كان منتظراً أن نرى قطاع اللحم البقري في الولايات المتحدة يحتفل، لكن الواقع خالف الظن. لقد تصدّى القطاع، وهو الأكبر إنتاجاً في العالم، على مرّ سنين لمزاعم فوائد البدائل النباتية الصحية وحارب الملصقات التي تصنف تلك المنتجات كلحوم كي لا تسلبه زبائنه.
لكن يبدو أن القطاع أخطأ الهدف، فلم تستحوذ اللحوم البديلة إلا على حصة صغيرة من السوق قبل أن تبدأ بفقدان رواجها بين المستهلكين، وتبين أنها لم تكن قطّ الخصم الحقيقي. اتضح أن الغريم الأشرس للحم البقر هو الدجاج، ولطالما كان كذلك.
تجاوز استهلاك الفرد للدجاج في الولايات المتحدة استهلاكه للحم البقري في 1993، وما تزال الفجوة بينهما تتسع، إذ يُتوقع أن يبلغ معدل استهلاك الفرد الأميركي نحو 45 كيلوغراماً من الدجاج هذا العام، فيما لن يتخطى استهلاكه المتوقع للحم البقري نصف ذلك.
اللحوم المقلَّدة مجرد بدعة لن تنقذ العالم
يتفوق الدجاج بأشواط على لحم البقر وذلك في ازدياد، فالفروقات لناحية السعر في اتساع مستمرّ، برغم أن اللحم البقري أغلى حالياً بنحو ثلاث مرات من الدجاج. كما يساعد تنوع استخدامات الدجاج في الوجبات المنزلية والمأكولات المصنّعة والمطاعم من استهلاكه.
كما ارتفعت شعبية الدجاج بشدة في السنوات الماضية، ليتحوّل من صنف غذاء مملّ إلى مثير. على سبيل المثال، وقف الناس صفوفاً ليتذوقوا شطائر الدجاج المقلي لدى "بوبايز"، بل إن البعض نشر مقاطع فيديو على "تيك توك" حول سبل تقليد شطائر سلسلة "تشيك–فيل-إيه" (Chick‑fil‑A). يقوّض هذا التقدم الميزة الوحيدة التي يتفوق فيها لحم البقر على الدجاج، ألا وهي النكهة.
ازدهار مطاعم الدجاج
علاوة على ذلك، فقد ارتبط تناول اللحم البقري بأمراض القلب طوال السنين الأربعين الماضية، كما حُمّلت الأبقار مسؤولية المساهمة بالتغير المناخي (فيما غالباً ما تُتجاهل الاعتراضات المتعلقة بالدجاج). نتيجة ذلك، يواجه قطاع اللحم البقري المشرذم صعوبةً بإعادة تقديم نفسه، وكان بطيئاً في الابتكار وركوب موجات النزعات الغذائية التي كان يمكن أن تدرّ عليه الأرباح، مثل موجة الهوس بالمأكولات الغنية بالبروتين.
قال ديفيد مالوني، المسؤول في شركة "داتوم" (Datum) الاستشارية في مجال سلاسل الإمداد "سيصعب إحداث التحوّل... إنه رواج طويل الأمد".
هناك كثير من الأمور على المحكّ، إذ يضمّ قطاع إنتاج المواشي أكثر من 700 ألف مؤسسة كانت قد أسهمت في العام الماضي بتحقيق عوائد قدرها 85 مليار دولار، بحسب شركة "أي بي أي أس وورلد" (IBISWorld)، ومعظمها مزارع عائلية تتركز في ولايات مثل تكساس وكنساس. (يضاف إلى ذلك 300 مليار دولار قيمة مبيعات اللحوم المعبأة المصنوعة من اللحم البقري والدجاج وغيرها من أنواع اللحوم).
في غضون ذلك، يواجه منتجو اللحوم منذ سنوات تحديات لناحية ارتفاع تكاليف العلف والجفاف والمنافسة، تسببت بتقليل أرباحهم، وهم يتجهون على الأرجح نحو مزيد من المصاعب، فيما يدفع ارتفاع أسعار اللحوم بالأميركيين نحو منتجات الدجاج الأرخص ثمناً مع تراجع حدة نمو الاقتصاد.
