تتأهب اليونان لاستقبال تدفق قياسي متوقع للسياح الساعين للاستجمام تحت شمسها الدافئة. لكنها تفتح ذراعيها، في الوقت ذاته، لزوار من نوع مختلف: مستثمرين أثرياء أجانب ممن أداروا ظهورهم للبلاد بعدما تخلفت عن سداد مديونيتها قبل أكثر من عقد.
قفزت تدفقات الأموال الخارجية إلى قطاع الأسهم والسندات بنحو 14% هذا العام، فدفعت سوق الأسهم في أثينا إلى مصافّ أسواق المال العالمية الأفضل أداءً بمكاسب تخطّت 40%. كما باتت اليونان، التي صُنّفت بين أفضل ثلاث بورصات عالمية، سوق السندات الأفضل أداءً في منطقة اليورو، حيث انخفضت تكاليف الاقتراض بأكثر من نصف نقطة مئوية في 2023.
انحسرت العائدات على سنداتها الحكومية لأجل 10 سنوات، بعدما ارتفعت بأكثر من 40% في 2012، إلى ما دون 4% حاليّاً. يُعزى ذلك إلى تناسب عائدات السندات عكسياً مع ارتفاع أسعارها، فتنخفض الأولى لدى ارتفاع الثانية. يُعتبر هذا المعدل أقل قليلاً من العائد الذي يطلبه المستثمرون على السندات الإيطالية، في حين يزيد بنحو 1.4 نقطة مئوية فقط على العائد على الديون الألمانية فائقة الأمان.
بل أكثر من ذلك، فقد تتمكن اليونان من استعادة مكانتها على خريطة التصنيف الاستثماري مرة أخرى. أعلن رئيس الوزراء الجديد كيرياكوس ميتسوتاكيس، في مقابلة مع تليفزيون "بلومبرغ"، أنه ينوي اكتساب الترقية من شركات التصنيف الكبرى هذا العام.
قال ميتسوتاكيس: "هذا يغيّر أموراً عديدةً. حالياً، لا يمكن لكثير من رؤوس الأموال الاستثمار في اليونان، لا لسبب سوى عدم تصنيف ديوننا على أنها من الدرجة الاستثمارية".
آفاق النمو
ترجّح المفوضية الأوروبية نمو الاقتصاد اليوناني 2.4% هذا العام بدعم من عائدات قطاع السياحة، ويتجاوز ذلك المعدل وتيرة النمو المتوقعة في منطقة اليورو بما يزيد على الضعف. تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا، التي يحمّلها عديد من اليونانيين مسؤولية تخفيضات الإنفاق القاسية التي فُرضت على بلادهم مقابل حزم الإنقاذ الدولية، كانت انزلقت إلى الركود في وقت سابق من هذا العام.
قال مارشال ستوكر، رئيس قطاع الأسواق الناشئة المشارك في "مورغان ستانلي إنفستمنت مانجمنت" الذي عمل على تعزيز حيازاته من أدوات الدين اليونانية منذ منتصف 2019: "ستتصدر اليونان أغلفة الصحف على مدى العام المقبل. إنها الدولة التي كادت تطيح بالاتحاد الأوروبي".
لم تنجح اليونان في الخروج من الهوة الاقتصادية العميقة التي ابتلعتها تماماً في أعقاب الأزمة المالية العالمية. فقد واجهت الجمهورية الهلّينية أزمة ديون هائلة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولم تتمتع بالمرونة التي لدى سواها عبر خفض قيمة العملة أو تعديل السياسة النقدية لأنها جزء من منطقة اليورو.
كانت اليونان آنذاك قاب قوسين أو أدنى من التخلى عن اليورو في سابقة من نوعها، لكنها تقبلت ثلاث حزم إنقاذ في نهاية المطاف. كما أن عوامل مثل اتباع سياسة تقشف قاسية ومعاناة وطأة الركود الممتدّ، الذي شهد انخفاض الناتج الاقتصادي بنحو 30% من ذروته، فجّرَت اضطرابات اجتماعية واحتجاجات شعبية. لا تزال اليونان أكثر الحكومات المثقلة بالديون في منطقة اليورو، فضلاً عن تصنيف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من بين أدنى المعدلات في المنطقة.
