزء منها. وقد شبّه أحد أعضاء هذا التيار (طلب عدم الكشف عن اسمه لمناقشته مسائل حساسة) المنتمين إلى مدرسة "عدم اللمس" بالمتطرفين الدينيين، ووصفهم بـ"حركة طالبان الآثار".

من الناحية التقنية، لا شيء يمنع طواقم البحث عن السفن الغارقة من انتشال أي شيء يريدونه من قاع البحر، ولكن حتى الكنوز الغارقة كان لها مالك في الماضي، وعلى الباحثين أن يحاولوا على الأقل العثور على مالكيها القانونيين. إلا أن ذلك قد يؤدي إلى ادعاءات وادعاءات مضادة تستغرق سنوات أمام المحاكم. مثلاً، كانت "كولوسوس" تحمل مجموعة من الأواني المصنوعة في الصين قبل 500 سنة اشتراها تجار أتراك لصالح قصر سلطان عثماني توفي قبل زمن طويل. فلمن تعود ملكية الحمولة اليوم؟ حاولت "إنيغما" الاستعانة بمحامين في قبرص قالوا إنه تم العثور على السفينة في المياه الدولية حيث لا صلاحية للحكومة القبرصية، إلا أن هذا المسعى تعرقل بفعل البيروقراطية القضائية في الجزيرة. (قال متحدث باسم "إنيغما" إن البحث عن "كولوسوس" كان عملية "علمية بحتة" بتمويل من أطراف جدد ولم يعد لكلايك علاقة بالمشروع. وقال متحدث باسم كلايك إن حصته في المراحل الأخيرة من المشروع لم تتخط 5%).

شركات مدعومة من كلايك

انتهت حقبة البحث عن حطام السفن لدى "روبرت فرايز" قبل أن يتسنى لها حلّ هذه القضية. فقد أطلق المحققون الضريبيون في بريطانيا حملة متشددة ضد خطط التهرب الضريبي شملت رفض الحسومات الضريبية التي طالب بها المستثمرون في الشركة بعد إجراء مراجعة لها. ومن دون الإعفاءات الضريبية، فقد البحث عن الكنوز جزءاً أساسياً من جاذبيته. برأي إيمسون، كانت الصفقات "شرعية وقانونية وتجارية تماماً"، فيما رفضت الهيئة البريطانية المسؤولة عن الضرائب التعليق.

بحلول ذلك الوقت، كان المديرون التنفيذيون في "مارشال وايس"، وبينهم كلايك منزعجين أصلاً من شركة "روبرت فرايزر" حسب ما أفاد به أشخاص مطلعون على مجريات الأحداث. حتى أن كلايك ألمح في بعض الاجتماعات إلى أنه قادر على تحقيق نتائج أفضل من دونهم، وهو في الحقيقة كان قد بدأ أصلاً العمل من دونهم خلف الكواليس.

قبل نحو عقد، سُجِّلت عدّة شركات تحمل أسماء بحرية مبهمة في المملكة المتحدة، لم تكن هوية أصحابها واضحة تماماً. مثلاً أدرجت شركة "أدفانسد مارين سيرفيسز" (Advanced Marine Services) مساهمها الرئيسي على أنه صندوق في جزيرة مان، كما أدرجت شركات أخرى كلّاً من كلايك أو مارشال كمستثمرين، أو وظفت مديرين تربطهم علاقات وثيقة مع "مارشال وايس". أنشئت هذه الشركات خصيصاً لانتشال المقتنيات القيِّمة من حطام السفن وبيعها. وبحسب عدة مصادر قابلتهم "بلومبرغ بيزنيس ويك"، كان كلايك الطرف الرئيسي خلف هذه الشركات. فقد طلب بين عامَيْ 2015 و2016 نحو ستّ غواصات غير مأهولة من مصنّع نرويجي. تبدو هذه الروبوتات السبّاحة أشبه بطوربيدات باللون البرتقالي الساطع قادرة على الغوص حتى عمق 6 آلاف متر تحت الماء، من دون التعرّض لأي مخاطر مثل تلك التي أصابت غواصة "تايتان" التي انفجرت داخلياً خلال عملية غوص لمشاهدة التايتانيك، ما أدى إلى مقتل جميع ركابها الخمسة. تبلغ تكلفة كلّ مركبة عدّة ملايين من الدولارات في العادة، إلا أن كلايك تمكّن من الحصول عليها بسعر جيد لأن قطاع الطاقة البحرية كان في فترة ركود، ولم يكن هناك إقبال على شراء هذه الآليات كما العادة، بحسب شخصين مطّلعين على الصفقات.