تبدو مشكلة اللحم البقري مع الدجاج أشد عند النظر إلى الوجبات السريعة والأطعمة الجاهزة الموجهة للمراهقين والشباب الذين ما يزالون في طور تكوين عاداتهم الغذائية.
في 2022، كانت أربعة من أصل أول عشرة طلبات عبر تطبيق "غربهب" (Grubhub) وجبات دجاج، وتضمنت وجبات كاساديا الدجاج وشطيرة الدجاج المقلي ودجاج تكا ماسالا وأجنحة الدجاج منزوعة العظام، فيما جاء تشيزبرغر وحيداً من فئة اللحم البقري على تلك القائمة. كما اختار الناس الدجاج كإضافة على أطباق بوريتو وسلطة سيزر وباد تاي بتواتر أكبر بكثير من اختيارهم لحم البقر.
يشكّل الدجاج الصنف الأكثر جاذبية في سوق المطاعم الأميركية المقدرة قيمته بنحو تريليون دولار. إذ يبلغ معدّل إيرادات كلّ من مطاعم "تشيك–فيل–إيه" حوالي 6.8 مليون دولار، أي ضعفي وسطي إيرادات أحد مطاعم سلسلة "ماكدونالدز" البالغة 3.6 مليون دولار، حسب شركة "تكونميك" (Technomic).
كانت مبيعات مطاعم "بوبايز" قد تضاعفت ثلاث مرات خلال خمس سنوات، وقد وسّع نشاطه اليوم نحو العالمية. حتى أن العلامات التجارية الجديدة تزدهر أيضاً. افتتحت سلسلة مطاعم "ديف هوت تشيكن" التي شارك في تأسيسها أحد تلامذة الشيف الشهير توماس كيلر عام 2017، ما معدله مطعم في الأسبوع على مدى الأشهر الـ18 الماضية وقد وصل عدد فروعها اليوم إلى مئة.
تبنّي الدجاج
اضطر ذلك سلاسل المطاعم غير المتخصصة بالدجاج لتعزيز استراتيجياتها في هذا المجال أو استحداثها إن لم تكن موجودة. في العام الماضي، كانت شطائر الدجاج المقلي الصنف الأكثر إدخالاً على قوائم الوجبات السريعة بعد بوريتو الفطور، حسب شركة "داتاسينشيل" (Datassential).
كما طرحت مطاعم "ماكدونالدز" نسختها من شطائر الدجاج المقلي في 2021، وتعتبر الدجاج حالياً أحد فرص النموّ الأكبر لديها، وقد حاولت مطاعم "تاكو بيل" بيع الدجاج أيضاً في مسعى لتقديم ما يرغب به أبناء الجيل "زد"، وفقاً لأحد مديريها التنفيذيين.
لا يقتصر الإقبال على الدجاج على الشباب العشريني. في استطلاع أجراه موقع "مورنينغ كونسلت" (Morning Consult)، قال 41% من البالغين المشاركين في الاستبيان إنهم يأكلون الدجاج أكثر فيما قال 16% إنهم يأكلون اللحم البقري أكثر. (قال 39% إنهم يأكلون كميات متساوية من اللحم البقري والدجاج فيما لم يختر 4% أياً من الصنفين).
لقد فاز الدجاج على اللحم البقري في كافة الفئات السكانية، بما يشمل الناس على جانبي ما يسمى خطّ مايسون-ديكسون، أي الأرياف والمدن، وكذلك المتقاعدون والطلاب على حدّ سواء والأثرياء وأبناء الطبقة الوسطى وحتى بين أنصار ترمب ومؤيدي بايدن.
اتضح أنه يرجح أن يستهلك الناس الأكبر سناً الدجاج أكثر من تناولهم لحم البقر. في أوساط جيل طفرة المواليد، قال 45% من المستطلعين إنهم يأكلون الدجاج أكثر، تلك نسبة أكبر من أبناء الجيل "زد" حيث بلغت النسبة بينهم 34%. كذلك سجّل الدجاج تفوقاً لدى الأشخاص الأعلى دخلاً، حيث بلغت نسبة مستهلكيه 48% من المستطلعين الذين يجنون أكثر من 100 ألف دولار سنوياً، أي أكثر بـ9 نقاط مئوية ممن يجنون أقل من 50 ألف دولار.