عودة الاستثمارات الأجنبية
تَعهَّد ميتسوتاكيس بمحاولة تعويض الأسر اليونانية عن الأزمات التي تعرضت لها، مؤكداً اعتزامه رفع الحد الأدنى للأجور من 780 يورو إلى 950 يورو (1066 دولاراً) شهرياً، خلال الدورة البرلمانية الحالية التي تمتدّ أربع سنوات. يُذكر أن الحد الأدنى للأجور كان 740 يورو في 2010.
فاز رئيس الوزراء الذي بلغ 55 عاماً من عمره، وهو زعيم حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ، بأغلبية برلمانية ساحقة في يونيو، رغم الجدل السياسي المثار حول حادثة قطار مروّعة عُزيَت أسبابها إلى المحسوبية وتراجع الاستثمار. في سياق منفصل، انخفضت معدلات البطالة إلى 10% تقريباً، وهي نسبة مرتفعة بمعايير منطقة اليورو، لكنها أقل بكثير من معدلات البطالة إبان ذروة الأزمة إذ بلغت 28%.
كان ميتسوتاكيس يروّج لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، فاستشهد كبير مستشاريه الاقتصاديين أليكس باتيليس، بانتعاش سوق الأسهم في نشرة إخبارية حديثة قائلاً: "يتبقى كثير من الأرباح الممكن تحقيقها من الاستثمار في اليونان". ضخّ المستثمرون الأجانب 3.4 مليار يورو في الأسهم والسندات اليونانية هذا العام، وفقاً لبيانات جمعتها "بلومبرغ" حتى أبريل، وهو ما يتجاوز المتوسط طويل الأجل المتوقع لهذه الفترة بنسبة 77%.
ذهب معظم هذه الاستثمارات إلى السندات الحكومية، مدفوعة بتوقعات بعض المستثمرين بتدفق أموال أكثر بكثير إلى السوق اليونانية بمجرد استعادتها الدرجة الاستثمارية، ومن ثم رفع الأسعار. ستفتح إعادة قبول السندات الحكومية في مؤشرات تديرها مؤسسات مثل "بلومبرغ" ومؤشر "فوتسي" ومجموعة "آي إتش إس ماركيت" (IHS Markit) وبنك "جي بي مورغان تشيس" الأبواب أمام استثمارات بمليارات الدولارات.
أهمية التصنيف الائتماني
يتعيّن تصنيف أدوات الدين اليونانية كأصول ذات جدارة ائتمانية متوسطة (-BBB) على الأقل، أو ما يعادل ذلك من اثنتين من وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى، كي تتمكن من الانضمام إلى مؤشرات السندات من الدرجة الاستثمارية. تصنّف وكالتا "ستاندرد آند بورز غلوبال ريتينغز" و"فيتش ريتينغز"، السندات اليونانية باعتبارها أقل قليلاً من الدرجة الاستثمارية، لكنها على موعد مع مراجعة هذه التصنيفات في 20 أكتوبر و1 ديسمبر، على التوالي.
كان تصنيف السندات الحكومية سالفة الذكر لدى وكالة "موديز" هو الأدنى بين الثلاثة الكبار، فيما يقدر بنك "سوسيتيه جنرال" أن يجلب تعديل التصنيف الائتماني المرتقب نحو 650 مليون يورو من التدفقات النقدية إلى سوق السندات اليونانية.
قال جيسون ديفيس، مدير حافظة أسعار الفائدة العالمية لدى مجموعة "جيه بي مورغان" لإدارة الأصول: "بمجرد بلوغ السندات اليونانية الدرجة الاستثمارية، سيتمكن كل نظرائنا من شرائها." يعني التفويض الاستثماري للصندوق الذي يديره ديفيس بحيازة أصول من الدرجة الممتازة أنه لا يمكنه حيازة مثل هذه الديون حالياً.
