تعلم بوزينا شتيكوشكا من سكان بلدة بيالا بيسكا، القابعة بين بحيرات ومزارع شمال شرق بولندا، تمام العلم ما الذي تود أن تغيره انتخابات الأحد: لا شيء إطلاقاً.
نما اقتصاد بولندا أكثر من 50% وتضاعفت الأجور كما تراجعت البطالة 50% على مدى السنوات الثماني الماضية تحت قيادة حزب القانون والعدالة. كما استفاد سكان البلدة، التي تقع في منطقة كانت من أفقر بقاع البلاد، وعددهم نحو أربعة آلاف، من إعانات الحكومة للأسر التي لديها أطفال وللعاطلين ولذوي الإعاقات والمتقاعدين.
كحال العديد من سكان البلدة الذين شاركوا في مسيرة من الكنيسة ذات المعمار الباروكي تعبيراً عن شكرهم لله على الحصاد، كانت شتيكوشكا أيضاً حريصة على أن توفي الحكومة حقها. قالت المرأة الستينية، التي عملت فيما مضى نادلةً وعاملة نظافة: "ما لدينا الآن جيد جداً. لقد تغيرت الأمور للأفضل".
المشهد في الريف بعيد تماماً عما قد يكون أشرس حملة انتخابية في بولندا وأشدها تفريقاً منذ تقهقرت الشيوعية لتترك الساحة للديمقراطية في 1989. تختلف بيالا بيسكا عن المدن الكبرى، فهي رمز يُظهر كيف يواجه معارضو الحزب الوطني الحاكم من الليبراليين الأكثر حباً لأوروبا، عقبات ضخمة في مسعاهم لتغيير مسار الدولة التي تحولت من منارة للاندماج الذي فتحه الاتحاد الأوروبي نحو الشرق لتصبح أكبر متمرد عليه.
استطلاعات الرأي
بناءً على استطلاعات الرأي، ستكون نتائج تصويت 15 أكتوبر متقاربة، وقد تؤدي النتيجة إلى أسابيع من المناورات فيما يحاول الحزب الفائز تشكيل ائتلاف حاكم. لكن الأمر الجليّ هو أن الانتخابات لا تعِد فقط بتحديد مدى ابتعاد بولندا عن أوروبا الغربية من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، ولكن أيضاً ما إذا كانت القارة ستتمكن من التكاتف في دعمها لأوكرانيا وسط تزايد بوادر التأثيرات السلبية للحرب على الناخبين.
ستعزز فترة ولاية ثالثة على التوالي غير المسبوقة لحزب القانون والعدالة مركز بولندا كدولة مربكة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي المنتمين للجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، إلى جانب المجر والآن سلوفاكيا، التي وعد فيها رئيس الحزب الفائز بأكبر عدد من الأصوات في انتخابات 30 سبتمبر، بوقف شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. الخطر هو أن الحكومة في وارسو ستُصعّد اشتباكها المستمر حالياً مع الاتحاد الأوروبي حول قضايا تتضمن سيادة القانون والهجرة وأهداف الطاقة الخضراء.
حزب المعارضة
يرأس حزب المنصة المدنية المعارض دونالد توسك، وهو رئيس وزراء بولندي سابق تولى رئاسة المجلس الأوروبي في بروكسل لفترتين قبل أن يعود للبلاد لمنافسة خصمه اللدود ياروسلاف كاتشزنسكي، قائد حزب القانون والعدالة وأقوى سياسي في بولندا.
قال أليكس شتربياك، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ساسكس في إنجلترا والذي يكتب مدونات بشكل دوري عن السياسة في بولندا، إن فوز توسك سيؤدي إلى "عودة رمزية كبيرة لبولندا إلى التيار الأوروبي السائد". إذا شكّل الحزب الحاكم حكومة أخرى، فهو "سيأمل أن المؤسسة السياسية في الاتحاد الأوروبي ستتأقلم مع حقيقة أن حزب القانون والعدالة باقٍ وأنه سينبغي عليها أن تعمل معه".