أوشن إنفنيتي
أوشن إنفنيتي

استخدام غواصات لانتشال اسطوانات الذهب

استندت فكرة كلايك المبتكرة إلى تحميل جميع الغواصات غير المؤهولة على السفينة، ثمّ نشرها بطريقة تبدو أشبه بسرب من الطائرات المقاتلة، ما يمكّنها من تغطية مساحات شاسعة في قعر المحيط بواسطة السونار. إذ يمكن من خلال زيادة عدد هذه الغواصات البحث في مساحة أوسع والحصول على صور أفضل، وفي الوقت عينه التقليل من الوقت المستغرق في عرض البحر والحدّ من تكلفة الوقود واليد العاملة. إلى ذلك، استحوذ كلايك وغيره من المستثمرين في شركاته على شركات في لويزيانا وتكساس تضمّ موظفين أصحاب خبرة في تشغيل هذه الروبوتات في قطاعَيْ النفط والغاز.

يصف الموظفون والمتعاقدون كلايك بصاحب العمل المتطلّب الذي بدا أن في متناوله كماً غير محدود من الأموال. عام 2015، باع صندوق "مارشل وايس" حصة بنسبة 25% إلى عملاق الأسهم الخاصة في وول ستريت "كوهلبرغ كرافيس روبرتس أند كو" (Kohlberg Kravis Roberts & Co) مقابل أسهم بقيمة حوالي 150 مليون دولار ومبلغ نقدي لم يُكشف عنه (بلغ ربح كلايك الصافي أقل من خمسين مليون دولار). وفي حين لم يُكشف علناً عن الأرباح التي حققها كلايك، أشار تقرير لبلومبرغ يعود إلى عام 2018 إلى أنه كان الكاسب الفردي الأكبر خلال ذلك العام حتى شهر فبراير. الواضح إذاً أن كلايك وشركاؤه لا يحتاجون إلى مدخول إضافي من البحث عن الكنوز، بل بدا أنهم يهوون التحدّي، على الرغم من أن كلايك لم يظهر قطّ أي اهتمام بخوض البحار بنفسه.

استند كلايك جزئياً إلى سجلات شركة "لويدز لندن" المحرّك الاقتصادي لقطاع الشحن منذ القرن الثامن عشر، لتحديد النقاط التي ينطلق منها في بحوثه. واكتشف الباحثون الذين يعملون لديه أن سوق التأمين بصدد رقمنة سجلاتها، بما فيها مستندات الشحن وتصاميم السفن والرسائل وشهادات السلامة، التي تشكّل مجموعة بيانات جذّابة من وجهة نظر محلّلي صناديق التحوّط.

سرعان ما بدأت أسراب كلايك من الغواصات تعثر على أهداف أو ما يجوز وصفه بـ"الارتدادات الصلبة" في لغة الرادارات. عام 2016، تجولت تلك الغواصات عند موقع السفينة الأميركية البخارية "اس اس كولورادان" (SS Coloradan) التي أغرقها مركب "يو بوت" ألماني على بعد 250 ميلاً قبالة سواحل كيب تاون خلال الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى مقتل ستّة من أفراد الطاقم. احتوى حطام السفينة على اسطوانات من الذهب المترسب تمكنت بعثة كلايك من انتشالها لاحقاً. (قال المتحدث باسم كلايك إنه لم يكن مساهماً في الشركة التي طالبت بملكية حمولة الذهب، ولكن رئيسه بول مارشال كان مساهماً فيها إلى جانب أحد المديرين التنفيذيين الآخرين في (مارشال وايس) وبعض المتعاونين الاعتيادين مع كلايك، بحسب ما أظهرته سجلات الشركة).

تحديد المكافأة والمالكين

في العام نفسه، عثر كلايك على سفينة الشحن الأسكتلندية الغارقة "اس اس بينموهر" (SS Benmohr) التي كانت محمّلة بـ50 طنّاً من العملات الفضية الصادرة عن مؤسسة سكّ العملات في بومباي، قبالة سواحل غرب أفريقيا، بحسب مصدرين مطّلعين على العملية. أُنزلت الحاويات على عمق 4500 متر حيث عبأتها الروبوتات بالفضة وسحبتها إلى الأعلى، في عملية استغرقت 12 ساعة. صُهرت القطع الفضية لاحقاً وبيعت، في حين لم يتم الإفصاح علناً عن العملية وتعيّن على جميع المشاركين فيها التوقيع على اتفاقية عدم إفصاح حفاظاً على السرية. (قال المتحدث باسم كلايك إنه حصل على حصة 25% من إجمالي عوائد انتشال المقتنيات من سفينة "بينموهر").

ظلّ جزء من معادلة إيمسون، المتعلّق بإمكانية الاحتفاظ بهذه الكنوز لتحويلها إلى أموال، يطرح تحديات. إلا أن كلايك وشركاءه توصّلوا إلى طريقة لتبسيط هذه الإجراءات أيضاً. فكلّ شيء يعثرون عليه يبلّغون به مكتب "متلقي الحطام" وهو منصب مبهم أنشأته الحكومة البريطانية للبحث عن المالكين الحقيقيين للبضائع الغارقة حول العالم وضمان حصول منتشليها على مكافأة عادلة. ففي حال ظهر المالكون الحقيقيون، يمكن للشركات المرتبطة بكلايك أن تطالب بمكافأة قد تصل إلى 80% من قيمة الحمولة. وفي حال لم يتقدّم أحد للمطالبة بها في غضون عام، يمكنهم قانونياً الاحتفاظ بكلّ ما يجدونه خارج الأراضي البريطانية.

