كان أنسيلمو كروز يعدل سترته المضادة للرصاص فيما كان يجلس في مقعد الراكب الأمامي لسيارة شرطة مسرعة قبيل منتصف الليل في 30 نوفمبر 2020. كان ذلك بعد نحو 10 دقائق من ورود أول مكالمة لطلب الدعم بعد اشتعال مقطورة جرار أمام ثكنات الشرطة العسكرية في مدينة كريسيوما البرازيلية، على مسافة نحو 210 كيلومترات إلى الجنوب من وحدة كروز الرئيسية في مدينة فلوريانوبوليس.
أضاءت شاشة "أيفون" كروز حين وصله مقطع فيديو يبين أنَّ شاحنة أخرى تشتعل، وكانت تلك تسد مدخل نفق يصل ما بين المدينتين.
على مدى أكثر من عقد، كان كروز مسؤولاً عن التحقيق في الجرائم والسرقات الكبرى في سانتا كاتارينا، وهي إحدى أكثر ولايات البرازيل أمناً وثراءً، وهي مقصد سياحي لأغنياء أميركا اللاتينية، الذين تجذبهم شواطئها الرملية وشققها الفاخرة.
لكنَّ تضاريس المنطقة جعلت كريسيوما هدفاً سهلاً في للمجرمين، إذ يشاطئها المحيط شرقاً وتحفّها الجبال غرباً، فيسهل الهرب منها عبر طرق عديدة.
إلهاء عن السطو
فيما كان كروز يتجه جنوباً، كان يتبين أن الشاحنات المشتعلة لم تكن سوى إلهاء يهدف لإبطاء وصول الشرطة إلى وسط المدينة القديمة في كريسيوما. كان فرع بنك البرازيل، وهو مبنى اسمنتي مرتفع من طراز معماري يتسم ببروز الكتل الخراسانية في تفاصيله، يتعرض لهجوم. أضاءت شاشة هاتف كروز مجدداً لدى ورود مقاطع فيديو وصور لرجال يرتدون ملابس سوداء ويحملون أسلحة نصف آلية. كان رهائن عراة الصدور قد أجبروا على الجلوس على ممر للمشاة، فيما بدا أن الغرض من ذلك أن يشكلوا درعاً وقائياً حول المبنى.
لم يكن كروز مستجداً على سرقات البنوك، فقد تبادل إطلاق النيران في 2017 مع لصوص حاولوا سرقة فرع آخر من فروع بنك البرازيل في بلدة صغيرة تبعد ساعة بالسيارة إلى الشمال من فلوريانوبوليس، وقد أُصيب بطلقة تحت عنقه فيما قتلت الشرطة ثلاثةً من اللصوص.
يُعرف هذا النوع من السرقات باسم "نوفو كونغاكوس" (Novo cangacos) باللغة البرتغالية، وهي شكل حديث لنوع من السرقات اشتهر قبل قرن، وفيه كان الرُحّل في شمال شرق البرازيل يسرقون من الأغنياء. كلمة "نوفو" تعني جديد، لكن لا توجد ترجمة لكلمة "كونغاكو" لكن أقرب المعاني لها هو قطّاع الطرق، وكان المجرمون الأصليون يُعرفون باسم "كونغاكيروس".
كانت النسخة الحديثة عموماً تتمثل بمجموعة رجال ينسفون جهاز صراف آلي، وعادةً ما تستهدف هذه المجموعات بلدات ومدن صغيرة لا يوجد فيها سوى ثلاثة أو أربعة من عناصر الشرطة، أو ربما أقل أحياناً.
بحلول العقد الثاني من هذه الألفية، كانت سرقات "نوفو كونغاكوس" قد تمددت من شمال شرقي البرازيل لتعمّ أرجاء البلاد. انتشرت السرقات لدرجة اضطرت معها البنوك للانسحاب من المناطق الريفية، ما حرم سكان هذه المناطق من وسيلة لاستلام رواتبهم.
أفلام من هوليوود
حين طورت البنوك إجراءات أمنها عبر نقل ماكينات الصراف الآلي إلى داخل مبانيها وتحويل المعاملات الرئيسية إلى الخدمات البنكية عبر الإنترنت، انخفضت وتيرة سرقات "نوفو كونغاكوس"، فتراجعت بنسبة 20% في أكثر 15 ولاية مكتظة بالسكان بين 2018 و2020، وفقاً للبنك المركزي البرازيلي.