بمجرد رفع تصنيفها الائتماني، ستكون الخطوة التالية على عاتق مزودي مؤشرات الأسهم مثل "فوتسي راسل" (FTSE Russell) و"إم إس سي آي" (MSCI) و"مؤشرات إس آند بي داو جونز" (S&P Dow Jones Indices)، لإعادة الأسهم اليونانية إلى مؤشرات الأسواق المتقدمة.
يُستهدَف تحقيق ذلك خلال العامل المقبل أو بحلول 2025. كانت اليونان صُنّفت سوقاً ناشئة في 2013 مع انكماش سوق الأسهم ونفاد السيولة.
التقى نيكولاوس بورفيريس، الرئيس التنفيذي للعمليات في بورصة أثينا، المستثمرين والمحللين ومزودي المؤشرات لتحديد الخطوات اللازمة لترقية التصنيف الائتماني لأصول بلاده. واتفقت جميع الأطراف على تنظيم جولة ترويجية للمستثمرين في لندن بالتعاون مع بنك "مورغان ستانلي". قال بورفيريس: "نحاول زيادة سبل الوصول إلى السوق، وتيسير ذلك بتكلفة أقل. يوجد اهتمام بأسواق المال اليونانية، ويمكننا استشعار ذلك".
حالة استثنائية
اعتبر مالكولم دورسون، مدير المحفظة في "غلوبال إكس مانجمنت" (Global X Management) لإدارة الاستثمارات، أن الإصلاحات الحكومية وأموال المساعدات المقدمة من الاتحاد الأوروبي وتدفقات الاستثمار الأجنبي، هي سلسلة من ردود الأفعال من شأنها رسم "مخطط الحالة اليونانية الاستثنائية خلال السنوات القليلة المقبلة".
مع ذلك يعتقد مدير المحفظة في "غلوبال إكس مانجمنت" أن المستثمرين لم يدركوا آفاق هذا التحول بعد. على سبيل المثال، لم ينضم إلى دورسون في رحلة نظمها أخيراً أحد وسطاء الأسهم سوى مدير صندوق واحد فقط، على حد قوله، في حين قد يحضر عشرة مديرين أو أكثر في رحلات مماثلة إلى أسواق ناشئة أخرى.
على الجانب الآخر، يتعين على المستثمرين في اليونان التعامل مع الأسواق الصغيرة وأحجام التداول الضئيلة، ما قد يتمخض عنه بعض التقلبات ويصعب الحصول على سعر جيد عند شراء أو بيع الأوراق المالية. علق كاسبار هينس مدير المحفظة في "آر بي سي بلو باي أسيت مانجمنت" (RBC BlueBay Asset Management)، على ازدهار سوق السندات قائلاً: "إنها أخبار رائعة حقاً، لكن المشكلة الوحيدة التي نواجهها تتعلق بالسيولة".
أقر بورفيريس بالحاجة إلى زيادة السيولة والقيمة الكلية للسوق، لكنه يقول إن تضافر مجموعة من المقومات مثل العروض العامة الأولية وخطط بيع الحصص المملوكة للدولة في البنوك وإتاحة الإدراج المزدوج لمزيد من الشركات اليونانية المتداولة في الخارج من شأنه أن يساعد على توسيع السوق اليونانية.
يرى مديرو الصناديق أن اليونان تتخلّص حالياً من صورتها كسوق تهيمن عليها صناديق التحوط واللاعبون الصغار المغامرون. بيّن جورجيوس ليونتاريس، كبير مسؤولي الاستثمار في مناطق أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا لدى فرع بنك "إتش إس بي سي برايفت بانك سويس": "يسأل مزيد ومزيد من المستثمرين، الذين لم يكونوا خصّصوا مبالغ لاستثمارها في اليونان، عن أسواقها الآن. ستنتهي قضايا السيولة فيما يزيد عدد المستثمرين الذين يلتفتون إلى فئة الأصول هذه".