سعى كلايك أيضاً لإرباك الأشخاص الذين يمكن أن يراقبوا عملياته، فعمد طاقمه أحياناً لنقل بعض المواد من داخل السفينة الغارقة إلى مكان آخر في قاع البحر لانتشالها لاحقاً، في إطار عملية تُعرف بـ"التخزين الرطب". وقد مكّن ذلك كلايك من الحفاظ على سرية أعماله بعيداً عن الحكومات التي قد تحاول وضع يدها على الكنوز، وبعيداً عن المنافسين الذين يتعقبون سفنه عبر الأقمار الاصطناعية. إلا أن هذه التكتيكات لا تخلو من المخاطر. ففي إحدى المرّات شعر أحد خبراء انتشال مقتنيات السفن أنه تعرّض إلى ظلم، فعاد إلى موقع التخزين الرطب من دون علم كلايك وانتشل بضعة أطنان من العملات الفضية، بحسب مصدرين مطّلعين عن قرب على الحادثة. وقد علم فريق كلايك أن الخبير أخذ العملات إلى جنوب أفريقيا وصنع منها أكواباً ليخفي مصدرها.

السفينة الحلم لصائدي الكنوز

طالت شبهات الخداع عمليات كلايك نفسه. ففي عام 2017، بعد التفاوض على عقد لانتشال مقتنيات إحدى السفن مع المملكة المتحدة، أرسل شركاؤه السابقون في "أوديسي مارين اكسبلورايشن" غواصات إلى عمق 2500 متر في مياه شمال المحيط الأطلسي المظلمة لانتشال 526 سبيكة من الفضة من حطام سفينة "اس اس مانتولا" (SS Mantola) الغارقة إبان الحرب العالمية الأولى كانت اكتشفتها الشركة سابقاً. وحين وصلت الغواصات إلى الحطام كانت الفضة قد اختفت. فتبيّن أن بين فترة اكتشاف الحطام والبدء بانتشال المقتنيات، وضع شخص آخر يده عليه، وكان لدى محامي "أوديسي" مشتبه به. فتقدموا بدعوى قضائية في نيويورك للمطالبة بملكية حطام السفينة، والتمسوا من القاضي طلب إفادة من الشخص الذي حمّلوه المسؤولية، قائلين إن "لدى (أوديسي) معلومات موثوقة أن كلايك هو الشخص الذي أمر بانتشال سبائك الفضة من سفينة مانتولا". إلا أن الدعوى القضائية ظلت مكانها، ويعزى ذلك جزئياً لتمنّع "متلقي الحطام" عن مشاركة المعلومات مع محامي "أوديسي".

تظهر الوثائق التي حصلت عليها "بلومبرغ بيزنيس ويك" بموجب طلب تقدمت به استناداً إلى قانون حرية المعلومات أن شبهات "أوديسي" كانت في محلّها. فقد تحصل المتعاقدون مع كلايك على الفضة وطالبوا بمكافأة من خلال مكتب متلقي الحطام. حصل ذلك بطريقة قانونية تماماً بعيداً عن أنظار الإعلام.

الغليون الإسباني وكنوز كولومبيا

كانت "الغليون الإسباني" التي عثر عليها كلايك قبالة سواحل كولومبيا عام 2015 واحدة من أوائل اكتشافاته التي حملت له أكبر فرص للثراء ولكن أيضاً الكثير من التعقيدات. فسفينة "سان خوسيه" التي أغرقتها سفن حربية بريطانية قبل ثلاثة قرون، كانت حلم صائدي الكنوز منذ ذلك الحين، حيث كان من المعروف أنها محمّلة بجواهر من الذهب والفضة واللؤلؤ المنهوبة من العالم الجديد وتقدّر قيمتها بين مليار و17 مليار دولار.

في ديسمبر 2015، أعلن الرئيس الكولومبي حينها خوان مانويل سانتوس أن البحرية الكولومبية تمكّنت أخيراً من تحديد موقع السفينة بمساعدة "خبراء دوليين". وعلى الرغم من أنه لم يكشف هوية أولئك الخبراء، إلا أنه أوضح أنهم استخدموا روبوتات تحت الماء. وقال سانتوس إنه سيتم انتشال مقتنيات السفينة لعرضها في "متحف عظيم" ستبنيه البلاد. وعلى الرغم من انتشار الكثير من التفاصيل حول عملية البحث، إلا أن هوية الأشخاص الذين موّلوا العملية وخططوا لها ظلّت مجهولة، حيث كان يشار إلى كلايك في كولومبيا باسم "المبادر".

