يُخمر الحليب الصناعي باستخدام رمز الحمض النووي للأبقار.. لكن هذا قد لا يكون كافياً للتغلب على شكوك المستهلكين

هل ستنجو صناعة الألبان دون ضروع من لعنة التكلفة؟

سندويش بوظة كعك رقائق الشوكولا من "كولهاوس" مصنوعة بواسطة الألبان الخالية من المشتقات الحيوانية من "بيرفكت داي" - المصدر: بلومبرغ
سندويش بوظة كعك رقائق الشوكولا من "كولهاوس" مصنوعة بواسطة الألبان الخالية من المشتقات الحيوانية من "بيرفكت داي" - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كانت البداية مع اللحوم النباتية، ثمّ تلاها الدجاج المزروع في المختبرات، والآن يراهن روّاد الأعمال على أن الموجة الجديدة التي ستكتسح قطاع تقنية الغذاء ستكون الألبان غير الحيوانية.

كانت لدى ريان بانديا، الرئيس التنفيذي لشركة "بيرفكت داي" (Perfect Day) المتخصّصة بصناعة مكوّنات الألبان بواسطة عملية مخبرية شبيهة بإنتاج الأنسولين الصناعي، آمال كبيرة بأن يبني علامته التجارية الغذائية الخاصة.

لكن مع تعثّر الشركات الرائدة المتخصصّة بصنع الأغذية مخبرياً في استقطاب العملاء والمستثمرين المشككين بجدواها، حوّل بانديا اهتمامه من علاماته التجارية الخاصة نحو بيع بروتينات الحليب المعدّلة وراثياً التي يمكن أن تستخدمها الشركات الغذائية متعددة الجنسيات ضمن سلاسل إمدادها.

هو يراهن على إقبال عمالقة صناعة الغذاء على منتج مذاقه أفضل من الحليب النباتي، يساعدهم أيضاً على تحقيق أهدافهم لناحية الحدّ من الانبعاثات من خلال تخفيف دور الأبقار، التي تتجشأ غاز الميثان، في سلاسل الامداد.

قال بانديا: "نحن لا نتوجّه إلى مقاهي (ستاربكس) حول العالم ونقول لهم لماذا لا تخلطون حليب جوز الهند مع الحليب الذي تستخدمونه؟ لا أحد يرغب بذلك! ما قمنا به هو تغيير لن تتمكنوا من ملاحظة الفرق بينه وبين الأصلي".

أثارت شركات ناشئة مثل "بيرفكت داي" (Perfect Day) ضجّة حين طوّرت مكوّنات يمكن استخدامها في المثلجات والجبنة الكريمية والبيتزا باستخدام تقنية التخمير الدقيق، حيث ينقل المهندسون الحمض النووي للأبقار إلى كائنات دقيقة تتغذّى على سائل من المغذيات بهدف إنتاج البروتين. على عكس الحليب النباتي، فإن منتجات التخمير الدقيق لا يمكن تمييزها عن حليب البقر بحسب بانديا، بالتالي تُجنّب المنتجين تلقي الشكاوى الاعتيادية حول التفريط بالنكهة والقوام.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

تراجع شهية المستثمرين

تُعدّ "بيرفيكت داي" في بيركلي في كاليفورنيا إحدى الشركات الرائدة في القطاع، وتضمّ قائمة داعميها شركات مثل "هورايزنز فنتشرز" (Horizons Ventures) التابعة للملياردير لي كا-شينغ في هونغ كونغ وشركة "تيماسيك هوليدنغز" (Temasek Holdings) في سنغافورة والرئيس التنفيذي لشركة "وولت ديزني" بوب إيغر.

كانت شركة "دانون" استثمرت في أبريل في شركة "إماجينديري" (Imagindairy) الإسرائيلية، وفي نوفمبر، استثمرت شركة "سي جي شيل جيدانغ" (CJ CheilJedang) في سيول، المنتجة الرائدة للبيتزا المثلّجة في الولايات المتحدة، في شركة "نيو كالتشر" (New Culture) الناشئة في سان ليندرو في كاليفورنيا.

