يبدو أن تغريدة إيلون ماسك المؤيدة لنظرية مؤامرة معادية للسامية فاجأت الشركاء التجاريين. في 15 نوفمبر، رد ماسك على أحد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لدى نشره نسخة مفصلة من "نظرية الاستبدال العظيم" العنصرية القائلة إن اليهود يتآمرون سراً مع المهاجرين لتدمير ثقافة القومية البيضاء. كانت النظرية سالفة الذكر قد ألهمت إطلاق النار على كنيس "شجرة الحياة" اليهودي، الذي أودى بحياة 11 شخصاً في بيتسبرغ عام 2018. علّق ماسك قائلاً: "لقد قلت الحقيقة الفعلية".
في اليوم التالي، أعلنت شركة "آي بي إم" تعليق إعلاناتها على منصة "إكس"، وهي شبكة التواصل الاجتماعي المعروفة سابقاً باسم "تويتر"، مستشهدةً بتقرير منفصل أعدته مجموعة "ميديا ماترز فور أميركا" (Media Matters for America) المعنية بمراقبة وسائل الإعلام حول معاداة السامية على "تويتر". وسرعان ما حذت شركات "أبل" و"ديزني" و"لايونزغيت" والمفوضية الأوروبية، حذو عملاقة التقنية الأميركية.
كما اتهم متحدث باسم البيت الأبيض ماسك بترديد "الكذبة البشعة وراء أشد الحوادث المعادية للسامية فتكاً على مر التاريخ الأميركي". شارك الرئيس جو بايدن بعد ذلك منشوراً على منصة "ثريدز" (Threads)، منافسة "إكس" التابعة لشركة "ميتا بلاتفورمز".
إذا كان الغضب الذي أثاره سلوك ماسك يثقل كاهل الشركة المتعثرة بالفعل بضغوط جديدة، فقد تعين عليها توقع مثل هذه الضجة. تُظهِر مراجعة لاستخدام مؤسس "تسلا" لوسائل التواصل الاجتماعي منذ 2020، تحولاً سياسياً بدأ خلال عمليات الإغلاق إثر تفشي فيروس "كورونا"، والذي تصاعد بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة، حيث أمضى وقتاً أكبر في التفاعل مع الحسابات المرتبطة بالقومية البيضاء.
المعارك القضائية
يقول عمران أحمد، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنظمة "مركز مكافحة الكراهية الرقمية" (Center for Countering Digital Hate) التي لا تهدف للربح والتي انتقدت ماسك، إن مالك منصة "إكس" يُعد "واحداً من هؤلاء الأشخاص الغريبين، وأنه يقدم مثالاً نمطياً لمتلازمة (عقلية تويتر)"، مستخدماً مصطلحاً يصف كيف يضيق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي رؤية المرء للعالم.
اقرأ أيضاً: انتقادات واسعة لماسك بعد تأييده منشوراً "معادياً للسامية" على "إكس"
عادةً ما يرد ماسك على مثل هذه التعليقات بتوجيه النقد اللاذع لأصحابها، لكنه يلجأ للدعاوى القضائية أيضاً في بعض الأحيان. على سبيل المثال، رفعت منصة "إكس" في وقت سابق من العام الجاري دعوى قضائية ضد منظمة "مركز مكافحة الكراهية الرقمية"، متهمةً إياها بتعمد الإضرار بأعمال الإعلانات الخاصة بالشركة. من جانبها، قالت المنظمة إن الدعوى القضائية لا أساس لها، فيما نفى ماسك كونه معادياً للسامية.
ألقى مؤسس "تسلا" باللائمة في إثارة موجة الغضب الأخيرة على "ميديا ماترز فور أميركا"، معلناً تفجير "دعوى قضائية مدوية" ضد المنظمة سالفة الذكر، بزعم إعدادها تقريراً مفبركاً. وصفت "ميديا ماترز فور أميركا" الدعوى بـ"التافهة"، بينما لم ترد "إكس" أو مالكها على طلبات التعليق على الأمر.
هاجم ماسك أيضاً الشركات التي بدأت مقاطعة "إكس"، مشيراً إلى تاريخ شركة "آي بي إم" في إبرام صفقات مع ألمانيا النازية. كانت ليندا ياكارينو، الرئيسة التنفيذية لشركة "إكس"، قد هاجمت "منتقدي ماسك"، وما وصفته بأنه "إلهاءات ملفقة" في منشور شاركته على منصة التواصل الاجتماعي الشهيرة، في مواجهة الضغوط التي مارسها المديرون التنفيذيون للتسويق والإعلانات الذين طالبوها بالتنحي احتجاجاً على موقف ماسك، وفقاً لتقرير نشرته مجلة "فوربس". غير أن ياكارينو قالت إنها لا تزال ملتزمة بدعم الشركة.