المصدر: بلومبرغ/ يوتيوب
المصدر: بلومبرغ/ يوتيوب

المصدر: بلومبرغ/ يوتيوب
المصدر: بلومبرغ/ يوتيوب

المصدر: بلومبرغ/ يوتيوب
المصدر: بلومبرغ/ يوتيوب

نزاعات تجهض عملية الانتشال

كانت الحكومة الكولومبية قد أرست عقد البحث عن السفينة على شركة "ماريتيم أركيولوجي كونسلتنت" (Maritime Archaeology Consultants) في سويسرا، وهي شركة متصلة بكلايك مسجّلة في سويسرا، حصلت على تمويل من صندوق خيري في هولندا سبق أن استخدمه كلايك. وبموجب قانون صدر في حينها في كولومبيا، قد يحق لشركة "ماريتيم أركيولوجي كونسلتنت" الحصول على ما يصل إلى نصف الأرباح من مقتنيات السفينة.

إلا أن التربح من صيد حطام السفن ليس أمراً بسيطاً. فبالكاد أُعلن العثور عن سفينة "سان خوسيه" حتى طالبت الحكومة الإسبانية بملكيتها لها. ادّعت أيضاً شركة أميركية منافسة متخصصة في البحث عن الكنوز أن "ماريتيم أركيولوجي كونسلتنت" سرقت إحداثياتها، كما أعرب شعب "كهارا كهارا" الأصلي في بوليفيا الذين نقّب أجدادهم عن المعادن الثمينة المحمّلة على ظهر السفينة عن اهتمامهم بهذه الكنوز.

شكّل ضلوع متموّلين لندنيين في نزاع حول كنوز نهبها الاستعمار أمراً أقل ما يقال فيه أنه محرج. في 2018، عقدت "اللجنة المشتركة لسياسة الآثار البحرية" وهي جمعية بريطانية غير ربحية متخصصة بالإرث البحري اجتماعاً خاصاً للأعضاء عبّروا خلاله عن قلقهم إزاء خطط انتشال سفينة "سان خوسيه". وتحدّث في الاجتماع ممثّل عن إحدى الشركات المرتبطة بكلايك وقال للأعضاء إنه يمكن تمويل عملية انتشال مقتنيات السفينة والمتحف جزئياً من خلال بيع عدد محدود من القطع التي يتم انتشالها، بحسب محضر الاجتماع الذي اطّلعت عليه "بلومبرغ بيزنيس ويك". وحين لفت أحد الأعضاء إلى أن ذلك يعدّ انتهاكاً للاتفاقيات الدولية لمكافحة الاستغلال التجاري لحطام السفن التاريخية، أجاب عالم الآثار إيان بانتر الذي يعمل مع كلايك أن ليس كلّ القطع الموجودة على متن السفينة مهمّة ثقافياً بما يكفي لعرضها. وسأل "ما الذي ستفعلونه بمليون عملة نقدية؟"

مع اشتداد النزاع حول السفينة والتركيز الإعلامي المطالب بالشفافية، أعلنت الحكومة الكولومبية تعليق عملية انتشال مقتنيات "سان خوسيه" وتأجيل بناء المتحف. وهكذا بقيت السفينة مغمورة تحت الماء، وموقعها من أسرار الدولة.

مقبرة جماعية

خلال تلك السنوات، عمل كلايك على مشروع آخر مثير للجدل، ففي هذه الحالة كان حطام السفينة جديداً نسبياً، ما أدّى إلى استفزاز بعض المشاعر. في عام 2017 أرسل فريقاً لانتشال معادن ثمينة من سفينة "اس اس تيلاوا ( SS Tilawa) وهي سفينة ركاب بخارية دمّرتها زوارق يابانية عام 1942، ما أدى إلى مقتل 281 شخصاً من أصل 900 كانوا على متنها، معظمهم من الهنود، في حاثة عُرفت لاحقاً بـ"تايتانيك" الهندية.

عُثر على سفينة "تيلاوا" قبالة سواحل السيشل قبل بضع سنوات من قبل بعثة مدعومة من بول مارشال، رئيس كلايك في "مارشال وايس"، وكانت محمّلة بـ 2364 سبيكة ذهبية تقدّر قيمتها بنحو 40 مليون دولار. انتشل متعاقدون مع كلايك الذهب قبل أن يبحروا إلى أوروبا، ولكنهم حرصوا هذه المرّة على وضع السبائك في قاع البحر في "تخزين رطب" قبل التوقف في عُمان لتبديل الطاقم، تفادياً لتكرار حادثة "كولوسوس" في قبرص مجدداً.

المصدر: Wrecksite
المصدر: Wrecksite

بعد أن أبلغت شركة كلايك مكتب متلقي الحطام البريطاني بالعثور على الفضة، أصدر الأخير قراراً يعتبر جمهورية جنوب أفريقيا المالك الشرعي للشحنة. إلا أن حكومة جنوب أفريقيا المغتاظة من عدم استشارتها قبل البدء بالعملية رفضت دفع أي مكافأة مقابل انتشال مقتنيات السفينة، ما دفع بشركة كلايك لمقاضاتها. وما تزال الدعوى تأخذ مسارها القضائي، حيث عُقدت جلسة استماع أمام المحكمة العليا البريطانية في نهاية نوفمبر، وستبقى المقتنيات الفضية محتجزة في مستودع آمن في بريطانيا إلى حين البتّ في القضية.