إنتاج اللحوم بلا ذبائح ما يزال هدفاً مستقبلياً
هناك مشكلة أخرى أيضاً جذرية في محنة قطاع لحوم الأبقار. عند سؤال المشاركين عن نوع من اللحوم الذي يحبون تناوله، جاءت النتيجة متعادلة بين اللحم البقري والدجاج. حتى أن اللحم البقري تفوّق في عدد من الفئات السكانية، بينها الرجال والجيل "زد". يعني ذلك أن ملايين الأميركيين يفضّلون اللحم البقري، لكنهم يستهلكون الدجاج رغم ذلك، وهذه أكبر نقطة ضعف يواجهها هذا القطاع، لكنها تشكل فرصة سانحة ليغتنمها.
قال معظم المشاركين إن السبب الأساسي الذي يدفعهم لتناول اللحم البقري هو نكهته، فقد اختار 75% من المستطلعين النكهة كعامل رئيسي في اختيارهم مقارنةً مع من اختاروا الدجاج لنكهته، وفقاً لاستبيان "مورنينغ كونسلت".
باستثناء بعض الفترات الجيدة، مثل رواج حمية "أتكينز" في بداية الألفية التي دعت إلى تناول البروتين بدل الكربوهيدرات، فإن استهلاك اللحم البقري للفرد سجل تراجعاً مطرداً. فقد انخفض استهلاكه بواقع الثلث منذ 1970، مقارنةً بالتوسع الذي حققه الدجاج بواقع 170%، ويعزى ذلك بجزء منه إلى تقليص التباين في المذاق.
مجالس دعم
قال غلين تونسور، أستاذ علم الاقتصاد الزراعي في جامعة ولاية كنساس الذي ترعرع في مزرعة للخنازير ودرس قطاع اللحوم لأكثر من 15 سنة: "ما تزال هناك أمور كثيرة يمكن فعلها"، حتى أن الوباء ربما دعم القطاع بما أنه دفع الأميركيين للطهي في منازلهم، ما جعلهم يفكرون أكثر بمسائل التذوق والطعم، وقد يعيدهم ذلك للإقبال على اللحم البقري.
أضاف تونسور: "هذه فرصة هائلة"، لكنه أقرّ أنها قد تكون عابرة لأن الناس يعودون إلى نظام حياتهم كما كانت قبل الوباء، وحذر من أن "الوقت ينفد".
كيف أسهم وباء "كورونا" في زيادة الإقبال على لحم الضأن؟
الأميركيون ممن يتذكرون زمن ما قبل مسجل الفيديو الرقمي وخدمات البثّ عبر الإنترنت، قد يتذكرون حملة "اللحم البقري هو ما سنتناوله على العشاء" التي انطلقت في بداية التسعينيات. تضمّن الإعلان موسيقى أوركسترالية حماسية وتسجيلاً بصوت روبرت ميتشوم، وقد سعى لإيصال رسالتين، الأولى هي أن اللحم البقري جزء من أسلوب الحياة الأميركية، والثانية أنه يمكن استخدامه لإعداد أطباق متنوعة، عارضاً مشاهد لعائلات تتناول أطباق لحوم مختلفة، من شريحة لحم بورتهاوس إلى طبق كونغ باو باللحم البقري.
كانت الحملة بتمويل من برنامج "بيف تشيكوف" (Beef Checkoff) الذي ترعاه وزارة الزراعة الأميركية، ويحصل على دولار واحد من بيع كلّ بقرة، وتبلغ إيراداته السنوية حوالي 40 مليون دولار يدير إنفاقها مجلس رعاة المواشي المتخصصين باللحم البقري، الذي يضمّ مديرين تنفيذين في قطاع اللحم البقري وتشرف عليه وزارة الزراعة الأميركية.
المجلس واحد من حوالي عشرين مجلساً بحثياً وتسويقياً أجازها الكونغرس، وتعمل في مجالات تتنوع بين الأغنام والأفوكادو، وهي مكلفة بجمع الأموال في قطاع محدد للعمل على زيادة الطلب من خلال التسويق الإعلاني وتشجيع قطاعات أخرى على استخدام مزيد من منتجاته.
