إذا ما انزعجت مؤخراً من شعور مبهم لكنه جليّ بأن الكوكب على شفا هاوية، فأنت لست وحدك.
ينتاب جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لـ"جيه بي مورغان"، الشعور ذاته. قال ديمون مؤخراً: "قد تكون هذه أخطر فترة شهدها العالم خلال عقود".
يطلق رئيس البنك الدولي أجاي بانغا على هذه الفترة وصف "المنعطف الخطير" للاقتصاد العالمي. ويتصور لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك"، مستقبلاً ينطوي على "قدر أقل من الأمل وقدر أكبر بكثير من الخوف".
يمكن تلخيص ما يقلق ديمون وفينك، إلى جانب قادة في كل أرجاء عالم الأعمال والمال والحكومة بشكل متزايد، في عبارة واحدة: العوامل الجيوسياسية.
تلاشى الاستقرار النسبي لما أطلق عليه المؤرخون "السلام الأميركي"، وهو مصطلح يشير إلى هيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية والثقافية التي تلت الحرب العالمية الثانية، واستمرت لمدة 75 عاماً. ما حلّ محل ذلك، هو التنافس متعدد الأقطاب والهش بطبيعته على القوة والنفوذ على التجارة والتقنية والأراضي. تمثل هذه الحقبة الجديدة ما يسميه المستشار الألماني أولاف شولتز "نقطة تحوّل تاريخية"، وهي "تحوّل جذري يؤرخ لبداية حقبة" تتصاعد فيه الفاشية والاستبدادية والإمبريالية مجدداً، وتتضاءل العولمة.
قال مارك وايزمان، رئيس صندوق معاشات ألبرتا البالغ حجمه 160 مليار دولار كندي (115 مليار دولار أميركي)، إن العالم يواجه "نموذجاً جديداً له نتائج لا حصر لها". الصراعات ليست في أوكرانيا والشرق الأوسط فقط، بل يشهد العالم أيضاً حروباً أهلية وحركات تمرد وانقلابات في عشرات الدول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، إلى جانب تنامي وتيرة حدوث الكوارث المناخية، وتزايد كلفتها، والهجرة الجماعية لملايين اللاجئين، والتهديد الذي يلوح في الأفق بمزيد من الجوائح.
أضف إلى ذلك جمود التضخم والإمكانيات المرعبة للذكاء الاصطناعي وتراجع الثقة في الديمقراطية الغربية والشلل السياسي في واشنطن، إلى جانب احتمال قوي لوقوع معركة للسيطرة على تايوان. قال وايزمان إن "هذه البيئة الاستثمارية هي الأصعب والأكثر تعقيداً التي شهدتُها خلال 30 عاماً بفارق كبير، فهي أكثر تعقيداً بكثير من الأزمة المالية العالمية".
حلقة مفرغة
لكن رغم احتدام الحرب في أوروبا الشرقية، وتصاعد التوترات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وقصف الدبابات الإسرائيلية معاقل حركة "حماس"، ما يزال جانب كبير من النقاش في الدوائر المالية عالقاً في حلقة مفرغة لا علاقة لها بالأحداث الجارية من التكهنات حول التضخم والسياسة النقدية. ربما يرجع ذلك إلى أننا نرتاح لما يمكن التنبؤ به.
يستطيع أحد الاقتصاديين أن يتنبأ بقدر معقول من الدقة، بمدى تأثير ارتفاع أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس على كل الجوانب، من نمو الوظائف إلى إنتاج المصانع. كما يستطيع محلل مالي، من خلال نقرات معدودة على جدول بيانات، أن يحسب بالضبط كم سيؤثر اتفاق شركة "فورد موتور" مع نقابة عمال السيارات المتحدين، على الأرباح لكل سهم. في الحالتين، فإن نطاق النتائج محدود.
اقرأ أيضاً: وول ستريت تبحث عن ملاذ آمن من المخاطر الجيوسياسية
إن ما يجعل المخاطر الجيوسياسية مزعجة بهذا الشكل هو أن نمذجتها أمر مستعصٍ. تمثل المتغيرات مزيجاً من "المعلومات المعروفة" وفق تعبير وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد، وذلك على غرار إحباط الصين بسبب القيود الأميركية على صادرات تقنيات الرقائق المتطورة، و"المعلومات المجهولة"، مثل مكان وزمان الاستخدام الممكن للأسلحة النووية التكتيكية في أوكرانيا من جانب الجيش الروسي، إضافة إلى المعلومات المجهولة تماماً، التي هي الأسوأ على الإطلاق. يتسع نطاق الاحتمالات هنا بلا حدود. لا يعني ذلك أن قرارات الاحتياطي الفيدرالي لا أهمية لها، لكن من سيكترث حقاً بشأن ثمن الحصول على المال، إذا وجدنا أنفسنا فجأة في خضم الحرب العالمية الثالثة؟
واقع جديد
بدأ الرؤساء التنفيذيون في كل أرجاء العالم يواجهون هذا الواقع الجديد. في أحدث مكالماته مع المساهمين، تحدث بن سميث، المدير التنفيذي لـ"إير فرانس-كيه إل إم" (Air France-KLM)، عن "ارتفاع مستوى اليقظة، والضوابط الصارمة للتكلفة، وأوجه الكفاءة الأكبر في التشغيل من أجل حماية هامش أرباحنا" في ضوء "توترات جيوسياسية حادة".
