حصل محللو الاستراتيجية لدى "بنك أوف أميركا" أخيراً على بيانات حول سوق السندات الأميركية يعود تاريخها إلى تأسيس الدولة، وقالوا إنها تظهر أن الخسائر التي وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية لا سابق لها من حيث استمراريتها.
بالطبع، يصعب تحديد مدى دقة بيانات السنوات الأولى من حقبة ما بعد الاستعمار. فكم من تداول أمكن إتمامه خلال حرب 1812 على سبيل المثال؟ غير أن الإحصائية، التي تعد الأسوأ منذ 236 عاماً، تنطوي على ما يثير المخاوف باعتبارها تعبر عن تذكير قوي بحجم الأزمة التي ألمّت بالقطاع المالي بأسره في أعقاب صدمة التضخم وارتفاع أسعار الفائدة، ولم يتوقعها سوى قلة.
كانت التبعات شديدة لدرجة أنها طحنت بنك "سيليكون فالي" وثلاثة بنوك إقليمية أخرى هذا العام، فيما دفعت مصارف أخرى إلى حافة الهاوية قبل أن يسارع صناع السياسات في واشنطن لانتشالها. كما تسلط البيانات الضوء على المخاوف المتنامية في بعض أرجاء "وول ستريت" بشأن وضع الحكومة الأميركية المالي المتزعزع باطراد.
تسببت سياسات مثل الإعفاءات الضريبية المدعومة من الجمهوريين واستثمارات الطاقة الخضراء بقيادة الديمقراطيين، من بين أمور أخرى، بأن الميزانية الأميركية شهدت عجوزات هائلة لفترة ممتدة لأبعد مدى، وقد بدا ذلك مقبولاً حين أبقى مجلس الاحتياطي الفيدرالي على أسعار فائدة صفرية، واشترى سندات خزانة بعشرات مليارات الدولارات أسبوعياً. لكن تبين لاحقاً أن أسعار الفائدة المنعدمة يمكن أن تخفي كثيراً من المشاكل.
باتت حسابات تكاليف الاقتراض أعقد حين ارتفعت أسعار الفائدة إلى 5%، حيث تتراكم التكاليف التي تتحملها الحكومة، وبالتالي؛ فإن المعروض من السندات التي تحتاج إلى بيعها، بسرعة كبيرة إلى حد قد يثبط ما كان يعتُبر لأمد بعيد طلباً لا يمكن إشباعه على الاستثمار الأكثر أماناً في العالم.
أكثر من اللازم
قال إد يارديني، الاقتصادي المخضرم في "وول ستريت" ومؤسس "يارديني ريسيرش" (Yardeni Research) لأبحاث واستشارات الاستثمار: "هناك كم كبير جداً من أدوات الدين".
بالتالي؛ يواصل سعر سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، وهو معيار رئيسي لجميع أنواع تكاليف الاقتراض في الاقتصاد انخفاضه؛ مما دفع العائد منها إلى أعلى مستوياته خلال 16 عاماً. بعبارة أخرى، يطالب المستثمرون بخصم لشراء السندات، وهي آلية تضخمت إثر خروج بنك الاحتياطي الفيدرالي المفاجئ من السوق.
من ثم، بات التيسير الكمي، وهو الاسم الذي أطلق على برنامج شراء السندات التابع للبنك المركزي الأميركي، واهياً بمجرد أن اعتبر صناع السياسات أن التضخم هو العدو الأول. فقد ضخَ التيسير الكمي أموالاً كثيرة في الاقتصاد الذي كان يتنامى بلا انضباط. كما علقت البنوك المركزية في البرازيل والصين واليابان والمملكة العربية السعودية وبلاد أخرى مشترياتها من السندات الأميركية. بل تخارج بعضهم من حيازاته.
مكّن الفراغ الذي خلفته مغادرة البنوك المركزية القوى التقليدية في مجال التمويل، وهي البنوك وصناديق التحوط وشركات التأمين. يفضل يارديني الإشارة إلى هذه القوى باسم "حراس السندات"، وهو مصطلح سكه في الثمانينيات. إذ قال إنهم عادوا لممارسة دورهم الآن من خلال دفع أسعار السندات للانخفاض وزيادة العائدات، فيما يوجهون تحذيرات لواشنطن كي تكبح جماح العجز والتضخم.
لا يتعلق الأمر بخشية من تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، فالمسرحيات الفصلية حول سقف الدين ومهلة التمويل الاتحادي تبقى محض جدال مصطنع، أقله في وقتنا هذا. لكن مصدر القلق الحقيقي هو أن اتباع سياسات مالية تؤدي إلى ارتفاع العائدات بشكل كبير، يضغط على الشركات والمستهلكين في جميع أنحاء أميركا. إن دفعت العائدات إلى مستوى مرتفع جداً بسرعة أكبر من اللازم فستكسر شيئاً في الاقتصاد.