لم يسبق لأي جهة أن ربطت الدعوى القضائية بواحد من أنجح صناديق التحوّط اللندنية، كما أن ذوي ضحايا "تيلاوا" لم يُبلغّوا بانتشال المقتنيات من السفينة إلا من الإعلام. وهم على تواصل مع ممثلين عن شركة كلايك ولكنهم لا يعرفون بعد ما تم العثور عليه، وقد رُفض طلبهم بالاطلاع على الصور والمقاطع المصوّرة لتلك السفينة التي ترقى لأن تكون مقبرة جماعية. (رفض متحدث باسم كلايك التعليق على قضية "تيلاوا" بما أن المسألة لا تزال أمام القضاء".

وقالت إيميلي سولانكي التي قُتل والد جدّها في الهجوم إن "مئات العائلات حول العالم ترغب في الاطلاع على ما تبقى من سفينة (تيلاوا) ومعرفة المزيد عن الحادث". وقال أحد الأشخاص المطّلعين على المسألة لبيزنيسويك إن إحدى غواصات كلايك التقطت مشاهد لقوارب نجاة لا تزال متصلة بالسفينة، ما يعني أن بعض الركاب لم يحظوا بالفرصة لإنقاذ أرواحهم. وقد عبّرت سولانكي عن ألمها لوجود مثل هذه الأدلة، وأضافت "أتطلّع إلى اليوم الذي سنكتشف فيه المزيد من المعلومات".

الارتكاز على شركة جديدة

خلال السنوات الأخيرة، ارتكزت محاولات كلايك المتنوعة لاستكشاف أعماق البحار على شركة واحدة هي "أوشن إنفينيتي غروب" (Ocean Infinity Group). سُجلت الشركة عام 2017 في جزر كايمان، بالتالي لا تخضع لضرائب على الشركات كما أن المالكين غير ملزمين بالإفصاح علناً عن هوياتهم. إلا أن الكشوفات المقدمة من قبل فرع الشركة في المملكة المتحدة تشير إلى أن كلايك يملك حصة تبلغ 25% على الأقل من الشركة. كما تظهر أن رئيسها التنفيذي أوليفر بلانكيت قليل الخبرة في المجال البجري، حيث عمل خلال السنتين السابقتين خبيراً في ضرائب صناديق التحوّط.

قدّمت "أوشن إنفينيتي" نفسها كشركة علنية تتفاخر بالابتكارات التقنية التي قادها كلايك، إلى جانب عملها في مجال تأجير المعدّات والعثور على حطام السفن لصالح العملاء. كانت حكومة الأرجنتين من بين العملاء الأوائل للشركة، حيث دفعت لها 7.5 مليون دولار مقابل العثور على غواصة مفقودة. في غضون ذلك، استمرّت الشركة أيضاً في البحث عن الكنوز لصالح مؤسسها بالحماسة نفسها. ولم يكن أفراد الطاقم يعرفون إلى أي بقعة في العالم سيتجهون إلا قبل يوم من الانطلاق مع إلزامهم بالتوقيع على اتفاقيات عدم إفصاح، بحسب ما أفاد به عدد من المتعاقدين، وقد تعيّن عليهم إخفاء وجهاتهم عن عائلاتهم حتى. (قالت "أوشن إنفينيتي" في بيان إنها "جدية جداً" حيال التزاماتها التعاقدية المتعلقة بالسرية تجاه عملائها).

سفينة الكنز النازية

من بين المهام الأولى الكبرى التي تولتها "أوشن إنفينيتي" كان العودة إلى موقع "اس اس ميندين" بعد الحصول على التصريح البيئي من السلطات الأيسلندية. في نوفمبر 2017، أبحرت سفينة متعاقدة مع الشركة إلى مياه شمال الأطلسي وأطلقت تحت جنح الظلام غوّاصة يتم التحكم بها عن بعد. بحلول ذلك الوقت، كان الصحافيون قد اكتشفوا أن صائدي كنوز مجهولين من لندن يحاولون انتشال ما وصفتها صحيفة "ديلي ميل" بـ"سفينة الذهب النازية". إلا أن المؤرخ الأيسلندي إلوجي جوكولسون قال في مقابلة مع صحيفة محلية إنه لا أدلة تشير إلى أن "ميندين" كانت تحمل مقتنيات قيّمة. وأضاف "إمّا اكتشفت الشركة البريطانية معلومات جديدة لم يتنبه لها أحد طوال 80 عاماً أو هم يحتجون بـ(ميندين) للتغطية على أمور أخرى".