لكن ما حلَّ محل هذه السرقات كان عمليات ازدادت تعقيداً يقوم عليها رجال يبدو أنهم مجرمون محترفون لهم خبرة في المتفجرات وسيارات الهروب وبجمع المعلومات استخباراتياً.
كانت إحدى تلك العمليات تحدث في سانتا كاتارينا، التي يقطنها 240 ألف إنسان حين كان كروز يستقل سيارة الشرطة المتجهة جنوباً. قال لي كروز: "كان لسرقات (نوفو كونغاكو) طابع اندفاعي عادةً... كانت تتطلب بعض التخطيط والتنسيق، لكنه لم يكن معقداً بهذه الدرجة... كنا نعلم أنَّ هذا أمر جديد".
كتبت جانيا بيرلا ديوجينيس دي أكينو، الأستاذة بالجامعة الفيدرالية في سيرا، في ورقة بحثية أنَّ هؤلاء اللصوص يبدون وكأنهم استوحوا الفكرة من أفلام جرائم السرقة والاحتيال مثل "Ocean’s Eleven"، و"Small Time Crooks" للمخرج وودي آلن، و"Inside Man" للمخرج سبايك لي.
بدت كريسيوما وكأنها تحت حصار عسكري فقد كان لدى المجرمين أسلحة نصف آلية وبنادق من عيار 50 ميليمتر، وهي أسلحة قوية بما يكفي لاختراق سيارة مصفحة أو إسقاط طائرة هليكوبتر. إضافة إلى ذلك، كان البنك محاطاً بأبراج الشقق السكنية، ما يعني أن مئات المدنيين سيجدون أنفسهم وسط معركة بالرصاص إن بدأت الشرطة بإطلاق النار. كانت العقول المدبرة لهذه العملية ذات دراية بتكتيكات حرب الشوارع الحديثة.
جرأة صادمة
صنّف خبراء علم الجريمة البرازيليين سرقة كريسيوما على أنها إحدى تجليات ظاهرة جديدة أسموها "الهيمنة على المدن"، وهي عبارة تصف فقدان قوات الأمن السيطرة لفترة مؤقتة.
كانت السرقة التي وقعت في كريسيوما أكبر سرقة مسلحة في تاريخ البرازيل، إذ سرق المجرمون 125 مليون ريال برازيلي (23 مليون دولار). لا يعرف كروز سوى منظمة واحدة فقط في البرازيل بإمكانها أن تنفذ عملية سرقة بهذا التنظيم والتعقيد والنجاح، وهي تسمى "قيادة العاصمة الرئيسية" (Primeiro Comando da Capital)، المعروفة باسم "بي سي سي" (PCC).
لم يكتمل التحقيق في القضية بعد ثلاث سنوات على وقوعها، وما يزال كروز يبحث عن نحو نصف أعضاء المجموعة، التي يُقدِّر أن قوامها كان 30 فرداً. كما لم تُسترد أغلب الأموال، رغم احتمال أن يكون جانب منها قد استُخدم لتمويل نشاط متنامٍ لتهريب المخدرات في دول عدة. قطعت "بي سي سي" شوطاً طويلاً نسبياً إذا علمنا أنها منظمة انطلقت من أحد سجون ساو باولو.
كانت الساعة تقترب من الثانية صباحاً حين وصل كروز إلى كريسيوما، وكان اللصوص قد تركوا المنطقة منذ ساعة وكانت شوارعها هادئة وخالية.
لم يكد كروز يصدق مدى جرأة تلك السرقة. كريسيوما بها عشرات من رجال الشرطة، كما أنَّ القوات الخاصة المدججة بالسلاح، المشابهة لفرق الأسلحة الخاصة والتكتيك الأميركية، كانت متمركزة على بعد ساعات قليلة شمالي فلوريانوبوليس. رغم المسافة، فإنَّ مجرد فكرة تدخُّل هذه الوحدة تجلب القشعريرة. تُعرف هذه الوحدة باسم "بي أو بي إي" (BOPE)، ولهذه الوحدة التكتيكية سمعة في ريو دي جانيرو، التي انطلقت فيها، بأنها تقتل تخطياً للقانون، وكان ممكناً أن تصبح سرقة البنك مهمةً انتحاريةً.