مثل هذه المجالس هي التي جعلت لحم الخنزير يُعتبر نوعاً من أنواع اللحوم البيضاء، ودفعت سلسلة مطاعم "بيتزا هات" لحشو عجينتها بالجبن. كما قد تتوقعون، ليس هناك مجلس من هذا النوع يختص بالدجاج.
إعلانات تسويقية
أُسس مجلس اللحم البقري بموجب قانون صادر في ثمانينات القرن الماضي مع بدء تراجع الاستهلاك بعد بلوغه ذروة 42 كيلوغراماً للفرد في 1976. برغم أن الإعلانات والأنشطة الأخرى التي قام بها المجلس ربما أسهمت في تخفيف سرعة التحوّل نحو بروتينات أخرى، إلا أنها لم تفلح في وقف المسار الانحداري لاستهلاك اللحم البقري.
من أبرز العراقيل التي واجهها المجلس تراجع التمويل بما أنه حدد تخصيص دولار واحد عن بيع كل رأس من الماشية لدى تأسيسه قبل حوالي أربعين عاماً، فيما يستند تمويل الهيئات الراعية لمنتجات أخرى، مثل لحم الخنزير، إلى حجم القطاع.
أنفق مجلس اللحم البقري في 2022 حوالي 20 مليون دولار على ترويج منتجاته لدى المستهلكين الأميركيين، بحسب تقريره السنوي. يطلّ اليوم نجم كرة القدم الأميركية السابق توني رومو كنجم لإعلانات "ما سنتناوله على العشاء" من إنتاج منظمة "رابطة مربي الأبقار الوطنية" بتمويل من المجلس.
في أحد الإعلانات، يظهر رومو، وهو الآن معلّق رياضي على دوري كرة القدم الأميركية لدى قناة "سي بي أس"، في حفل تقيمه شركة ويصف أطباق المقبلات، مثل تاكو تارت اللحم البقري، بأنها "كريات لحم صغيرة جالبة للسعادة".
تبدو هذه الإعلانات مرحة، مع ذلك خُصص مبلغ 1.8 مليون دولار فقط في العام الماضي لعرضها على التلفزيون الوطني، حسب شركة "أي سبوت" (iSpot) وهي نسبة لا تتخطى 1.2% من مخصصات فئة اللحوم وثمار البحر البالغة نحو 150 مليون دولار.
بالمقابل، خصصت مزارع "بيردو فارمز" (Perdue Farms)، إحدى كبرى منتجي الدجاج في الولايات المتحدة، وحدها، ما يقارب 20 ضعف ذلك المبلغ.
إبراز غناها بالبروتينات
يقرّ غريغ هانز، الرئيس التنفيذي لمجلس اللحم البقري، أن الأميركيين ابتعدوا عن لحم البقر خلال السنوات الأربعين الماضية، لكنه يرى أن القطاع حقق تقدماً على صعيد التسويق لفوائده الصحية. كما أنه يتوقع أن يتجه المستهلكون الأصغر سناً أكثر نحو اللحم البقري فيما تزيد دخولهم، لأنهم لن يعودوا يهتمون كثيراً لميزة الدجاج من ناحية السعر. لا توافقه "أي بي أي أس وورلد"، التي ترى أن المال سيقود المستهلكين لطلب بروتينات صحية أكثر مثل الدجاج والسمك.
تروّج إعلانات رومو للاستخدامات المتنوعة للحم البقري، فيما يستهدف مجلس اللحم البقري أولياء الأمور وأطباء الأطفال من خلال التسويق للحم البقري كمصدر للبروتينات والحديد للأطفال من عمر ستة أشهر.
يسعى القطاع إلى إدخال مزيد من اللحم البقري على موائد الأميركيين من خلال الإشارة إلى غناه بالبروتينات على أغلفة شرائح اللحم وغيرها من منتجات اللحم البقري المباعة في متاجر البقالة.
إنفوغراف.. حليب البقر ثاني أكبر منتجات الغذاء الحيواني إصداراً للانبعاثات
قال مايكل أويتز، المسؤول في شركة "ميدان ماركتينغ" (Midan Marketing) التي تضمّ قائمة عملائها زبائن مثل "تايسون فودز" (Tyson Foods) و"بوبا برغر" (Bubba Burger) إن "الألبان والمنتجات النباتية تبلي بلاءً جيداً من خلال الترويج لاحتوائها على البروتينات... ونحن نسعى لتحسين أدائنا".