غاصت مركبات كلايك نحو سفينة "ميندين" ثلاث مرات، حيث فتحت أجزاء من هيكل السفينة وأزالت بعض الركام للوصول إلى غرف الطاقم وغرفة البريد، تحت إشراف خفر السواحل الأيسلندي. وبحسب التقارير التي رُفعت لاحقاً أمام سلطات البلاد "لم يتم العثور على أيّ مقتنيات ذات قيمة".

إلا أن ثلاثة أشخاص مطّلعين على العملية أكّدوا أنه تم انتشال غرض واحد من الحطام، وكان مهماً بما يكفي بحيث قُدّم لاحقاً إلى مدير تنفيذي من "أوشن إنفينيتي" عند الميناء، هو عبارة عن صندوق خشبي، ولم تشر المصادر إلى ما يحتويه الصندوق، إمّا لأنهم لا يعرفون أو لأنهم لا يريدون الكشف عنه، هذا إذا احتوى على أمر ما. وقال أحد المتعاقدين مع "أوشن إنفنيتي" لم يشارك في مشروع "ميندين" إن فريقه غالباً ما ينتشل أغراضاً شخصية خلال العمل على حطام السفن، ويحتفظ ممثلو الشركة بالمقتنيات الأكثر إثارة. (قالت الشركة في بيان إن تسليم أي غرض يتم انتشاله من مشاريع العملاء إلى ممثّل عن الشركة هو لضمان إيصالها إلى السلطات المختصة بالنيابة عن العميل).

البحث عن الطائرة الماليزية المفقودة

اشتُهرت "أوشن إنفينيتي" بمحاولتها تحديد موقع حطام الرحلة 370 التابعة للخطوط الجوية الماليزية التي فُقدت في مكان ما فوق المحيط الهندي عام 2014 وعلى متنها 239 راكباً. عرض كلايك تقديم خدمات شركته خلال اجتماع في لندن عام 2017 ضمّ ممثلين عن عدد من الحكومات وشركات صناعة الطائرات ومحققين في حوادث الطيران، وتطوّع بسفينة مع سرب من المركبات غير المأهولة، مقترحاً عدم تقاضي أي أجر في حال عدم العثور على حطام الطائرة. وعلى الرغم من إطلاقه عملية بحث دامت 19 أسبوعاً في عام 2018، غطت خلالها الشركة في غضون بضعة أشهر مساحة توازي تلك التي غطتها فرق البحث الأخرى على مدى سنتين، إلا أنها لم تعثر على حطام الطائرة، ولم تحصل بالتالي على مكافأة الـ70 مليون دولار التي رُصدت لها.

وصرّح بلانكيت حينها "على الرغم من أن النتيجة مخيبة جداً للآمال حتى الآن، إلا أننا كشركة فخورون جداً سواء لناحية جودة البيانات التي أنتجناها والسرعة التي تمكّنا فيها من تغطية منطقة واسعة". وبحسب شخص مطّلع على المشروع، تم خلال المسح العثور عن عدد من السفن الغارقة لم يتم الكشف عنها، وهذا أمر لم يذكره بلانكيت.

عودة إلى قبرص

عام 2019، أعادت "أوشن إنفينيتي" جهود البحث عن الكنوز التي يبذلها كلايك إلى نقطة البداية، فأرسلت سفينة إلى البحر المتوسط لاستكمال البحث عن سفينة "نابريد" المحمّلة بمقتنيات أثرية قيّمة لسيسنولا، ولكن سرعان ما رصدت السلطات القبرصية السفينة واحتجزتها في ميناء لارنكا. اعتقلت الشرطة القبطان إلى جانب موظف في "أوشن إنفنيتي"، واتهمتهما بالبحث عن السفينة من دون ترخيص. تم الاتصال بمحامي "أوشن إنفنيتي" في لندن وأقرّ الرجلان بالذنب، فدفعا غرامة وأفرج عنهما. ويبدو أن الاعتقال وضع حداً لبحث كلايك عن "نابريد".

وقالت إدارة الآثار القبرصية في ردّ على أسئلة طرحتها عليها "بلومبرغ بيزنيس ويك" في رسالة إلكترونية إنها تعتبر عمليات البحث عن الكنوز المموّلة من جهات خاصة أعمالاً غير قانونية وغير أخلاقية، تهدد بفقدان مقتنيات تاريخية سواء من خلال تدميرها أو بيعها في السوق السوداء. وأضاف الردّ القبرصي "الأثرياء الذي يبحثون تحت الماء عن الآثار مدفوعون بتحقيق أرباح فردية وليس بالشؤون الأكاديمية أو الحفاظ على الثقافة"، وشدّد على أهمية "منح الأولوية للحفاظ على الإرث الثقافي ودراسته من أجل تقديم مصلحة الأجيال المستقبلية على الأرباح الشخصية".