أحاط اللصوص المبنى بمتفجرات محلية الصنع كان يتوجب تفكيكها قبل أن يتمكن محققو كروز من دخول الخزنة للبحث عن أدلة، وبدا أن هدف ذلك هو كسب مزيد من الوقت، إذ قد يتطلب تفكيكها ساعات عديدة.
إضافة إلى مقاطع الفيديو التي التُقطت بهاتف محمول، نقل شخص مجريات الأحداث عبر بث حي على "فيسبوك". كان كروز قد شاهد أغلب تلك المقاطع خلال رحلته، وقد بدأ يكوّن فكرة عن الطريقة التي وقعت بها عملية السرقة بعدما أدرك تسلسل الأحداث من خلال الفيديو وشهادات شهود العيان.
رهائن على الطريق
في حين أضرمت مجموعة النيران في الشاحنتين، تلك القريبة من الثكنات العسكرية والأخرى عند النفق بين فلوريانوبوليس وكريسيوما، في نحو الساعة 11:45 ليلاً، دخلت مجموعة أخرى منطقة وسط مدينة كريسيوما القديمة.
قال لي سيرغيو فيرمي، الذي يعمل بوحدة الطرقات التابعة للمدينة، إنه كان مع فريقه لإعادة طلاء علامات ممرات المشاة وفواصل حارات السيارات التي بهت لونها حين سمع ما بدا وكأنه صوت فرقعة من عادم دراجة نارية. استمر فيرمي والخمسة الآخرون يعملون.
ثم رأى فيرمي سيارة "بي إم دبليو" سوداء رباعية الدفع تدنو منهم. كانت السيارة مصفحة، وخرج منها رجلان يرتديان خوذات عسكرية وملابس سوداء بالكامل. اعتقد فيرمي أنهم من الشرطة الاتحادية، إلى أن طلب أحدهم من عمال الفريق أن يخلعوا قمصانهم.
طلب منهم أن يتبعوه صفاً إلى ممر مشاة على مسافة نحو مربع سكني من البنك، حيث قيل لهم أن يجلسوا على الأرض. بعدما أطلقوا النار على كاميرات المراقبة، قال المسلحون للرهائن: "لن يحلْ بكم أي شيء... سنحصل على المال ونرحل".
جلس فيرمي وكان يدخّن سجائره. قال إنَّ الآخرين في فريقه بدأوا ينتحبون أو يبتهلون للمسيح ومريم العذراء همساً. أدرك فيرمي في نهاية المطاف أنه وفريقه لا يرتدون قمصاناً كي يدرك بقية المسلحين أنهم الرهائن. كما أدرك أيضاً أنه وفريقه بجلوسهم على ممر المشاة سيمنعون وصول أي سيارات شرطة إلى البنك.
مال في الشوارع
بعد 20 دقيقة، اقتربت منهم شاحنة "فورد إف-250"، وهي الأخرى كانت سوداء ومصفحة، ترجل منها مسلحون ملثمون يرتدون ملابس سوداء كما في المرة السابقة. لكن هذه المرة أخرج المسلحون حقيبتي سفر وفتحاهما لتبدو فيهما أمشاط ذخيرة أعطوها للمسلحين الذين كانوا يحرسون فيرمي وفريقه.
بعد نحو ساعة، طلب المسلحون من أربعة من الرهائن أن يسيروا في نسق ليدخلوا إلى خزينة البنك. (ترك المسلحون فيرمي وأحد زملائه في الخارج). بعد ذلك، وفقاً لكروز، حمّل المسلحون أكداس النقود في قافلة من 10 سيارات رباعية الدفع فاخرة من طرازات "بي إم دبليو" و"مرسيدس بنز" و"أودي"، كلها سوداء اللون ومصفحة.
أخذ المسلحون أكبر قدر ممكن من المال ورموا بقيته في الشوارع. قال كروز إنهم كانوا يعلمون إنه بمجرد أن يرحلوا، سيغرق السكان الشوارع لالتقاط ما أمكنهم من النقود، فيبطئون بذلك تقدم أي شخص يحاول اللحاق بالمسلحين. وقد استعادت الشرطة نحو 300 ألف ريال من الشوارع المحيطة بالبنك.