تُظهر الاستطلاعات تقدُّم حزب القانون والعدالة على حزب المنصة المدنية بفارق أربعة إلى سبعة نقاط مئوية. إذا لم يستطع أي من الحزبين أن يحصل على أغلبية واضحة من الأصوات، سيحتاج كل منهما إلى مساعدة من الأحزاب الأصغر ليشكل حكومةً. وقد يتعقد ذلك مع ازدياد شعبية تحالف اليمين المتطرف الذي أعلن أنه لن يلعب دور صانع الملوك، لذا فإن إعادة الانتخابات أمر وارد.
إلى جانب فيكتور أوربان في المجر، كان كاتشزينسكي في بولندا رائداً لنوع من الشعبوية اليمينية التي تلقى صدى لدى الناخبين في أنحاء أخرى من أوروبا وحتى بعيداً في الولايات المتحدة، حيث تبنّاها بعض الأشخاص في دائرة الرئيس السابق دونالد ترمب. جمع الرجلان جموعاً ضخمة من الدوائر الانتخابية من خلال الاستفادة من المشاعر التي تفضل المواطنين على المهاجرين ومن المظالم الثقافية.
حزب القانون والعدالة
جعل حزب القانون والعدالة، الذي يقدم نفسه مدافعاً عن القيم المسيحية المحافظة، لنفسه أسلحةً من مسائل حقوق المثليين والإجهاض وشحنات الحبوب الأوكرانية وغيرها من المخاوف. بجانب الانتخابات، تعقد الحكومة استفتاءً شعبياً على أربع قضايا، منها خطة للاتحاد الأوروبي ستخصص لكل دولة حصة من عدد المهاجرين من خارج دول التكتل الـ 27، وتحتم عليها قبولهم.
رغم أن المجر عادةً ما تستقطب الأنظار بقدر أكبر، فإن بولندا أهم. إن الدولة التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو 700 مليار دولار، هي أكبر اقتصاد في شرق الاتحاد الأوروبي، كما حصلت على تمويل من التكتل يفوق أي دولة أخرى من حيث صافي نصيب الفرد منذ انضمامها في 2004. كما أنها أضحت منذ أن غزت روسيا أوكرانيا مركزاً رئيسياً لعبور الأسلحة وغيرها من المساعدات، وما تزال تأوي نحو مليون لاجئ.
كان التفاؤل يغمر ناخبي حزب القانون والعدالة خلال مهرجان الحصاد في بيالا بيسكا في نهاية أغسطس. التقى السكان بالعمدة وبقسيس وسياسيين في زيارة للبلدة في مسرح بيالا بيسكا المفتوح. تحدثت مجموعة من النساء في سن التقاعد وقد ارتدين ملابس أنيقة تليق بالمناسبة، بحماس عن أن المستهلكين البولنديين بإمكانهم تحمل تكلفة أي شيء الآن.
تحدثت المجموعة أيضاً عن أن بولندا عليها أن تحافظ على ثبات موقفها في دعم أوكرانيا في ظل المعاناة هناك. لكن تلك النسوة اللائي رفضن جميعاً ذكر أسمائهن، قلن إن البلاد بحاجة لأن تهتم بشؤون مواطنيها أولاً ثم اللاجئين. قالت شتيكوشكا لاحقاً: "يمكننا مساعدتهم وإيواءهم، ولكن ليس بقدر ما تفعله الحكومة حالياً".
تدعم الأحزاب السياسية البولندية أوكرانيا بقوة، على عكس أعداد كبيرة من سكان سلوفاكيا المجاورة، كما ينظرون للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه المعتدي. لكن مع اكتساب تحالف اليمين المتطرف الجديد زخماً عبر انتقاد تقديم المعونات للأوكرانيين، تغير الجو العام.