أوشن إنفنيتي
أوشن إنفنيتي

أوشن إنفنيتي
أوشن إنفنيتي

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

استحواذات جديدة

سواء كان كلايك يبحث عن الربح أو المعرفة، فهو لم يفصح عن ذلك، ليس علناً على الأقل. على أي حال، كسبت مساعيه زخماً بعد تلك الحادثة وتشعّبت إلى طموحات تجاوزت العملات الفضية. في بداية عام 2020، أطلقت "أوشن إنفينيتي" حملة شرائية واسعة، حيث طلبت 23 مركباً بحجم كامل يتم التحكم بها عن بعد من باني سفن في إيطاليا والنرويج. وأطلقت على أسطولها تسمية "أرمادا"، وهو يعدّ أكبر أسطول خاص في العالم من المراكب الروبوتية وينشط في قطاعات النفط والغاز وشركات الكابلات والمناجم في أعماق البحار. ستضمّ المراكب حدّاً أدنى من الطاقم، إلا أن الخطة النهائية تقتضي الاستغناء تماماً عن البحارة وقيادة المراكب من مراكز على اليابسة. وقال بلانكيت في البيان الصحفي الذي أعلن فيه عن عملية الشراء إن "تأثير وحجم هذا الأسطول الروبوتي سوف يطلق أكبر تحوّل في الصناعة البحرية منذ الانتقال من السفن الشراعية إلى السفن البخارية". فازت الشركة أيضاً بمنح حكومية من بريطانيا والنرويج لتطوير أنظمة دفع للسفن صديقة للبيئة بقيمة إجمالية بلغت 17 مليون دولار. (قالت "أوشن إنفنيتي" إنها كانت جزءاً من تكتل شركات استفادت من المنح وعليها مضاعفة الأموال الحكومية من جيبها الخاص).

عام 2021، استحوذت "أوشن إنفينيتي" على مجموعة سويدية متخصصة بالبيانات البحرية، وشركة برتغالية مختصة بالبرامج الالكترونية تحت البحر، وشركة تزويد خدمات تقنية لمزارع الرياح البحرية، وشركة أمن بريطانية. كما نقلت مقرّها إلى مستودع أعيد تجديده على الساحل الجنوبي لإنجلترا، حيث تبدو المنشأة أقرب إلى مجمّع تقني منها إلى موقع بناء سفن. فلا يمكن الدخول إلى غرفة التحكم إلا بعد الخضوع لمسح للقزحية، فيما يجلس سائقو الغواصات الذين يتحكمون بها عن بعد في مقاعد مشابهة لتلك التي يستخدمها هواة ألعاب الفيديو. إذ تولّت شركة ألعاب فيديو تصميم مكان العمل، حتى أن بإمكان السائقين أن يستخدموا وحدات تحكم أشبه بتلك الموجودة في لعبة "اكس بوكس" (XBox) إذا شاؤوا.

Mildren Construction
Mildren Construction

عملاء جدد

من الأمثلة على عملاء "أوشن إنفنيتي" الجدد، مزرعة رياح قبالة لونغ أيلند، حيث تجري الشركة مسحاً بحثاً عن قنابل غير منفجرة. وكان بلانكيت أعلن في العام الماضي أن الشركة تعتزم إطلاق بحث جديد عن الطائرة الماليزية. حتى أن استثمار كلايك القديم في سفينة "سان خوسيه" قد يؤتي ثماره أيضاً، إذ كان وزير الثقافة الكولومبي قال في مقابلة مع "بلومبرغ نيوز" في نوفمبر إن الرئيس غوستافو بيترو يرغب بانتشال الحطام بحلول عام 2026. وإذا حصل ذلك، يمكن لشركة "ماريتيم أركيولوجي كونسلتنت" المرتبطة بكلايك التي اكتشفت الموقع أن تطالب بأجر عن إيجادها السفينة، حتى لو اضطرت لخوض معركة قضائية وسياسية لتحقيق ذلك. وقال متحدث باسم كلايك إنه تم تصنيف محتويات الحطام على أنه جزء من الإرث الوطني الكولومبي، ما يعني أنه لا يحقّ لأي جهة وضع يدها عليه، وأن "ماريتيم أركيولوجي كونسلتنت" ستعمل على انتشال السفينة مقابل أجر عن خدماتها يتم الافاق عليه مع الحكومة الكولومبية.

رعى كلايك في العام الماضي مشروعاً بقيادة "أوشون إنفنيتي" للبحث عن سفينة "اتش ام اس إنديورنس" (HMS Endurance) التي فُقدت تحت جليد القطب الجنوبي قبل أكثر من قرن بعد أن هجرها المكتشف البريطاني إيرنتس شاكلتون. استخدم كلايك اسم صندوق خيري للمشاركة في المشروع حتى يبقى اسمه بعيداً عن الإعلام. (سلّط عدد من الأشخاص الضوء على دوره الرائد في المشروع في مقابلات مع بيزنيسويك، وهو ما تؤكد عليه سجلات الشركات والجمعية الخيرية أيضاً). أجرت المروحيات والغواصات غير المأهولة والأنظمة الصوتية الكهرومغنطيسية عملية بحث واسعة إلى حين خرجت سفينة "إنديورنس" أخيراً من الظلمة بحالة سليمة بفضل المياه المثلجة التي حافظت عليها، ما شكّل لحظة محورية في تاريخ علم الآثار تحت البحار.