بعد ساعة، حين بدأ خبراء القنابل بإبطال مفعول المتفجرات، كان على كروز اكتشاف المكان الذي اتجهت إليه قافلة السيارات ومن كانت تحمل.
تاريخ المنظمة
منذ تأسيسها قبل 30 عاماً، أصبحت "بي سي سي" إحدى أكبر المنظمات القوية في أميركا اللاتينية. تهيمن المنظمة على تجارة المخدرات في أكبر مدينة في أميركا الجنوبية، وهي ساو باولو، وتوسَّع نشاطها إلى دول أخرى.
قال لينكولن غاكيا، وهو مدعٍ عام في ساو باولو استمع لآلاف الساعات من المكالمات الهاتفية التي اعترضتها السلطات لقيادات المنظمة، إنَّ "بي سي سي" تتحكم في الميناء الذي يُهرّب عبره نحو 80% من الكوكايين، الذي يُنقل من البرازيل إلى أوروبا.
أشارت تقديرات إلى أن دخل العصابة السنوي من تهريب المخدرات بلغ 4.8 مليار دولار، وفق تقرير صدر في ديسمبر 2020 كان مؤلفه الرئيسي ماثيو تايلور، وهو أستاذ للدراسات الدولية ومساعد العميد المؤقت للبحوث في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية في واشنطن.
اليوم، ينتشر أعضاء "بي سي سي" في مناطق عديدة، وتضم المنظمة نحو 40 ألف عضو، وفقاً لخبراء يجرون أبحاثاً عن المنظمة. يُقدِّر كروز وآخرون أنَّ ما بين 100 و300 شخص كانوا جزءاً من عمليات سرقة مثل تلك التي وقعت في كريسيوما، رغم أنَّ بعضهم فقط ينتمي للعصابة. قال تايلور: "تعمل (بي سي سي) مثل جمعية تعاونية إجرامية".
أحد الشعارات التي ترفعها المنظمة هو "الجريمة تُعزز الجريمة"، لذا حتى لو لم تكن "بي سي سي" وراء السرقة، فهي قد تكون مسؤولة عن توفير الأسلحة أو خبراء صنع القنابل أو سائقي سيارات الهروب لمجرمين لا ينتمون لعصابة. قال غاكيا: "إذا كانت المنظمة تؤجِّر الأسلحة أو تموِّل السرقة، فهي تحصل على حصة".
عندما بدأت "بي سي سي" في التسعينيات، كانت الشرطة تعرف أسماء قادتها. تأسست المنظمة في عصر اتسم بالظلم وبإيداع أعداد كبيرة من الناس في السجون في البرازيل. في بعض أكبر سجون ساو باولو، كانت كل زنزانة تضم 15 رجلاً، ولم تكن هناك مراحيض مناسبة، وقد قضى بعض الرجال طعناً في تقاتل على الخبز.
كانت أيام الإثنين تُعرف باسم "إثنين بلا قانون"، وفيها كان بعض السجناء يقتلون زملاء لهم لأنهم لم يوفوا بديون، على مرأى السجناء الآخرين الذين كانوا يهتفون "ستموت". قال غابرييل فلتران، مؤلف كتاب "إخوان" (Brothers)، الذي يحكي تاريخ "بي سي سي": "أنشئت المنظمة كرد مباشر على إهمال الدولة".
ميثاق جديد
كان سجن كارانديرو، وهو مجمع ممتد على مساحة توازي مساحة سبعة مربعات سكنية، أسوأ السجون على الإطلاق. في أكتوبر 1992، قتلت الشرطة البرازيلية 111 سجيناً رداً على شغب داخل السجن. في أعقاب ذلك، وافق المساجين على ألا يتقاتلوا بعد يومهم ذاك.
وضع السجناء ميثاقاً لكيان جديد، ونصت المادة 13 منه على وجوب أن يكون السجناء "متحدين ومنظمين" لمكافحة "قمع الدولة". كان لهذه المُثُل عليهم أثر يشابه سطوة الدين. كان هؤلاء السجناء متحدرين من أحياء تعاملت فيها الشرطة بتعسف مع المشتبهين، بل أنها عاملت أشخاصاً بتلك الطريقة لمجرد أن مظهرهم بدا لها كالمجرمين.