يدرك قطاع اللحم البقري مكامن ضعفه. ففي مستند تخطيطي يعود إلى عام 2020، قال مجلس اللحم البقري إن المعلومات المغلوطة حول تأثير اللحم البقري على الصحة وعلى المناخ أسهمت بدفع المستهلكين ليشعروا بالذنب حيال تناول اللحوم.
أشار إلى أن التغطية الواسعة لقضايا التغير المناخي، مثل اختيار مجلة "تايم" لغريتا ثونبرغ شخصية للعام، تشكل تهديداً محدقاً. أقرّ التقرير بأن الدجاج سيبقى المنافس الأكبر، وفي إشارة إلى الصعوبات التي يواجهها القطاع في الولايات المتحدة، اعتبر أن تعزيز الصادرات إلى أسواق مثل الصين هو الهدف الاستراتيجي الأول. (ارتفعت الصادرات إلى الخارج بنسبة 10% لتبلغ 11.7 مليار دولار في العام الماضي، برغم أن الإقبال على الدجاج يرتفع في الخارج أيضاً، فيما يتباطأ استهلاك اللحم البقري).
تحسين الصورة
تكمن المشكلة الأساسية في التشرذم الكبير في قطاع إنتاج اللحم البقري وافتقاره للعلامات التجارية الكبرى، بالتالي يصعب تبيان من أين سيأتي المال من أجل تغيير أهواء الأميركيين. يضمّ قطاع المواشي في الولايات المتحدة آلاف مزارع تربية الابقار التي تبيع منتجاتها في نهاية المطاف إلى كبرى شركات تعبئة اللحوم مثل "كارغيل" (Cargill) و"جيه بي إس" (JBS) و"تايسون" (Tyson). رغم ضخامة حجم تلك الشركات، إلا أن مبيعاتها واستثماراتها تشمل كافة البروتينات، بما يتضمّن لسوء حظّ المزارعين منتجات بديلة ذات أساس نباتي أو مصنوعة في المختبرات.
تبيع شركات تعبئة اللحوم كثيراً من الدجاج أيضاً، لكن الفرق الأكبر يكمن في أن تكامل قطاع الدجاج عمودياً أكبر من قطاع اللحم البقري، إذ تهيمن الشركات على كامل سلسلة الإمداد من المفاقس إلى التوزيع، ما يسهّل التوحيد بين كامل القطاع ونشوء علامات تجارية.
مثلاً، تحقق شركة "تايسون" إيرادات سنوية من اللحم البقري (19.3 مليار دولار) أكثر من الدجاج (16.8 مليار دولار)، مع ذلك هي معروفة لدى الناس بأنها شركة دجاج.
في غضون ذلك، تحاول بعض عملاقات المأكولات الصناعية تحسين صورة اللحم البقري، فقد طرحت "تايسون" أخيراً منتج "برايزن بيف" الذي تقول إن إسهاماته بغازات الدفيئة أقل بنسبة 10% مقارنة بطرق الإنتاج التقليدية، لاستخدامه طرق الزراعة التجديدية والتغليف بمنتجات نباتية.
تعليقاً على ذلك، قال جاستن توبر، وهو مربي ماشية مخضرم من سانت أونج في ساوث داكوتا ورئيس رابطة مربي المواشي الأميركيين التي تمثل المزارعين المستقلين: "فيما يخصّ اللحم البقري، نحن نحتاج لرواية القصة بأنفسنا". لقد شهد كيف واجه هذا القطاع المفكك تحديات في تصحيح ما وصفه بمغالطات حول الغازات التي تطلقها الأبقار بالتغير المناخي، أو كون الدجاج أفضل للصحة من اللحم البقري. ما يزيد الأمر صعوبةً هو الأفضلية الكبرى التي يتمتع بها الدجاج لناحية السعر. قال: "لقد كان صعباً جداً تغيير الأمور".