حتى الشركة الأكبر المُصدّرة للألبان في العالم، وهي "مجموعة فونتيرا التعاونية" (Fonterra Cooperative Group) في نيوزيلندا، تعاونت في العام الماضي مع شركة صناعة المواد الكيميائية السويسرية "دي إس إم- فيرمينيخ" (DSM-Firmenich) من أجل تأسيس شركة "فيفيتشي" (Vivici) التي تخطّط لتطرح في بداية 2024 أول بروتين لها من مصل اللبن الخالي من المشتقات الحيوانية المعروف باسم "بيتا لاكتوغلوبيولين" الذي يُستخدم في كافة المنتجات من اللبن الرائب حتى المواد الغذائية المخصصة لكبار السن.

إلا أن المستقبل الخالي من الأبقار ما يزال يواجه عقبة أساسية، فبعد الحماسة التي أثارتها البروتينات البديلة طوال سنوات، فقد عديد من المستثمرين اليوم شهية الاستثمار في شركات التقنية الغذائية. فقد استقطبت شركات التخمير، بينها الشركات الناشئة في مجال الألبان، استثمارات بحوالي 840 مليون دولار في العام الماضي، بانخفاض بنسبة 50% عن الذروة التي بلغتها الاستثمارات عام 2021، بحسب معهد "غود فود"، المؤسسة البحثية التي تركز على البروتينات البديلة.

كانت أسهم "بيوند ميت" (Beyond Meat) انخفضت بأكثر من 22% في 8 أغسطس، بعدما أعلنت الشركة المتخصصة بتصنيع اللحوم النباتية استبعادها تحقيق تدفق نقدي إيجابي بحلول نهاية العام. كما هبطت أسهم شركة تصنيع الحليب النباتي السويدية "أوتلي غروب" (Oatly Group) بحوالي 40% منذ أن خفّضت توقعاتها لناحية المبيعات في نهاية يوليو.

إمداد الشركات الكبرى

يُصعب ذلك الأمور على الشركات الجديدة، بحسب الرئيس التنفيذي لشركة "نيو كالتشر" (New Culture) مات غيبسون، الذي قال: "ألقت (بيوند ميت) بإرثها على هذا القطاع". تُطوّر "نيو كالتشر" بروتين الجبنين الخالي من المشتقات الحيوانية ليستخدم في صنع الموزاريلا، ويتوقع طرحه في العام المقبل.

قال غيبسون: "مفتاح الفوز في هذا المجال، بالأخص في الظروف الحالية بالغة الصعوبة، هو التركيز... يجب أن تحدد مقصد رأسمالك بدقة وأن تدخل السوق بأسرع وقت ممكن وبالطريقة الأكثر كفاءة لناحية التكلفة".

شركة "ريميلك" (Remilk) في رحوفوت قرب تل أبيب واحدة من الشركات التي أعادت النظر أيضاً في الخطط التي وضعتها في أوجّ حماسة المستثمرين. إذ كانت الشركة أعلنت في أبريل 2022 عزمها بناء أكبر منشأة للتخمير الدقيق في العالم، على امتداد نحو 70 ألف متر مربع من الأراضي على بعد حوالي 100 كيلومتر غرب كوبنهاغن. إلا أن رئيسها التنفيذي أفيف وولف قال إن الخطة "عُلّقت" حالياً، فيما تركز شركته على مجالات أخرى، غير أنه أكد على إعادة إحياء المشروع الضخم في المستقبل.