قال ستيفن دادلي، الذي شارك في كتابة تقرير مع ماثيو تايلور وهو مدير منظمة "إنسايت كرايم" (InSight Crime)، التي تدرس الأمن في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي: "كانت إيديولوجيتهم مدفوعة جداً بفكرة أنَّ هناك عالمين. هناك عالم البنوك والمهنيين والمدارس الجيدة والمستشفيات الممتازة، وهناك العالم الذي أتوا منه".
أحدثت "بي سي سي"، التي ترأسها رجال كانت أسماؤهم المستعارة "بيغ جيلي" و"ليتل سيزر" و"سومبرا" (أي الظل بالبرتغالية)، بعض النظام والانضباط والأمن الأساسي. لكن حين بدأت المنظمة تبرز، نقل مسؤولو السجن قادتها إلى خارج كارانديرو لسحقها. لكنَّ الخطوة جاءت بنتائج عكسية، فانتشرت العصابة عبر كل سجون ولاية ساو باولو.
في مطلع الألفية، برز رجل اسمه ماركو وليانز إيرباس كاماتشو، يُعرف أيضاً باسم ماركولا، رئيساً لـ"بي سي سي" بعد صراع داخلي على السلطة. بعدما فقد والديه في التاسعة من عمره، جاب ماركولا شوارع ساو باولو نشّالاً، واشتهر بسرقة البنوك إلى جانب حبه للسيارات السريعة والملابس الفخمة، وهو ما أكسبه لقباً آخر: فتى الملذات.
نمت منظمة "بي سي سي" بقيادة ماركولا، ولم تستخدم حصيلة تجارة المخدرات داخل السجون لإثراء قادتها، فقد كانت إيراداتها من خارج السجون تحقق ذلك بسهولة وفقاً لغاكيا، بل كانت تُسخّر تلك الحصيلة لتمويل تنقل أسر المساجين بالحافلات لزيارة أبنائها المحبوسين ولدفع أتعاب المحاميين الموكلين بالدفاع عنهم.
نظام وانضباط
بعد إطلاق سراحهم، عاد الرجال إلى حاراتهم في ساو باولو، وجلبوا معهم إلى الأحياء الفقيرة النظام والانضباط اللذان حققتهما "بي سي سي" في السجون، ونظراً لأنَّ الأمن في سجون ساو باولو كان مليئاً بالثغرات، كان تهريب الهواتف المحمولة إلى داخل السجون أمراً سهلاً، خاصةً خلال الزيارات الزوجية.
كانت قيادات "بي سي سي" تتواصل مع أعضائها في السجون الأخرى ومن هم خارج السجون، الذين كانوا يتنازعون على مناطق النفوذ مع عصابات مثل "كوماندو فيرمالو" (Comando Vermelho)، أي القيادة الحمراء، التي كانت تسيطر على تجارة المخدرات في ريو دي جانيرو وكانت نشأتها أيضاً من السجن.
كسبت "بي سي سي" المعركة في النهاية. قال غاكيا: "خلال أعوام قليلة، بسطت المنظمة سيطرتها، إذ باتت تتحكم في كل منافذ البيع، وانتهى التقاتل على مناطق النفوذ". كان الهدف فيما يبدو هو أن تتطور "بي سي سي" لتصبح مافيا أشبه بمافيا "ندرانغيتا" في إيطاليا مثلاً. كانت المنظمة قد بدأت تتحول إلى دولة موازية.
في ربيع 2006، بلغ أسماع ماركولا أنَّ 765 من أعضاء "بي سي سي" كانوا سيُنقلون إلى سجن شديد الحراسة داخل ولاية ساو باولو. كان ذلك سيُربك زيارات عيد الأم، وهو يوم ذو أهمية خاصة لدى السجناء. في ليلة 12 مايو، بعد نقل بعض السجناء، تعرضت ساو باولو لهجوم منسق. أٌضرِمت النيران في الحافلات والبنوك والمباني العامة، وكلها رموز لقوة الدولة. كما تعرض رجال الشرطة لكمائن في بيوتهم أو أقسامهم.
