لم يعد فائض الذرة والصويا والقمح أداة سياسية قوية بيد أميركا بعدما سدت دول أخرى الفراغ الناجم عن تراجع صادراتها

ولّى زمن سطوة أميركا عبر الغذاء

وفرة المنتجات الإميركية معروضة في المعرض التجاري الدولي لعام 1957 في زغرب - الشرق/بلومبرغ
وفرة المنتجات الإميركية معروضة في المعرض التجاري الدولي لعام 1957 في زغرب - الشرق/بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

حين استضافت زغرب معرض التجارة الدولي عام 1957، لم ينبهر أهالي يوغوسلافيا السابقة بالرحلات على متن الطائرات المروحية أو بالماكينات المستعرضة، فقد سلب ألبابهم نموذج بالحجم الحقيقي لسوبرماركت أميركي تغص أروقته بالفاكهة والخضراوات واللحوم الطازجة، وقد كان المحور الرئيسي لجناح الولايات المتحدة في المعرض.

لم يكن تسليط الضوء على الثروة الزراعية الأميركية إبان توترات الحرب الباردة محض صدفة. فما الحاجة لشنّ حملات دعائية تحذّر من شرور الشيوعية، حين يمكنك ببساطة أن تظهر للمستهلكين خلف الستار الحديدي أنك في الأنظمة الرأسمالية كالولايات المتحدة، لست مضطراً للوقوف ساعات في طابور لتتمكن من التسوق في متجرٍ خاوٍ.

اكتشفت واشنطن إمكانية استخدام الغذاء كأداة سياسية منذ أيام الحرب العالمية الأولى، حين اكتسبت شحنات القمح الأميركي أهمية تضاهي أهمية شحنات الأسلحة والذخيرة في دعم الحلفاء بحربهم ضد ألمانيا.

على هذا الأساس، طورت الولايات المتحدة على مدى الإدارات المتعاقبة دبلوماسية سلة الخبز، فسخّرت وفرة محاصيلها الزراعية لخدمة سياسة العصا والجزرة، فأصبح إرسال فائض المحاصيل الأميركية إلى الخارج، سواء عن طريق المساعدات أو الصادرات، وسيلة منخفضة المخاطر لإقامة علاقات مع الدول الأخرى. بالتوازي مع ذلك، شكّل حظر المبيعات الغذائية إلى القوى المعادية، أداة فعالة في السياسة الخارجية. وكان النائب عن ولاية أركنساس لورانس بروكس هايز قال أمام الكونغرس عام 1953 إن "الاستخدام الجيد للفائض الزراعي الأميركي قد يشكل وسيلة أجدى من قنبلة هدروجينية في الحد من انتشار الشيوعية".

عجز تجاري زراعي

كان إيرل لوير بوتز الذي شغل منصب وزير الزراعة في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرارد فورد أقل لباقةً في حديثه عمّا وصفها بـ"القوة الزراعية" لأميركا. وقال في حديث لـ"بزنيس ويك" في 1975 بعد جولة شملت ثماني دول وتخللها لقاء مع الرئيس المصري حينها أنور السادات إنه "حين آتي حاملاً القمح في جيبي، يعيرونني اهتمامهم".

إلا أن مصادر هذه القوة الزراعية الأميركية تتناقص بسرعة اليوم. فالدولة التي كانت أكبر مصدّر للذرة والصويا والقمح طوال معظم العقود السبعة الماضية ينتظرها مستقبل يتسم بعجز في الميزان التجاري للمنتجات الزراعية. يُتوقع أن يتفاقم العجز الذي بلغ تقديرياً 19 مليار دولار في السنة المالية حتى 30 سبتمبر ليصل إلى 28 مليار دولار في السنة المالية 2024، بحسب توقعات وزارة الزراعة.

إنه انقلاب تاريخي، فمنذ 1974، لم تسجل الولايات المتحدة عجزاً سنوياً إلا في عامي 2019 و2020 في خضمحرب الرئيس دونالد ترمب التجارية مع الصين. يُعزى هذا التوجه بجزء منه إلى تبني الأميركيين عادات غذائية جديدة، ومن أمثلة ذلك أن الأسر الأميركية باتت تستهلك كميات إضافية من منتجات مستوردة مثل أفوكادو المكسيك والمانغو الهندي، ولكن أيضاً إلى تراجع صادرات الحبوب والبذور التي تُستخرج منها الزيوت.