طيور هزيلة
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت تربية الدجاج بالكاد تشكل قطاعاً تجارياً. كان المزارعون حينئذ غالباً ما يربّون الدجاج للحصول على البيض وليس ابتغاء لصدوره أو أجنحته. كانت تلك الطيور هزيلة، لا يتجاوز معدل وزنها 1.3 كيلوغرام، وتستغرق ثلاثة أشهر ليكبر حجمها بما يكفي لذبحها. جعل ذلك الدجاج وجبةً نادرةً مرتفعة الثمن مخصصة للأعياد وعشاء أمسيات الأحد. كان إنتاج اللحم البقري حينها أكبر بأربع مرات.
لكن خلال الحرب، خضع لحم البقر والخنزير إلى ترشيد استهلاك مشدّد، ما فتح الباب أمام الدجاج. وهكذا زادت الاستثمارات وزاد الإنتاج، فبدا مستقبل الدجاج لامعاً حتى انتهت الحرب وعاود الأميركيون الإقبال على التهام البرغر وشرائح اللحم. زادت طفرة الضواحي الأميركية في فترة ما بعد الحرب من الشهية المفتوحة على اللحم البقري، حتى أصبحت حفلات الشواء في الأفنية الخلفية تقليداً أميركياً.
ظلّ قطاع الدجاج يعاني حتى مدّت له وزارة الزراعة الأميركية يد العون في نهاية الأربعينيات، حيث أقامت شراكة مع كبرى سلاسل متاجر البقالة في حينها "أي أند بي" (A&P) من أجل تمويل مسابقة "دجاج الغد"، حيث حفزت الجوائز النقدية التي تقدمها المسابقة المزارعين على تربية دجاج أسمن.
قالت إميلين رود، المؤرخة ومؤلفة كتاب "طعمه كالدجاج: تاريخ الداجن الأميركي المفضل" (Tastes Like Chicken: a History of America’s Favorite Bird): "لقد أرادوا دجاجاً كبير الصدور لينافس شرائح اللحم والخنزير" فقد كان الدجاج نحيلاً في حينها.
أوقدت المنافسة نار الابتكار، ودفعت نحو إنتاج دجاج أغنى باللحم على نطاق أوسع. وعلى مرّ العقدين التاليين، وحّد القطاع جهوده لتخفيض التكاليف وضُمّ الجزء الأكبر من سلسلة الإمداد، مثل مطاحن العلف تحت مظلّة واحدة. مع بداية سبعينيات القرن الماضي، تضاعف إنتاج الدجاج مقارنةً بالحرب العالمية الثانية، مع ذلك ظلّ الدجاج بشكل عام ثانوياً في قوائم الطعام.
ترويج الدجاج
ظهر بعدها فرانك بيردو، وهو مربي دجاج من مريلاند سابق لعصره. بدأ يروج لمزارع "بيردو" على التلفزيون في سبعينيات القرن الماضي، ما شكّل سابقة في هذا القطاع. كانت تلك الإعلانات من بنات أفكار شركة "ماديسون أفينيو" الإعلانية وقد أكسبت بيردو شهرةً، وكانت ثورية بما أنها دفعت الأميركيين لتغيير رأيهم بسلعة تجارية.
أطلق بيردو حملة ترويجية تصوّر الدجاج كطعام فاخر من خلال التركيز على الجودة والحرفية، وهو أسلوب رائج حالياً، لكنه كان نادراً في زمن الإعلانات القائمة على الأغاني والشخصيات الكرتونية مثل العملاق الأخضر "جولي غرين".
تحدث بيردو مباشرة أمام الكاميرا، مروجاً للدجاج الطازج (المبرّد غير المثلّج) وعلف الدجاج الذي يتضمن بتلات أزهار ماريغولد الذي يساعد على إنتاج دواجن ألذ، وأطلق شعارات شهيرة مثل "كلما تحسنت جودة التربية، تحسنت النكهة".
كما حاول تغيير النظرة إلى الدجاج، معتبراً أن الدجاج المشوي يجب أن يحلّ مكان الديك الرومي على مائدة عشاء عيد الميلاد. كانت خطوة جريئة، وبالفعل نجحت حملته التسويقية، وتقاضى أسعاراً أعلى لمنتجاته مقارنةً بمنافسيه. سار جزء آخر من القطاع على خطى بيردو، ما أدى لازدهار قطاع الدجاج الذي سرّع صحوة الأميركيين حيال هذه الدواجن.