جاء المسلحون، الذين كان أغلبهم من الشباب الملثمين، من الأحياء الفقيرة سيراً على الأقدام وعلى الدراجات النارية، يحملون بنادق نصف آلية أو قنابل مولوتوف. خلت شوارع المدينة من الحركة في وجه هذا الهجوم لسبعة أيام، وأغلقت المطاعم والمتاجر والمدارس.
عقدت سلطات إنفاذ القانون هدنة مع ماركولا في نهاية المطاف. وعدت السلطات بتوفير مزيد من التلفزيونات في السجون كي يتابع السجناء مباريات كأس العالم، مقابل وقف إطلاق النار.
مفاجأة حقل الذرة
دخل كروز قبو البنك صبيحة اليوم الذي تلا وقوع السرقة. تطلب إبطال مفعول المتفجرات من خبراء القنابل ساعات، كما توقع كروز.
في الوقت نفسه تقريباً الذي كان كروز يفحص فيه الخزنة، وصل فريق آخر من الشرطة إلى مزرعة في بلدة نوفا فينيسيا، على مسافة 16 كيلومتراً في الشمال الغربي. كان أحد الجيران قد اتصل بهم ليُعلمهم بما رأى: هناك 10 سيارات سوداء مصفحة تقبع في أحد حقول الذرة.
أثناء سيرهم بين سيقان الذرة، لاحظ ضباط الشرطة آثار إطارات شاحنة. خلال تحقيق سابق تبين أن المجرمون اساءوا تقدير وزن النقود التي سرقوها، فتعطلت سياراتهم على مسافة كيلومترات من البنك.
كان ذلك غالباً سبب استخدام المجرمين 10 سيارات لتوزيع الغنيمة فيها، ثم التقى المجرمون بالشاحنة (خمنت الشرطة أنها مقطورة جرار، نظراً لوزن النقود والأسلحة إلى جانب عدد الرجال) في حقل الذرة ونقلوا إليها الأموال ثم رحلوا.
في تلك المرحلة، كان عناصر الشرطة من جميع أنحاء سانتا كاتارينا وولاية ريو غراندي دو سول قد انضموا للمطاردة. حدثت انفراجة كبيرة بعد يومين من اكتشاف مقطورة الجرار بفضل سكان تريس كاتشويراس، التي تقع على بُعد ساعة ونصف جنوبي كريسيوما في ولاية ريو غراندي دو سول. أخبر السكان الشرطة أنَّ نحو 30 شخصاً تجمعوا في الليلة التي تلت السرقة في منزل صغير أزرق اللون في حفل شواء، حيث كانوا يشوون اللحم ويدخنون الماريغوانا ويقهقهون حتى الثالثة صباحاً.
وفقاً لتقرير صحفي، أخبر صاحب المنزل الشرطة أنَّ الرجال الذين استأجروا المنزل جاءوا قبل شهرين أو ثلاثة أشهر وعرضوا على المستأجر 15 ألف ريال ليترك المنزل خلال يومين. وافق المستأجر على ذلك العرض. تفحص الرجال الحي بعد ذلك وسألوا ما إذا كانت المنطقة آمنة وما إذا كان هناك وجود ملحوظ للشرطة. قال الرجال للجيران إنهم بائعو فاكهة وعرضوا الأناناس إثباتاً لذلك.
بعد مشاهدة مقطع فيديو من كاميرا مراقبة أمنية لدى أحد الجيران، رأت عناصر الشرطة مقطورة جرار تخرج من المنزل وتعود إليه عدة مرات قبل وبعد السرقة. بدت الشاحنة أخف وزناً كل ما كانت تغادر، ما دفع الشرطة للاستنتاج بأنَّ هذا المنزل كان يُستخدم لإخفاء الأموال والأسلحة.
انفراجة أخرى
جاءت انفراجة كبيرة أخرى في اليوم التالي. لاحظت الشرطة في أحد مقاطع الفيديو على إحدى كاميرات المراقبة أنَّ سيارة "رينج روفر إيفوك" تحمل لوحة أرقام من ولاية ساو باولو قامت بعدة رحلات مع سيارات أخرى استخدمت في السرقة.