في سبتمبر، بدأ مسؤولون حكوميون يعلنون أن الدعم السخي المقدّم للاجئين سينتهي العام المقبل. في وقت لاحق من الشهر نفسه، صعّد رئيس الوزراء ماتيوز مورافيسكي خلافاً مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بسبب حظر استيراد الحبوب لحماية المزارعين البولنديين، إذ أعلن تعليق شحنات الأسلحة. لكن في اليوم التالي أوضح موظفون حكوميون في وارسو أن الشحنات لم توقف، لكن الخلاف بات جلياً.
نبرة متغيرة
كان مقرراً أن يلتقي الرئيس البولندي أندجيه دودا مع زيلينسكي في نيويورك خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، لكن موظفي دودا قالوا إن هناك تعارضاً في جداول أعمالهما. كان في ذلك تبايناً عن مقابلات عدة وعناقات ودودة على مدى 18 شهراً سبقت ذلك.
قال بيوتر بوراس، رئيس مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في وارسو: "هذا التحول في الخطاب تجاه أوكرانيا لن يختفي بعد الانتخابات، وهو أيضاً خطير... نحن نرى تصدعات في الإجماع على المساعدة لأوكرانيا". كما أضاف أن حكومة بولندا، التي كانت يوماً حريصة على دعم جارتها، "بات يصعب توقع موقفها فجأةً".
تتضخم الهوة الاجتماعية في بولندا بفعل عقود من السجال بين قادة الحزبين. دفع كاتشزينسكي بنظرية من نظريات المؤامرة مفادها أن توسك كان هو المسؤول في النهاية عن مقتل توأمه ليخ في حادث تحطم طائرة عام 2010 أثناء زيارة رسمية لروسيا. كان ليخ رئيس البلاد آنذاك، وكان توسك رئيساً للوزراء.
بدعم من آلية إعلامية قوية تابعة للدولة، صوّر كاتشزينسكي وحزبه توسك على أنه دمية تتحكم بها ألمانيا، فيما يتحدث توسك عن أن بولندا تشهد "نقطة تحول" وأن البلاد "تحدد مصيرها مجدداً". أما حزب المنصة المدنية، فرسالته الرئيسية هي أنه يرغب بإصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وعكس مسار سياسات الحكومة في قضايا مثل الإجهاض وحقوق المثليين، رغم أنه تعهد بعدم المساس بالبرامج الاجتماعية.
المعارضة تتظاهر
في مسيرة حاشدة للمعارضة في وارسو في 1 أكتوبر، كان الجو العام مغايراً تماماً لما كان الحال عليه في بيالا بيسكا وبلدات أخرى. تحدث المتظاهرون عن أن حزب القانون والعدالة قد وضع بولندا على مسار قد يؤدي بها للخروج من الاتحاد الأوروبي. عبر المتظاهرون أيضاً عن قلقهم من أن المساعدات البولندية لأوكرانيا باتت جزءاً من الحملة الانتخابية.
قالت أليكساندرا أوزيمك، 54 عاماً، وهي أخصائية تغذية وناشطة في حقوق المرأة جاءت سفراً من مدينة كاتوفيتشة الجنوبية لحضور الفعالية: "تتسبب الحكومة في انقسام الناس وتأليب بعضهم على بعض. إننا يُتلاعب بنا ويُطلب منا أن نخشى الآخرين، ويلقنوننا هذه الوطنية العدوانية. هذه ليست أوروبا، إنها تتجه لتكون أشبه بروسيا".
تُظهر استبيانات لنوايا الناخبين أن الدعم الموجه لحزب القانون والعدالة تراجع من 44% حصل عليها خلال الانتخابات الأخيرة، لكنه ما يزال يتمتع بشعبية على نطاق واسع بفضل تقديم برامج الرفاه المتنوعة. ساعدت الإعانات على رفع مستويات معيشة السكان إلى 80% من متوسط الاتحاد الأوروبي بناءً على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المعدّل حسب القوة الشرائية، بعدما كان 69% حين تولى الحزب السلطة في أكتوبر 2015.