"أكور" (Accor) و"بيكر هيوز" و"إنتل" و"ماستركارد" و"جابان توباكو" و"بورشه" و"ويرلبول" (Whirlpool) كلها من بين الشركات التي تستند إلى المخاطر الجيوسياسية كأحد العوامل التي تؤثر على أدائها في الربع الثالث أو تؤثر سلباً على ثقتها في المستقبل.
تمثل القلاقل على المستوى العالمي مناخاً مؤاتياً للأعمال بالنسبة لقلة من الشركات، مثل شركة المعدات الدفاعية "نورثروب غرومان". قالت كاثي واردن، الرئيسة التنفيذية للشركة: "نرى انعكاس ذلك في مؤشرات الطلب".
اقرأ أيضاً: الأسهم الأميركية تترنح بسبب المخاطر الجيوسياسية
لا عجب أن للخبرة في العلاقات الدولية ثمناً. انضم ريتشارد هاس، الدبلوماسي الأميركي السابق الذي قاد مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك لمدة 20 عاماً، إلى بنك الاستثمار "سنترفيو بارتنرز" (Centerview Partners) في سبتمبر كمستشار رفيع المستوى، ليقدم المشورة للعملاء في ما يخص "الفرص والمخاطر الجيوسياسية"، وفقاً للمؤسس المشارك بلير إفرون.
شكّلت مجموعة "غولدمان ساكس" في سبتمبر "غولدمان ساكس غلوبال إنستيتيوت" (Goldman Sachs Global Institute) لتقديم المشورة حول "التقاطع بين العوامل الجيوسياسية والتقنية والأسواق العالمية". ,حين احتاج برنامج "دايلي شو" (Daily Show)، الذي يقوم بالأساس على السخرية، لمتحدث يفسر سبب هجوم "حماس" على إسرائيل، استضاف أبرز خبراء المخاطر السياسية وأكثرهم تعبيراً، وهو رئيس "يوراسيا غروب" (Eurasia Group) إيان بريمر.
تشتت النفوذ العالمي
لكن مثلما أوضح بريمر خلال ظهوره في البرنامج، فإن التفسير بعد الحدث، مهما كان منطقياً ومقنعاً، لا يكاد يشبع الرغبة البشرية في الفهم. بالنظر إلى ما حدث، هل منطقي أن حماس أرادت أن تعيق جهود السلام بين السعودية وإسرائيل؟ بالتأكيد. هل يبدو واضحاً الآن أن الهدوء الذي شهدته غزة لأشهر نجح في دفع إسرائيل نحو شعور زائف بالأمان؟ طبعاً، رغم ذلك، فقد كان الهجوم مباغتاً تماماً، لم يتوقعه أحد إطلاقاً.
ماذا ستكون الصدمة القادمة؟ من يدري؟.
اقرأ أيضاً: هل يتوقف الاحتياطي الفيدرالي مؤقتاً عن رفع الفائدة؟ راقبوا هذه الكلمات
لم يسبق أن كانت القوة منتشرة إلى هذا الحد منذ بداية القرن العشرين. فإلى جانب الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا، تملك كل من البرازيل والهند وكوريا الشمالية وباكستان وتركيا، بالإضافة إلى السعودية والإمارات وقطر المطلة على الخليج العربي، قدراً معقولاً من السيطرة على مزيج ما من الموارد العسكرية والاقتصادية والسيبرانية والطاقة والموارد الحيوية بيئياً. سيُعيد الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية تعريف التوازن عما قريب.
بالطبع صمد العالم في وجه أزمات وكوارث عدة، مثل وصول العداء خلال الحرب الباردة لذروته، ووباء الإيدز، وظهور حركات إرهابية إسلاموية، والأزمة المالية الكبرى وجائحة كورونا، على سبيل المثال لا الحصر. قال وايزمان: "ما يختلف هذه المرة هو أننا نتعامل مع نسخة ما من كل هذه الأمور في الوقت ذاته".
المخاطر للنمو الاقتصادي
لذا فالسؤال هو، إلى متى يمكن للرخاء وعدم الاستقرار أن يمضيا قدماً جنباً إلى جنب؟.
في استبيان أجرته "كيه بي إم جي"، صنّف الرؤساء التنفيذيون "العوامل الجيوسياسية والضبابية السياسية" على رأس المخاطر للنمو الاقتصادي على مدى السنوات الثلاث المقبلة، بارتفاع من المركز السابع في 2022، متخطية بذلك كل المخاطر من التقنيات الثورية إلى نقاط ضعف سلسلة الإمداد.
لكن المجموعة نفسها التي شملها الاستبيان، وتضم 1325 من الرؤساء التنفيذيين للشركات، ردت أيضاً أن ثقتها ازدادت، بدلاً من أن تتراجع في ما يتعلق بآفاق الاقتصاد العالمي.
بدأ بعض المستثمرين يبيعون الأسهم على المكشوف، ويشترون سندات الخزانة، ويركّزون العملات بالدولار. وقد يحققون أرباحاً، لكن تاريخ أسواق المال يزخر بقصص عن الثروات التي تبددت تحوطاً من كوارث لم تقع. إن كان لنا في ذلك عبرة، فهي ألا نركن إلى القناعة بالوضع الحالي.
مثلما قال بانغا، رئيس البنك الدولي: "تميل المخاطر للتغير. عن نفسي، سأتوخى الحذر بشدة في ما يتعلق بالتركيز على إحداها وتجاهل البقية".