تحول سياسي
تجلت إرهاصات دعم ماسك لليمين السياسي في مايو 2020، عندما طلب من الملايين من متابعيه على "تويتر" تناول "الحبة الحمراء"، وهو مجاز سياسي شائع يستخدم للإشارة إلى تبني المنظور السياسي لليمين الجمهوري. آنذاك، تملّك ماسك غضب عارم بشأن قيود البقاء في المنزل لعدة أشهر، لكنه كان لا يزال يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره رجل أعمال رأسمالي محسوب على يسار الوسط ومعروف بدفاعه عن البيئة.
أثارت التغريدة سيل من التفسيرات حول تحول الملياردير الأميركي لدعم اليمين السياسي، فيما أسعدت الجمهوريين، إذ كتبت إيفانكا ترمب "تم!" رداً على تغريدته لتبني المنظور السياسي الجمهوري. مع ذلك جاءت بعض الردود الأكثر حماسية، وتلك التي لفتت انتباه ماسك بشكل أساسي، من محرضين أكثر تطرفاً، بمن فيهم مايك سيرنوفيتش وروبي ستاربوك وشخص يشتهر باسم كاتورد.
قابل ماسك هذا الاهتمام بشكل إيجابي، وأظهر دعمه لأقصى اليمين في عدة مناسبات خلال الأشهر التي تلت ذلك. لكنه، بحلول نهاية العام، كان قد استشهد بمعلومات مضللة حول كورونا، وسخر من فكرة استخدام ضمائر "هم" للإشارة للمثليين بدلاً من "هو" أو "هي"، وتبرأ من مواقف اليسار السياسي زاعماً أنه بات متطرفاً للغاية. تسارعت وتيرة تفاعل الملياردير الأميركي مع حسابات "تويتر" اليمينية عندما بدأ يتطلع إلى شراء الشركة، وقد تزايد عدد متابعيه بشكل كبير بعد إنجاز الصفقة.
اقرأ أيضاً: رئيسة "X" التنفيذية تقر بتعليق بعض المعلنين إنفاقهم
بدأ ماسك يرد على عشرات المنشورات اليمينية أسبوعياً مع اتساع نطاق اهتماماته السياسية في هذا السياق. فكان يرد على منشور يروج لبعض وجهات النظر السياسية المتطرفة بكلمة "مثير للاهتمام" أو بعلامة تعجب، أو رمز تعبيري آخر مفضل لدى مؤسس "تسلا"، وهو الوجه الذي يبكي من شدة الضحك.
عززت هذه التفاعلات مكانته لدى مؤيدي أقصى اليمين، وحفزت مستخدمي هذه الحسابات لمحاولة لفت انتباهه.
ويُعد ماسك المستخدم الأكثر شعبية على منصة "إكس" بإجمالي متابعين يصل إلى 164 مليون متابع، ويمكنه جلب نسبة مشاهدة ضخمة إلى أي حساب من خلال الرد على أحد منشوراته، ما يجعل المحتوى مؤهلاً للظهور في موجز أي حساب آخر يتابع ماسك.
دعم متبادل
كان إيان مايلز تشيونغ، الذي وصف نفسه بأنه صحافي مستقل يركز على قضايا الحرب الثقافية، من أوائل المستفيدين في هذا الإطار. بلغ عدد متابعي تشيونغ، الذي تشمل اهتماماته قضايا مثل الجرائم التي يرتكبها أصحاب البشرة السوداء، والتدهور الملحوظ في سان فرانسيسكو، نحو 300 ألف متابع عندما بدأ ماسك في الرد على منشوراته، لكن أصبح لديه الآن 850 ألف متابع تقريباً.
رد تشيونغ جميل زيادة مشاهداته بمغازلة ماسك صراحةً. فأشاد، خلال الأشهر الأخيرة، بروبوت الدردشة "غروك" (Grok) المملوك لماسك، كما دعم هجوم الأخير على المؤسس المشارك لموسوعة "ويكيبيديا" جيمي ويلز، وأقحم نفسه في خلاف بين ماسك وبيل غيتس.
من جانبه، ألغى ماسك الحظر المفروض على المستخدمين المتطرفين مثل علي ألكساندر، مؤيد حملة "أوقفوا النهب" لإعادة الرئيس السابق دونالد ترمب إلى الحكم، وأندرو أنجلين من النازيين الجدد. كما استبدل نظام التحقق من هوية الحسابات، المصمم لتوثيق حسابات السياسيين والمشاهير والصحافيين البارزين، وتمييزها بشارة التوثيق الزرقاء، بنظام جديد يسمح لأي شخص بشراء الشارة. كان ماسك قد أعلن في فبراير أن "إكس" ستشارك عائدات الإعلانات مع مستخدميها من أصحاب الحسابات الموثقة، وقد بدأت الشركة تطبيق ذلك على عدد من الشخصيات المثيرة للجدل.