خففت "بيرفكت داي" من سقف طموحاتها هي الأخرى، فالشركة التي جمعت 750 مليون دولار منذ انطلاقتها عام 2014، تبيع منتجاتها الخاصة من المثلجات والمنتجات الأخرى في الولايات المتحدة وهونغ كونغ وسنغافورة. إلا أنها قررت في يوليو التخلي عن علامتها التجارية الاستهلاكية الخاصة وتسريح حوالي 130 موظفاً، أي 15% من إجمالي عدد موظفيها من أجل التركيز على إمداد شركات كبرى مثل "نستله" بمكونّات الألبان. وقال بانديا: "هدفنا الفعلي هو الاستفادة من الشركات التي تشتري وتبيع كميات هائلة من المنتج يومياً... لدينا تركيز أكثر واقعية على بناء أعمال قوية وقادرة على الصمود والوقوف على قدميها".

لا حاجة للأبقار

في حين لكلّ شركة ناشئة لمستها الخاصة، إلا أن التقنيات التي تعتمدها تتشابه، إذ يبدأ العمل من تحديد الكائن الدقيق المناسب، ثمّ تُستخدم تقنية تعديل الجينات من أجل إضافة سلسلة الحمض النووي المأخوذة من الخريطة الوراثية للبقرة، مع تعليمات بصنع البروتين المستهدف الذي ترغب الشركة في بيعه.

قالت الشركة السنغافورية الناشئة في مجال التقنية الحيوية الغذائية "ترتل تري" (TurtleTree)، التي يدعمها مستثمرون مثل الأمير خالد بن الوليد نجل الملياردير السعودي الوليد بن طلال على موقعها الإلكتروني: "بما أن هذه المعلومات الوراثية متوافرة أصلاً في قواعد البيانات عبر الإنترنت، يُفعل كل ذلك دون الاقتراب من أي بقرة".

يُمزج بعدها الكائن الدقيق مع سائل غني بالمغذيات في مفاعل حيوي، حيث يبدأ بإنتاج البروتين المطلوب. وما أن تنتهي عملية التخمير، يُفصل البروتين عن المواد الأخرى في المفاعل.

قالت "ترتل تري" إن "التجفيف غالباً ما يكون بغرض تحويل المنتج النهائي من سائل إلى مسحوق صلب"، وقالت الشركة التي أعلنت عزمها طرح بروتين الحليب الخاص بها "لاكتوفيرين" المستخدم حالياً في المكملات الغذائية وحليب الأطفال بحلول نهاية العام، إنها "ترى مساراً واضحاً نحو الربحية على أساس كلّ وحدة في غضون ستّة إلى 12 شهراً".

تعدّ "نستله" من كبار مستخدمي مكوّنات الألبان في صناعة منتجات متنوعة، من مشروبات وحليب الأطفال حتى الشوكولا، وقالت في بيان إنها تعتبر التخمير "جزءاً أساسياً من السعي لحلّ بعض التحديات التي نواجهها على صعيد الاستدامة".

لكن ثمّة شركة إنتاج حليب واحدة على الأقل بدأت تتراجع عن استخدام النوع الجديد من الألبان، هي "جنرال ميلز" (General Mills) الصانعة لمنتجات شهيرة مثل "بيسكويك" (Bisquick) و"هاغن – داز" (Häagen-Dazs) و"يوبليت" (Yoplait) التي كانت قد أطلقت علامتها التجارية "بولد كالتشر" (Bold Cultr) عام 2021 وتضمّنت بديلاً عن الجبنة الكريمية، هذا البديل مصنوع من بروتين "بيرفكت داي". قالت متفاخرة في البيان الذي قدّمت فيه علامتها التجارية إن "مستقبل الجبن بدأ الآن". ولكن في فبراير 2023، أعلنت "بولد كالتشر" أنها ستغلق على الفور، فيما رفضت "جنرال ميلز" الإجابة عن الأسئلة حول هذا القرار.