تنقلت السيارات بين ساو باولو وكريسيوما، وهي رحلة تستغرق 10 ساعات ذهاباً ومثلها إياباً. كانت دوريات الطرق السريعة البرازيلية لديها أرقام لوحة السيارة، وحين حدد ضباط الشرطة مكان السيارة التي كانت تسير جنوباً على مسافة نحو 320 كيلومتراً خارج كريسيوما، طلبوا من سائقها التوقف.
كانت افادة إمرأتين كانتا تستقلان السيارة متضاربة بشأن وجهتهما. حين فتش عناصر الشرطة السيارة، وجدوا أربعة آلاف ريال وبطاقة هوية لرجل باسم مارسيو غيرالدو ألفيس فيريرا. قالت المرأة التي كانت تقود السيارة إنه صديقها ولم تبيّن مكانه، لكنَّ نظام "لاند روفر" لتحديد الموقع في السيارة كشف عنوانه في بلدة غرامادو، وهي منتجع ساحر في وسط الجبال.
في فجر اليوم التالي، داهمت فرق من وحدة "بي أو بي إي" من سانتا كاتارينا وريو غراندي دو سول المنزل في تريس كاتشويراس والعنوان الذي كشف عنه نظام تحديد الموقع في غرامادو. قال كروز إنَّ الشرطة قبضت على 14 مشتبهاً به في السرقة، من بينهم فيريرا، وكلهم أعضاء في عصابة "بي سي سي".
أصرّ جميع المشتبه بهم على نفي التهم الموجهة إليهم بالسرقة والتآمر الجنائي فيما كانوا ينتظرون محاكمتهم.
إحباط مخطط هروب
قال غاكيا إنَّ فيريرا، الذي يُعرف باسم بودا، كان جزءاً من عملية معقدة اكتُشفت في 2014 لتهريب ماركولا، زعيم "بي سي سي"، من السجن. كانت الفكرة تنطوي على الهبوط بطائرة هليكوبتر بها سلة مصفحة في ساحة السجن ليستقلها ماركولا، ثم يتبادل مسلحون من "بي سي سي" إطلاق النار مع الحراس فيما تحلق الطائرة بعيداً.
اكتشف مسؤولو السجن الخطة، جزئياً بفضل مكالمات اعترضها غاكيا، قبضت الشرطة على بودا. قال شرطي إتحادي تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته لأنه ليس مخولاً للحديث علانية، إنَّ السلطات في 2019 أطلقت سراح بودا، الذي تعلَّم بعدها كيفية صنع المتفجرات.
رفض محامو فيريرا التعليق، كما رفض محامو مشتبه بهم آخرين التعليق أو لم يردوا على طلبات بالتعليق.
في البرازيل، نادراً ما يتحدث أعضاء "بي سي سي" إلى الصحافة. كما أنه ليس شائعاً أن يطلب الصحفيون من محامي "بي سي سي" التعليق. بدا أحد محامي الدفاع الذين تواصلت معهم قلقاً لأن لدي رقم هاتفه، وقال إنه يجب أن ألتقيه شخصياً للحديث معه، لكن حين أخبرته أنَّه بإمكاني زيارته في فلوريانوبوليس، قال إنه في بوينس آيرس ولن يعود قبل أسابيع عدة.
تغير الأولويات
لا يتضح حجم النفوذ الذي ما يزال ماركولا يحظى به في "بي سي سي". لم نستطع الوصول لمحاميه للحصول على تعليق. قال غاكيا إنه قلق من احتمال أن تكون القيادة قد انتقلت إلى رجال خارج السجن، وهو ما سيزيد من صعوبة أداء مهام الشرطة فيما يخص المنظمة. تأتي أغلب المعلومات عن العصابة من مكالمات تعترضها السلطات في السجن.
بغض النظر، لا يبدو أنَّ الهدف الأولي لـ"بي سي سي"، وهو الدفاع عن حقوق السجناء، على رأس قائمة الأولويات. قال غاكيا إنَّ المنظمة أضحت اليوم تكتلاً متعدد الجنسيات يستغل محطات الوقود وشركات الحافلات، وهي مصادر ثابتة للدخل المشروع، لغسل الأموال المتحصل عليها من بيع الكوكايين.