اقرأ أيضاً: ماسك يطلق الروبوت "غروك" زاعماً تفوقه على "تشات جي بي تي"
إلى جانب تشيونغ، الذي تفاخر بتلقي أكثر من 16 ألف دولار من عائدات الإعلانات، بدأت "إكس" في مشاركة عائدات الإعلانات مع حساب يُسمى"End Wokeness"، والذي ينشر ميمات القومية البيضاء تكراراً.
كما كافأت أندرو تيت، الذي نصب نفسه كارهاً للمرأة، والخاضع للإقامة الجبرية في رومانيا على خلفية اتهامه في قضايا تشمل الاغتصاب والاتجار بالبشر. نشر تيت، الذي نفى ارتكاب أي مخالفات، لقطة شاشة تظهر أن شبكة التواصل الاجتماعي الشهيرة دفعت له أكثر من 20 ألف دولار من عائدات الإعلانات في يوليو.
في أكتوبر 2022، شارك ماسك رابطاً لمقالة تؤيد نظرية المؤامرة حول الهجوم على زوج (رئيس مجلس النواب السابقة) نانسي بيلوسي، وافترضت أن المهاجم كان داعراً. لم يكن هناك أي دليل يدعم هذه النظرية، التي تبين لاحقاً أنها مضللة، لكن الكثير من الناس في الأوساط اليمينية كانوا يتحدثون عنها. يُذكر أن ماسك حذف المنشور المتعلق بهجوم بيلوسي في وقت لاحق.
ألمح ماسك، في يوليو الماضي، إلى أن لقاح كورونا ربما تسبب في إصابة بروني، ابن لاعب كرة السلة الأميركي ليبرون جيمس البالغ من العمر 18 عاماً آنذاك، بالسكتة القلبية. الأمر الذي أدى إلى تضخيم نظرية ثابتة، بل ومضللة، مفادها أن اللقاح يسبب العديد من الأمراض القلبية المميتة. مع ذلك، أرجع الأطباء السكتة القلبية التي تعرض لها الشاب إلى عيب خلقي في القلب.
تغريدات مكلفة
ثم تصاعدت حدة نبرة منشورات ماسك خلال الأشهر الأخيرة. ففي نفس الأسبوع الذي أيد فيه نظرية الاستبدال العظيم، رد مالك "إكس" تكراراً على التغريدات التي تتضمن مقاطع مصورة وميمات توحي بأن البيض يتعرضون للهجوم، أو أن الولايات المتحدة تتعرض للغزو من قبل المهاجرين، أو أنه يجب ترحيلهم جميعاً. كما أيد ماسك، وهو نفسه مهاجر من جنوب أفريقيا، منشوراً يصف البلد الذي وُلد فيه، والذي أنهى نظام الفصل العنصري في التسعينيات، بأنه "دولة الفصل العنصري المناهضة للبيض".
واصل ماسك تفاعلاته لدعم أقصى اليمين حتى بعد الضجة التي أثارتها تغريدة نظرية "الاستبدال العظيم"، حيث رد ماسك على تغريدة المؤثرة اليمينية آشلي سانت كلير حول العبودية الأميركية، من خلال الإشارة إلى أن المثقفين كانوا يبالغون في أهميتها التاريخية، قائلاً "على مر التاريخ، كانت الغالبية العظمى من البشر من العبيد بشكل أو بآخر!".
اقرأ أيضاً: الذريعة الأخلاقية للكفّ عن التفاعل مع موقع X لإيلون ماسك
من جانبهم، دعم مؤيدو ماسك موقفه برسائل تضامنية، وعرض تيت المتهم بالاتجار بالبشر إنفاق مليون دولار شهرياً على الإعلانات، فيما عرض مقدم البث الصوتي اليميني تيم بول 250 ألف دولار للغرض ذاته.
تسلط هذه التعهدات الضوء على حجم المأزق الذي وضع فيه ماسك نفسه. فقد أنفقت شركة "أبل" وحدها 48 مليون دولار على الإعلانات عبر "تويتر" خلال الربع الأول من 2022، وفقاً للوثائق التي حصلت عليها صحيفة "واشنطن بوست". أما وقد غادرت عملاقة التقنية، على الأقل مؤقتاً، فقد انخفضت إيرادات منصة "إكس" بنسبة 60%، بينما يعوض ماسك ذلك من خلال محاولة حشد الدعم بين معجبيه اليمينيين.
حذّر ماسك متابعيه من العديد من كبار المعلنين، في إشارة على ما يبدو إلى بعض الشركات التي علقت إنفاقها على الإعلانات عبر "إكس" مؤقتاً، معتبراً أنهم "أكبر المضطهدين لحقكم في حرية التعبير". ربما منحه البوح بمثل هذه التغريدة شعوراً بالرضا، لكنها من غير المرجح أن تقنع تلك الشركات بالعودة لمنصة "إكس" في أي وقت قريب.