تخفيف الانبعاثات

التكلفة هي أحد التحديات التي تواجهها منتجات الحليب الصناعي الجديدة. في حين تختلف الأسعار بين بروتينات التخمير الدقيق، فإن تكلفة الإنتاج تتراوح بين ما يوازي أسعار منتجات الألبان التقليدية وخمسة أضعاف ذلك، وذلك وفقاً للمنتج الاستهلاكي المعني، حسب الرئيس التنفيذي لشركة "فيفيتشي" ستيفان فان سينت فييت، الذي قال: "يجب أن نخفف من بنية التكلفة لدينا لتصبح البروتينات المشتقة من التخمير متاحة لجمهور أوسع"، في إشارة إلى زيادة القدرات الإنتاجية وتحسين العمليات.

أعلنت "نيو كالتشر" في بيان في 15 أغسطس أن تكلفة الموزاريلا التي تصنعها ستصبح موازية لتكلفة صنع الجبن التقليدي في غضون ثلاث سنوات.

قال مارك ستروهالا، الرئيس التنفيذي لشركة "سي – ليكتا" (C-Lecta) المتخصّصة بالتخمير الدقيق، التي تملكها شركة "كيري غروب" (Kerry Group) وهي لا تركز على الألبان الصناعية: "كانت هناك توقعات كبيرة بأن تتمكّن الشركات من تنفيذ مخططاتها بسرعة وتحرز تقدماً على صعيد كفاءة تقنياتها... انطباعي هو أن هذا لم يحصل بالقدر الذي توقعه أو تعهد به الجميع".

بدل ذلك، قد يتوقف نجاح قطاع الألبان غير الحيوانية على قدرته إقناع شركات المأكولات والمشروبات أن التخمير الدقيق سيساعدها على تحقيق أهدافها لناحية الحدّ من انبعاثات الكربون. إذ يمكن لبروتين "ريميلك" أن يساعد على خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 95% مقارنة مع الألبان التقليدية، بحسب رئيسها التنفيذي وولف، الذي يشير إلى أنه لا يمكن للشركات الكبيرة "أن تستبدل ببساطة كافة المشتقات الحيوانية التي تستخدمها وتستبدلها بفول الصويا واللوز والكاجو، لأن المنتج سيكون مختلفاً ولن يقبل عليه المستهلكون بالطريقة نفسها"، مضيفاً أن بهذه الطريقة "يمكننا أن نحلّ مسألة الاستدامة وأيضاً مسألة النوعية".

توحيد المعايير

لكن قد تصعب إقامة هذه الحجة في وقت عجز فيه الباحثون عن التوصّل إلى اتفاق حول طريقة قياس الاستدامة. قالت هانا تيوميستو، الأستاذة المتخصّصة في الأنظمة الغذائية المستدامة في جامعة هلسنكي: "مهم جداً أن تتوفر إرشادات مشتركة حول طريقة إعداد التقارير"، وأشارت إلى ثلاثة تقارير حديثة أصدرها عدد من الباحثين، قائلة إن التقارير الثلاثة "استخدمت وسائل مختلفة". وهي تعمل حالياً على إعداد معايير مشتركة تساعد الشركات كي تحتسب بشكل أفضل الأثر الكربوني الناجم عن الانتقال نحو التخمير الدقيق.

ترى ميرت غوسكير، المديرة الإدارية لقسم آسيا- المحيط الهادئ في منظمة "غود فود إنستيتيوت" (Good Food Institute ) أنه نظراً لحاجة الشركات الغذائية الكبرى لتحقيق تعهداتها المتعلقة بالتغير المناخي، ما تزال هناك أسباب تستدعي التفاؤل حيال حظوظ قطاع التخمير الدقيق على المدى الطويل.

هي ترى أن النتائج المخيبة للآمال لبعض الشركات التي تستخدم مصادر نباتية ربما تصب في نهاية المطاف لمصلحة شركات التخمير، التي تصنع منتجات تحتوي على بروتينات أقرب إلى بروتينات الأبقار. وقالت: "يظهر ذلك أن المستهلكين لا يشترون مواداً مذاقها ليس جيداً بالشكل الكافي... مكوّنات التخمير الدقيق ستكون الحلّ لصنع منتجات جيدة بما يكفي ليشتريها المستهلكون".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي

قصص قد تهمك