على المقلب الآخر، كان قطاع المأكولات المصنّعة ينظر إلى الدجاج أكثر فأكثر على أنه المكوّن المثالي، فقد سجل سعره انخفاضاً مستمراً، وأمكن تحضير أطباق متنوّعة منه، ما جعله مثالياً للاستهلاك واسع النطاق.
رفع الأستاذ في جامعة "كورنيل" روبرت سي. بايكر أكثر من شأن الدجاج من خلال اختراع عدّة منتجات مصنوعة من الدجاج مثل ناغيت الدجاج والهوت دوغ والسلامي.
طرحت سلسلة مطاعم "ماكدونالدز" وجبة ناغيت الدجاج في ثمانينيات القرن الماضي التي ساعدت عملاق الوجبات السريعة على تحقيق مبيعات قياسية. تلى ذلك انتشار استخدام فرن المايكرويف، ومعه سجلت مبيعات ناغيت الدجاج المثلج مبيعات مرتفعة جداً، لتتحول إلى طعام سهل التحضير يحظى بشعبية واسعة لدى الأطفال، لا رديف له من اللحم البقري.
إرشادات صحية
لعب جورج ماكغوفيرن دوراً رائداً أيضاً، فعضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية ساوث داكوتا، الذي كان أيضاً مرشحاً رئاسياً في 1972، ترأس لجنة كانت الأولى التي تختص بالصحة في الولايات المتحدة. لقد أصدرت اللجنة توجيهات في 1977 عُرفت بـ"تقرير ماكغوفرن" توصي بالتخفيف من تناول اللحم الأحمر، والتركيز أكثر على الدواجن والسمك من أجل تخفيف مخاطر الإصابة بأمراض القلب.
قلب التقرير العادات الغذائية في الولايات المتحدة بعدما تبناه الأطباء، وأسهم في نشوء هوس الحميات الغذائية قليلة الدهون في القطاع الغذائي، ومن الأمثلة على ذلك ظهور الحليب قليل الدسم.
بحلول بداية الثمانينيات، كان استهلاك اللحم البقري قد انخفض 20%، وبعد حوالي 15 سنة على صدور التقرير، تفوق الدجاج على اللحم البقري. على الرغم من تخفيف الإرشادات الحكومية حالياً إلا أنها ما تزال تعتبر أن التقليل من استهلاك اللحم الأحمر واللحوم المصنعة والحبوب المكررة والمأكولات والمشروبات المحلاة يساعد على تحسين الصحة.
قالت رود: "لقد حالف الدجاج الحظ إلى حدّ ما". الباحثة البالغة من العمر 32 عاماً وهي نباتية منذ كانت في المدرسة الابتدائية، درست الدجاج للتوصّل إلى إجابة على السؤال الشائك حول سبب شعبيته. قالت: "حين تكون ممن لا يتناولون الدجاج، سيدهشك كم هو منتشر في كل مكان وفي كل شيء".
كوَّنت رود إثر تأليفها كتابها عن الدجاج انطباعاً بأن معظم نجاحات الداجن تُعزى إلى العرض أكثر من الطلب، إذ يتم إنتاج كميات كبيرة ومتزايدة من الدجاج، وصلت إلى نحو 21 مليار كيلوغرام هذا العام، فيما يسعى المنتجون للاستفادة القصوى من هذه الداجن.
في عام 2022، كانت تصل الدجاجة إلى السوق خلال معدل زمني وسطي يبلغ حوالي سبعة أسابيع وبوزن وسطي يبلغ 3 كيلوغرامات، ما يعني أنه في خلال حوالي 75 سنة تلت مسابقة "دجاج الغد"، ضاعف المنتجون وزن الدجاجة وقلصوا الوقت الذي تستغرقه لتبلغ مرحلة التسويق إلى النصف. قالت رود: "سيحمل المستقبل مزيداً من الأمور المماثلة، لكن بكفاءة أكبر"، وقد أقرت على مضض بأنها معجبة بقطاع الدجاج.
أضافت: "مدهش كيف تمكنوا من إقامة صناعة تنتج البروتينات بقدر لا يصدق من هذه الداجن الصغيرة".