مع اقتراب الانتخابات، وعدت الحكومة برفع مدفوعات الأطفال الشهرية للأسر إلى 800 زلوتي (185 دولاراً) بعدما كانت 500 زلوتي، كما تعهدت برفع الحد الأدنى للأجور 18% العام المقبل. سيتسبب الإنفاق الإضافي في رفع عجز الميزانية إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، وفقاً لتوقعات الحكومة، وهو الأكبر خلال ثلاث سنوات.
تؤثر تداعيات الحرب على نمو الاقتصاد فيما استفحل التضخم. لكن قبضة حزب القانون والعدالة على البنك المركزي تعني أيضاً أن محافظ البنك آدم غلابينسكي كان على استعداد للتدخل وقت الحاجة. في الشهر الماضي، خفض غلابينسكي سعر الفائدة القياسي 75 نقطة أساس، وقال إن ذلك سيساعد "البولنديين العاديين". فاجأت الخطوة المستثمرين وتسبب ذلك بتراجع الزلوتي أمام اليورو بما يصل إلى 4%.
نموذج مختلف خارج المدن الكبرى
تمتد منطقة البحيرات في بولندا حول مدينة أولشتين، وتشمل بيالا بيسكا. تُعتبر المدينة نموذجاً لتركيز الحزب اقتصادياً على المواطنين الذين يعيشون خارج المدن الكبرى ويشكلون قاعدته الشعبية.
قالت إيفونا أرنت، العضو في حزب القانون والعدالة ونائبة عن المنطقة في البرلمان، إن المنطقة لم تعد إحدى أفقر مناطق البلاد وإن "الوظائف متوفرة للجميع. علينا أن ننظر لمصلحة بولندا وإلى ما ينتظرنا. نحن بحاجة لحكومة جيدة ومستقرة".
لكن الأمر يعدو شقه المالي بكثير. فقد ضبط الحزب الحاكم بقيادة كاتشزينسكي سياساته على الناخبين الذين رفضوا ما اعتبره هيمنةً ليبرالية من أوروبا الغربية. تغلغل الخطاب المعادي لحقوق المهاجرين والأقليات على مدى سنوات إلى الحياة اليومية، إذ أثّر على أسلوب معاملة الدولة لحقوق المثليين وحتى المطلّقات.
في 2020، أعلنت خمس من أصل 16 مقاطعة بولندية أنها "خالية من عقيدة المثليين". تراجعت المقاطعات عن إعلانها بعد ضغط من الاتحاد الأوروبي. في مطلع 2021، شددت البلاد ما كان حينها أحد أكثر قوانين الإجهاض تقييداً في أوروبا، رغم إضراب نظمته نساء على مستوى البلاد وأكبر تظاهرات ضد الحكومة منذ انهيار الشيوعية.
خط أحمر
أصبح استحواذ حزب القانون والعدالة على وسائل الإعلام المحلية والمحاكم خطاً أحمر على الاتحاد الأوروبي بعدما عزل القضاة الذين لم يوافقوا هواه وباتت الهيئات القضائية العليا مكتظةً بمواليه. تحرك التكتل للمرة الأولى فربط بين دعمه المالي وبين تراجع الديمقراطية في بولندا والمجر.
حجب الاتحاد الأوروبي 35 مليار يورو (37 مليار دولار) كانت مخصصة لبولندا، وقال إنه سيتيحها حين تبدأ الحكومة بالامتثال للخط العام. لكن ما يزال كاتشزينسكي متمسكاً بموقفه وقد انتقد التكتل في تظاهرة في مدينة فروسلاف الشهر الماضي كما ندد بالمعارضة بأن قال إنها "مناهضة للوطنية".
قال شتربياك، الأستاذ بجامعة ساسكس، إن كانت الغلبة لحزب توسك، فإن تشكيل حكومة جديدة سيتطلب تكاتف سياسيين من أطياف المحافظين الاجتماعيين واليساريين الثوريين. كما أوضح أن قدرة الحزب على الحكم بحرية قد يقيدها الرئيس دودا، الذي تبقى من ولايته عامان. قال: "أي شيء غير حصول حزب القانون والعدالة قد يحتم فترة عدم استقرار سياسي".