لكن ماذا يحصل حين تتحول دولة عن كونها أكبر مورّد للغذاء في العالم؟ إنها تخسر بذلك جزءاً من هويتها. شركة "آرتشر دانيلز ميدلاند" (ADM) الضخمة لتجارة السلع في شيكاغو لطالما تباهت على أنها "متجر العالم". كما ستخسر الولايات المتحدة جزءاً من نفوذها الدولي، فالحكومات والمؤسسات الأجنبية التي تعتمد على المحاصيل الأميركية كانت مضطرة لإقامة علاقات طيبة مع واشنطن كي تحافظ على إمدادات المواد الغذائية. ولكن مع تراجع سيطرة الولايات المتحدة على سلسلة الإمداد الغذائية الحيوية، ظهرت دول ذات أجندات وتحالفات مختلفة لتحل مكانها. قال سكوت رينولدز نيلسون، أستاذ التاريخ في جامعة جورجيا ومؤلف كتاب (Oceans of Grain: How American Wheat Remade the World) إن ذلك أدى إلى "تراجع القوة الناعمة الأميركية حول العالم".

السرقة الكبرى للحبوب

تسهم الولايات المتحدة اليوم بأقل من ثلث الصادرات العالمية من فول الصويا، التي يأتي نصفها من البرازيل، فيما تحل بالمرتبة الرابعة في تصدير القمح، بفارق شاسع عن روسيا متصدرة الترتيب. قال نيلسون: "انظر إلى قائمة الدول التي تصدّر لها روسيا الحبوب، ثم إلى الدول التي امتنعت عن تأييد قرار الأمم المتحدة ضد روسيا، هي الدول نفسها تقريباً"، في إشارة إلى الاجتماع الذي عُقد في 2 مايو 2022 وصوتت خلاله خمس دول ضد إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، فيما امتنعت عن التصويت 35 دولة، منها الصين والهند وجنوب أفريقيا.

إنها لمفارقة عجيبة نظراً لأن الولايات المتحدة لطالما استخدمت المساعدات الغذائية وتجارة الحبوب كجزء من سياستها لاحتواء الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. قال دوين أندرياس في خطاب أمام متخرجين جامعيين عام 1982 إنه "عدا عن الحرب النووية، فإن الجوع العالمي هو أكبر تهديد للسلام الدولي". تبوّأ أندرياس الذي اشتهر باسم "ملك فول الصويا" رئاسة (ADM) لأكثر من عقدين وبنى علاقة مع زعيم الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشيف. وبحسب كتاب تناول سيرته ذاتية، وصفه ابنه بأنه صاحب حسّ مسؤولية تجاه المصالح الوطنية "ويعتقد أننا إذا ما استمررنا بإطعام الروس بدل فرض حظر عليهم، لن يأتونا ليلقوا علينا القنابل".

حين واجه الاتحاد السوفييتي موسم قمح كارثي في 1963، أجاز الرئيس جون كنيدي أول صفقة بيع حبوب إلى روسيا منذ 1917، ما أظهر أن مبادرات "الغذاء مقابل السلام" مثل تلك ربما تؤتي ثمارها أيضاً لمصلحة تجار المحاصيل الأميركيين مثل "كارغيل" (Cargill) و"كونتينينتيل غراين" (Continental Grain).

وبعد نحو عقد، في 1972، اشترى السوفييت بعيداً عن الأضواء نحو ربع إجمالي محصول القمح الأميركي، بعد أن وجّه الشتاء القارس ضربة قاسية لإنتاجهم. أخذت المشتريات السوفييتية الولايات المتحدة على حين غرة، فتضاعفت الأسعار المحلية ثلاث مرات، ما فاقم التضخم على امتداد الولايات المتحدة، وعُرفت الحادثة لاحقاً بـ"السرقة الكبرى للحبوب".

مكاسب البرازيل

ولكن محاولات الرؤساء الأميركيين الاستفادة من اعتماد الدول الأخرى على المنتجات الغذائية الأميركية أسفرت أحياناً عن نتائج عكسية.