انهيارات أخرى
كان هذا ما حدث لبنك "سيليكون فالي" في الشتاء. ويخشى يارديني تكرار الانهيارات المصرفية الآن، وربما يجر ذلك الاقتصاد إلى ركود مؤلم في غضون ذلك. قال: "نقترب جداً من المستوى الذي قد يحدث كسراً"، وهو يعتبر بلوغ سعر الفائدة على السندات لأجل 10 سنوات عند 5% عتبة مهمة، مؤكداً أنه إذا تجاوزنا ذلك الحد؛ سترتفع احتمالات الركود. كان العائد قد ارتفع إلى 4.89% الأسبوع الماضي من 4% تقريباً قبل شهرين فقط، بينما كان المعدل ذاته قد انخفض خلال الوباء إلى 0.3%.
إن المؤشرات التي تحدد مدى انهيار سوق السندات تكاد لا تحصى. تتعلق إحدى المقارنات التي تطرح باحتراق الأسهم إبان أزمة "دوت كوم"، حين بلغت الخسائر ما يقرب من 50%. وكان ارتفاع العائدات في مرحلةٍ ما من الربع الأخير مرجعاً آخر يُخشى، لأنه الأكبر منذ الزيادة التي سبقت انهيار سوق الأسهم في 1987.
لقد بدأت المعاناة تبلغ سوق الأسهم هذه المرة أيضاً، وإن كانت بدرجة أقل كثيراً. كما تراجعت سندات الشركات، فيما ارتفع الدولار مقابل معظم العملات الأخرى. فضلاً عن أن النفط، الذي كان منيعاً إلى حد كبير في مواجهة العوامل الاقتصادية الأوسع طوال الصيف، علق في دوامة سوق السندات الأسبوع الماضي، إذ سجل خسائر كسرت موجة صعود استمرت شهوراً.
لكنَّ الأمر الذي أدى إلى صدم مخضرمي وول ستريت تمثل في أن الفترة الحالية قلبت سنوات من الاستقرار الذى أحدثه الاحتياطي الفيدرالي في سوق السندات. فباتت حالة السبات تلك، حيث كانت العائدات القياسية تراوح عند 2% يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، تعرف بالوضع الطبيعي الجديد. لقد دخلت الولايات المتحدة، ومعها معظم دول العالم، حقبة شهدت انخفاض معدلات النمو والتضخم في أعقاب الأزمة المالية في 2008، لذلك كانت أسعار الفائدة شديدة التدني ومنطقية.
توقع قلة في وول ستريت ما من شأنه تغيير ذلك الوضع، حتى حين أطلق الوباء سيل الإنفاق الحكومي. لكن بعدما أصبح التغيير بهذه الوتيرة المتطرفة واقعاً، اتجه جهابذة قطاع المال فجأة لذكر عدة أنواع وضروب من عوامل الاقتصاد على أنها قد تبقي العائدات مرتفعة لسنوات، مثل الاحتباس الحراري والتحول إلى الطاقة الخضراء وتفكيك العولمة والتحولات الديموغرافية، وبالطبع العرض المتزايد باستمرار من السندات الحكومية.
قال تورستن سلوك، كبير الاقتصاديين لدى عملاقة الأسهم الخاصة "أبولو غلوبال مانجمنت": "نعيش في عالم يعاني من ارتفاع تكلفة المال على نحو مستدام، وهذا له تبعات حتماً"
يعتقد تورستن سلوك أن الأعوام من 2008 إلى 2020 كانت استثنائية، حتى لو بدت في مرحلة ما طبيعية. لقد نقب طاقم خبراء "بنك أوف أميركا" عن بيانات تاريخية أخرى ليثبتوا ذلك، فوجدوا أن أسعار الفائدة عالمياً خلال تلك الفترة كانت الأدنى منذ خمسة آلاف عام. قال سلوك: "الحقيقة هي أن العالم الجديد الذي نشهده هو في الواقع العالم الطبيعي نفسه الذي كنا نعيش فيه".
إنه عالم يتمتع فيه حراس يارديني من متداولي السندات بتأثير أكبر بكثير من الاحتياطي الفيدرالي، ويتعين على المستهلكين والمديرين التنفيذيين للشركات والمشرعين في واشنطن مواجهة حقيقة قاسية؛ فقد انتهت تجربة انخفاض تكلفة الاقتراض في أميركا.