في 2020، قدَّر رئيس مجموعة صناعة محطات الغاز "فيكومبستيفيس" (Fecombustiveis) أنَّ "بي سي سي" تتحكم في نحو 3%، أي 270 محطة، من محطات الوقود البالغ عددها قرابة تسعة آلاف في ساو باولو. تبيع العصابة الماريغوانا وما يقارب نصف السجائر المهربة التي تُسوق في ساو باولو وريو دي جانيرو.
توسعت "بي سي سي" شمالاً مؤخراً إلى طرق التهريب في حوض نهر الأمازون. تشن العصابة معركة دامية مع مجموعة "فاميليا دو نورتي" وتعني أسرة الشمال لفرض نفوذها. كانت "فاميليا دو نورتي"، التي تتحكم بأغلب سجون تلك المنطقة - والمفارقة هنا أنها تمكنت من ذلك عبر محاكاة الهيكل التنظيمي لـ"بي سي سي" - هي أول من باشر تهريب الكوكايين من بيرو وكولومبيا عبر نهر سوليموس، وهو أحد روافد الأمازون التي تصب في المحيط الأطلسي.
قال غاكيا إنَّ "بي سي سي" ترغب بالسيطرة على الممر المائي. إذا تحقق ذلك، ستسيطر المجموعة على كل قنوات توزيع الكوكايين الرئيسية في البرازيل. قال تايلور، الأستاذ بالجامعة الأميركية، إنَّ القتال "تسبب بمستوى مروع من العنف وعدم الاستقرار في المنطقة".
أعقد القضايا
حين زرت كروز في مايو بمكتبه بساو خوسيه، المدينة التي يربطها جسر مع فلوريانوبوليس، رأيت كدسة ملفات تحقيق طولها أكثر من نصف متر وكانت منسقة بعناية.
وصل طول كدسة ملفات قضية كريسيوما، التي لم تكن بادية في المكان، إلى ثلاثة أضعاف ذلك. قال كروز إنها أعقد قضية تناولها في حياته. قدّم محامو المتهمين في "بي سي سي" العديد من الطلبات التي تستبق المحاكمة.
أخبرني كروز أنَّ التخطيط للسرقة تطلب نحو عام. في السنوات الثلاث التي تلت السرقة، حددت الشرطة هوية منازل وأكواخ استأجرتها المجموعة على امتداد الساحل وأطراف المدينة، حيث خبّأوا سيارات وأسلحة.
قال كروز إنَّ الرجال الذين استأجروا المنازل تلقوا أجوراً لهذا الغرض تحديداً، ولم يكونوا على علم بغرض استئجارها. ينطبق ذلك على من قادوا سيارات الهروب ومن تولّوا طلاء السيارات باللون الأسود.
قال كروز إنَّ اثنين أو ثلاثة فقط من بين المشتبه بهم البالغ عددهم 30 يُرجَّح أنهم كانوا على علم بأنهم على وشك سرقة بنك قبل ليلة السرقة. اختار مدبرو العملية ذلك الفرع على الأغلب لأنه مركز للبنوك الأخرى في المنطقة.
قال كليسيو سالفارو، عمدة كريسيوما، إنَّ البنك تلقى إيداعاً ضخماً من النقد في نفس يوم السرقة، كان مقرراً توزيعه على الفروع الأصغر. لم يعلق بنك البرازيل على السرقة سوى ببيان تلاها فوراً، قال فيه إنه لم تحدث أي إصابات بين الموظفين وإنه لن يفصح عن خسائره.
ما يزال نحو 15 مشتبهاً طلقاء، وقال كروز إنَّ اثنين ممن اعتُقلوا ربما يكونان قد شاركا في سرقات لاحقة، أبرزها هي سرقة بنك في أراساتوبا خلال أغسطس 2021 في ولاية ساو باولو. لقد كانت أوجه الشبه بين هذه السرقة وتلك التي وقعت في كريسيوما واضحة، رغم أن الغنيمة، التي بلغت 10 ملايين ريال، أصغر.
قال كروز: "ما حدث في كريسيوما غير مسبوق. لقد تعلمنا الكثير، وكانت هذه قضية معقدة فيها عشرات المشتبهين ومستوى ضخم من التخطيط... آمل أن يساعدنا ذلك على منع حدوث السرقة التالية".