ربما تكون سان فرانسيسكو باتت مثالاً بارزاً على ما يحصل للمدن حين تصبح الفرص الاقتصادية والإبداعية التي تقدمها لا تبرر تكاليف العيش فيها، وما يرافق ذلك من صعوبات أخرى. فهي قد تعثرت أكثر من أي مدينة أميركية كبرى أخرى في التعافي من آثار جائحة كورونا، وصار منتقدوها المبتهجون يتنبأون بأنها لن تقوم من كبوتها.
لكن الأمر يبدو كما لو أن شركات الذكاء الاصطناعي لم تسمع بهذا الواقع، فهي ما تزال تتوافد إلى سان فرانسيسكو ويطلب كثير منها من الموظفين أن يعملوا من مكاتبها.
بحسب "مجموعة سي بي آر إي" (CBRE Group) للوساطة العقارية، ارتفعت نسبة شواغر المكاتب في المدينة إلى معدل قياسي بلغ 34% في الربع الثالث من العام، مع ذلك فإن شركات الذكاء الاصطناعي وقعت على صفقات لمساحات مكتبية بلغت أكثر من 93 ألف متر مربع حتى هذا الوقت من العام، فارتفع إجمالي المساحات المكتبية التي تشغلها شركات القطاع إلى 316 ألف متر مربع، حسب شركة الخدمات العقارية "جونز لانغ لاسال" (Jones Lang LaSalle)، مقارنة مع 213 ألف متر مربع في العالم الماضي أو سبعة أضعاف مستوى 2016.
عكس التيار
المكتب الرئيسي لشركة "أوبن إيه آي"، التي أشعلت الاهتمام بالذكاء الاصطناعي العام الماضي لدى طرحها لبرنامج "تشات جي بي تي"، يقع في ميشن ديستركت ويعج بالموظفين في معظم أيام الأسبوع. كما تُعد شركة "كوهير" (Cohere)، وهي شركة ناشئة متخصصة بالذكاء الاصطناعي مقرها في تورونتو، مقراً ثانياً لها في سان فرانسيسكو.
وقد استحوذت شركة الذكاء الاصطناعي "أنثروبيك" (Anthropic)، التي تقدّر قيمتها ببضعة مليارات من الدولارات، على المقر القديم لشركة "سلاك تكنولوجيز" الممتد على مساحة 21 ألف متر مربع في حي ساوث أوف ماركت، الذي يُعرف اختصاراً باسم سوما، بحسب ما أفادت به صحيفة "سان فرانسيسكو كرونيكل".
وصف تشارلي كتلر وهو وكيل عقاري من مجموعة "إنوفيشن بروبرتيز غروب" (Innovation Properties Group) الإقبال على القطاع العقاري في شرق منطقة ميشن، المجاورة لبوتريرو هيل وسوما بـ"حمى الذهب"، حتى إن أحد أحياء ميشن بات يطلق عليه تسمية "منطقة الذكاء الاصطناعي".
مكاتب غير تقليدية
يطلق الناس منذ عام تسمية "وادي العقل" على حي "هايز فالي" القريب من المنطقة نظراً لانتشار ما يُعرف باسم "بيوت القراصنة" هناك حديثاً، وهي عقارات يقيم فيها عاملون في مجال التقنية جماعياً ليعملوا على شركاتهم الناشئة، وغالباً ما تكون منازل أُعيد تخصيصها لأغراض أخرى.
برغم أن عملاء كتلر يبحثون عادةً عن مكاتب تقليدية أكثر، إلا أنه يقر أن بعض تلك العقارات تضم خصائص غير تقليدية. قال: "كثير من المكاتب في سان فرانسيسكو تضم أماكن للاستحمام وهي مفتوحة على مدار الساعة. يعمل الناس هناك في أوقات مختلفة ويأتون من كافة أصقاع العالم. إنها عقارات تعمل على مدار الساعة".
افتتحت شركة "كلينلاب" (Cleanlab)، المتخصصة بإنتاج البرمجات التي تساعد على تحسين مجموعات البيانات التي تستخدمها شركات التقنية، مكتباً في منطقة ميشن في يونيو، وهو مزوّد بغرف فندقية تقريباً وحمامات كما توفر الشركة فيها مناشف، بحسب رئيسها التنفيذي كورتيس نورثكت. قال إن هذه الغرف تبقى مشغولة "معظم الوقت"، وغالباً ما ينزل فيها موظفون زائرون يعملون عن بعد ويفكرون بالانتقال إلى سان فرانسيسكو.
تخطط "كلينلاب" لمضاعفة عديد موظفيها إلى نحو أربعين خلال العام المقبل، وأغلبهم سيعمل من سان فرانسيسكو. وقال نورثكات: "نحتاج أن يأتي الناس للسكن في سان فرانسيسكو"، وهو يطلب من موظفيه أن يحضروا إلى المكتب ليومين في الأسبوع على الأقل.
ضرورة العمل من المكتب
يصف كونستانتين بوهلر، الشريك في شركة "سيكويا كابيتال" (Sequoia Capital) الذكاء الاصطناعي بأنه " نشاط إبداعي" يتطلب العمل من المكتب، لأن معظم هذا القطاع ما يزال في مراحله الأولى. قال بوهلر: "حين ننتقل من نقطة الصفر لنصل إلى واحد، لا نعرف ما هو ممكن، من الأجدى القيام بهذا العمل عبر فرق صغيرة وحضورياً. تتحقق الإنجازات حين تعمل مجموعة أشخاص يحاولون فهم أمر ذي خصائص تقنية وعلمية عالية معاً".
بحلول بداية نوفمبر، كان الموظفون يعملون من مكاتبهم في سان فرانسيسكو بنسبة بلغت نحو 44% من معدلات ما قبل الجائحة، بحسب شركة "كاستل سيستمز" (Kastle Systems) التي تجمع البيانات حول عدد المرات التي يدخل فيها الموظفون مكاتبهم بواسطة المفاتيح الإلكترونية وغيرها من الأدوات. فيما بلغ معدل إشغال المكاتب 51% في نيويورك و55% في شيكاغو.
يظن العاملون في قطاع التقنية أن شركات الذكاء الاصطناعي هي من ستعيد إحياء سان فرانسيسكو. ترى كيم ماي كتلر، الشريكة في "إنيشيلايزد كابيتال" (Initialized Capital)، أن الذكاء الاصنطاعي يقدم "براعم اقتصادية واعدة" لمدينة عانت بشدّة خلال السنوات الثلاث الماضية. قالت: "الفجوة التي خلفتها الجائحة هائلة جداً، ولكن منطقة الخليج هي في طليعة المجال الأهم في العالم حالياً".
صبّ ازدهار الذكاء الاصطناعي لمصلحة قطاعات أخرى أيضاً يعتمد نجاحها على القطاع الأكبر في سان فرانسيسكو. بدأ ميكي دو، الرئيس التنفيذي لشركة "برو بيرد" (BrewBird) المتخصصة بصنع أجهزة القهوة بطرح منتجاتها في المكاتب منذ فبراير. قال إن على الأقل ثلث عملاء "برو بيرد" المحتملين لديهم حضور قوي في مجال الذكاء الاصطناعي، وأضاف: "الحصول على الإنتاجية القصوى يعني أن عليك الاستثمار في البنية التحتية والثقافة والتجربة التي تدفع العاملين في المكاتب".