في 1980، علّق الرئيس الأميركي جيمي كارتر مبيعات الحبوب إلى الاتحاد السوفييتي كإجراء عقابي إثر قرار موسكو اجتياح أفغانستان. ومع أن الرئيس رونالد ريغان رفع الحظر في 1981، إلا أن الحادثة لطخت سمعة الولايات المتحدة كشريك تجاري موثوق، كما دفعت الروس أكثر نحو السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

بالمثل، دفعت حرب ترمب التجارية مع الصين بالأخيرة نحو تسريع جهودها لتخفيف اعتمادها على الواردات الأميركية من حبوب ومواد غذائية. فقد شكّلت المنتجات الأميركية 18% من إجمالي الواردات الزراعية الصينية في 2022، بالمقارنة مع 27% عام 2009. قالت آن بيرغ، الاستشارية المستقلة والمتداولة المخضرمة التي بدأت مسيرتها المهنية في "لويس دريفوس" (Louis Dreyfus) عام 1974: "تذكرني الولايات المتحدة بضفدع يُغلى ببطء... لقد فقدت هيمنتها، ولكن هذا الأمر استغرق 40 سنة".

كانت مصائب الأميركيين فوائد للبرازيليين. فالدولة الجنوب أميركية تملك المقومات اللازمة لترتقي إلى مرتبة القوة الزراعية العظمى بفضل ما تتمتع به من أراض خصبة شاسعة ومناخ جيد. استثمرت البرازيل طوال عقد في البنية التحتية للتصدير، بما يشمل سكك الحديد ومحطات الموانئ وأساطيل السفن، بعضها بقيادة شركات صينية أو شركات عالمية أخرى، حتى أصبحت اليوم تكلفة تصدير طن من فول الصويا من ولاية ماتو غروسو البرازيلية توازي تقريباً تكلفة تصديره من أيوا الأميركية.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

جيوسياسية الغاز

قال فريديريكو هومبرغ، الرئيس التنفيذي لشركة "أغريبرازيل" (Agribrasil)، إحدى أكبر شركات تصدير الذرة وفول الصويا المحلية إن الحرب التجارية "ساعدت البرازيل، بما أنها تسببت بتوترات وأجواء عدائية أثنت الصين عن شراء المنتجات الأميركية... سيدوم التشكك بشأن أميركا".

ازدادت صادرات البرازيل الإجمالية من فول الصويا والذرة والقطن خلال العقد الماضي لتبلغ نحو 149 مليون طن في موسم 2022-2023، بحسب البيانات الحكومية. لذا لا عجب أن يطمح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا لتلعب بلاده دوراً جيوسياسياً أكبر. فهو يعمل على حشد دول الجنوب في مواجهة النفوذ الأميركي، وكانت أحدث محاولاته خلال قمة مجموعة دول مجموعة بريكس التي عُقدت في جنوب أفريقيا في أغسطس. (يرمز حرف الباء إلى البرازيل ضمن المجموعة التي تشكلت في الأساس من روسيا والهند والصين، ولكنها تتوسع لتضم أعضاء جدداً).

ما مصير الولايات المتحدة إذاً؟ حسناً، هي لم تخسر نفوذها بالكامل، فما تزال الجهة المانحة الأكبر لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، وما تزال الأسعار الدولية للحبوب والبذور التي تُستخرج منها الزيوت تُحدد بموجب العقود المتداولة في مجلس شيكاغو للتجارة. برغم تراجع صادرات الولايات المتحدة من السلع السائبة، إلا أن صادراتها من المأكولات المصنّعة الأكثر قيمة تسجل نمواً.

زد على ذلك أن الولايات المتحدة تملك مخزوناً وفيراً من نوع آخر من السلع تتهافت عليه الدول الأخرى. بعد شهر على اجتياح دبابات روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، أعلنت إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي عن خطة لمد أوروبا بمزيد من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة كبديل عن الغاز الروسي الذي يُضخ عبر الأنابيب، في خطوة تستحضر، ولو على نطاق أصغر، جهود تأمين الغذاء لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.

وداعاً إذاً لسلة الخبز، وأهلاً بجيوسياسية الغاز.

تصنيفات

قصص قد تهمك