فتور الحماس

عرضت قناة "سكاي نيوز" بثاً مباشراً من السفينة البحثية، حيث تحدث المؤرخ دان سنو الذي كان على متنها عن سفينة شاكلتون التي وصفها بـ"الاكتشاف الذي يحصل مرّة في العمر"، وأعلن أن المشروع سيتقدم بطلب حماية قضائية لمنع أيّ كان من إزالة أي غرض من السفينة أو التعرض لها بأي شكل من الأشكال. وقال سنو إن أعداداً لا متناهية من حطام السفن باتت اليوم في متناول اليد "وواجبنا حمايتها لأن أشخاصاً سيئين يسعون لنهبها وتدنيسها". فقد بدا وكأنه لا يعلم أن المموّل الرئيسي لبعثة البحث عن "إنديورنس" يستبيح حطام السفن ويستخرج محتوياتها منذ ما يزيد عن عقد.

تعليقاً على ذلك، قال المتحدث باسم كلايك "ثمّة قوانين دولية صارمة تتعلق بانتشال المقتنيات من حطام السفن، وفيما يخصّ أنطوني أي هيئة يستثمر فيها يجب أن تلتزم بهذه القوانين".

تلقى كلايك في يوليو رسالة إلكترونية من مراسل "بلومبرغ بزنيس ويك" أورد له فيها تفاصيل عن مسيرته في عالم البحار، فوافق الرجل أخيراً على الخروج عن صمته والحديث علناً، قائلاً في مقابلة عبر الهاتف "لا أزاول ذلك لكسب الرزق، بل لأنني أجد من المثير استخدام التكنولوجيا لحلّ المشكلات تحت البحار". وهو يقدّر أنه شارك في 30 عملية انتشال مقتنيات من حطام السفن، كان أحياناً المستثمر الرئيسي فيها وأحياناً أخرى مستثمراً ثانوياً، في بعض الحالات كانت شركاته تعمل بالنيابة عن عملاء، وفي مرات أخرى عمل بشكل مع مالك شحنات مفقودة مقابل أجر، منها شركات تأمين على سبيل المثال.

ولكن يبدو أن حماسة كلايك للبحث عن حطام السفن قد فترت، إذ قال إنه ليست لديه مشاريع جديدة حالياً، مع ذلك سيفكر في الأمر إذا ما جاءته فرصة ما. وقال "إذا جاءت الفرصة إليّ فربما أنتهزها". إلا أنه يعتقد أن العالم بلغ ذروة حطام السفن، وانتقل إلى مرحلة جديدة.

حمى الكنوز

طموح كلايك الأكبر هو أن تتحوّل "أوشن إنفنيتي" إلى شركة رائدة عالمياً في مجال التكنولوجيا تحت البحار. وهو يرى أن المملكة المتحدة بكيانها الحديث باتت تخشى المخاطرة بإنتاج الروّاد. وقال "أريد أن أذهب إلى المستوى الأعلى، هذه من سمات شخصيتي".

خلال الاتصال الهاتفي المقتضب، لم يستطع كلايك أن يقدّم إجابة واضحة على سؤال رئيسي: لماذا يتكبد هذا العناء؟ فحتى باعترافه الشخصي، لم يتم الكشف عن الكثير من السفن التي عثر عليها. وعلى الرغم من صعوبة التأكد نظراً للتفاوت الكبير في حجم المكافآت عن انتشال مقتنيات حطام السفن، فمن غير الواضح ما إذا كان حقق أي أموال تذكر من هذه العمليات. حتى أن اكتشافاته الأكثر أهمية جلبت له المتاعب أكثر من الأرباح، وحتى لو جنى أي أموال فستكون مبالغ لا تذكر بالمقارنة مع 62 مليار دولار يديرها صندوق "مارشال وايس"، فلا بدّ أن هناك مبادرات أخرى أقل خطورة يمكن أن يقوم بها.

يعتقد إيمسون الذي كان أول من طرح فكرة حطام السفن لـ"مارشال وايس" حين كان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة "روبرت فرايز" أنه يعرف الإجابة. فالمصرفي التقليدي لعب دوراً مهماً في توجيه الأموال من الأسواق المالية نحو البحث عن حطام السفن، وعمل مع كلايك عن كثب في حينها. وقال إنه رأى مثل هذا الأمر يحدث من قبل، فحين يدرك رجال الأعمال الناجحون أن بإمكانهم السفر عبر القرون وملامسة التاريخ من أجل كسب أرباح تتجاوز استثماراتهم بأشواط، فسيرغبون بتكرار ذلك مرّة بعد مرّة. وسأل إيمسون "هل تعرفون لماذا.. إنها حمى الكنوز".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك