سرعان ما أصبح بيع الملابس المستعملة الخيار الأفضل لماركات الأزياء الساعية لخفض بصمتها الكربونية والبلاستيكية والمائية، أو على الأقل إقناع المتسوقين المهتمين بشؤون البيئة بأنَّها تحاول بذل شيءٍ من جهد.
لكن المشكلة هي أن الماركات الذكية مثل "باتاغونيا" (Patagonia) و"شي إن" (Shein) لم تكتشف حتى الآن وسيلة لجعل أرباح بيع الملابس المستعملة تمثل أكثر من مجرد هامش بسيط.
أسست أكثر من 100 شركة تبيع الملابس بالتجزئة منصات لبيع الملابس المستعملة خلال العامين الماضيين، منها 88 برنامجاً جديداً خلال العام الماضي فقط، وفقاً لبيانات من شركة "ثريد أب" (ThredUp)، التي تدير نشاطاً لبيع الملابس المستعملة عبر الإنترنت وساعدت العديد من العلامات التجارية على تأسيس برامجها لبيع الملابس المستعملة.
هل نصدق زعم عملاقة الموضة السريعة "شي إن" أنها تحسن أعمالها؟
يشمل ذلك بعض أكبر العلامات التجارية، بما فيها "إتش آند إم" (H&M) وشركة الموضة السريعة "شي إن" (Shein). في 2022، بلغ حجم سوق الملابس والأحذية وحقائب اليد المستعملة في الولايات المتحدة 28.1 مليار دولار، مع احتمالات النمو في خانة العشرات على أساس سنوي في 2023 و2024، وفقاً لتوقعات نشرتها شركة "كورسايت ريسيرش" (Coresight Research).
كانت الجهود جزئياً مدفوعة برغبة العلامات التجارية بأن تتحكم ببيع سلعها المستعملة وتحقيق أرباح منها، وذلك بعد ظهور مواقع لبيع السلع المستعملة من شخص لآخر بشكل مباشر، مثل "بوشمارك" (Poshmark) و"ذا ريل ريل" (The RealReal). تستخدم العلامات التجارية أيضاً منصات بيع السلع المستعملة بغرض بيع المخزون التالف والمرتجعات المعيوبة.
دور الاستدامة
تلعب الاستدامة أيضاً دوراً محورياً في ذلك. تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة أنَّ قطاع الموضة يمثل 2% إلى 8% من انبعاثات الكربون على مستوى العالم. انتقد المدافعون عن البيئة العديد من شركات تصنيع الملابس لإنتاج ملابس سرعان ما ينتهي بها الحال في مكبات النفايات.
تتيح نماذج الأعمال لبيع السلع المستعملة لمتاجر التجزئة أن تستمر في تحقيق مكاسب دون الحاجة لتصنيع الكثير من الملابس الجديدة، ما يساعدها على تفادي التسبب بنسبة مرتفعة من انبعاثات الكربون المرتبطة باستهلاك الطاقة والمواد والنقل. أو هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يسير بها الأمر على الأقل.
"رالف لورين" للملابس تتعهد باستثمار 5 ملايين دولار في القطن المُستدام
في الواقع، لا تولِّد برامج بيع الملابس المستعملة إيرادات ضخمة، أو تعوض ما يكفي من إنتاج الملابس الجديدة لإحداث فارق ملموس. قالت "تروف" (Trove) و"أركايف" (Archive) وغيرهما من شركات برامج بيع الملابس المستعملة إنَّ عملاءها من أصحاب العلامات التجارية يهدفون للوصول بإيراداتهم من بيع الملابس المستعملة إلى 10% أو أكثر من إجمالي الإيرادات خلال الأعوام المقبلة.
لكنَّ الملابس المستعملة تمثل 5% فقط من إجمالي الإيرادات للعلامات التجارية التي استثمرت أطول فترة من الوقت وأكبر قدر من التسويق في برامجها – ولا تحقق أي عائد تقريباً للبرامج التي تُسوِّق لنفسها بشكل محدود، وفقاً لشركات بما فيها "أركايف" و"ريكيوريت" (Recurate) و"تروف" التي تقدم خدمات بيع الملابس المستعملة.
مخلفات الموضة السريعة تخنق البلدان النامية بجبال من النفايات
حققت "باتاغونيا"، التي تملك برنامجاً له سمعة طيبة لبيع الملابس المستعملة منذ فترة طويلة وهو "وورن وير" (Worn Wear)، أقل من 1% من إجمالي إيراداتها من البرنامج في 2021، وهو آخر عام تتوفر بياناته.
قالت شركة "إيلين فيشر" (Eileen Fisher) لتصنيع ملابس النساء، التي بدأت تبيع الملابس المستعملة في 2009، إنها جمعت مليوني منتج عبر نظام استعادة الملابس بعد انتهاء استعمالها، ما يمثل 5.4% فقط من إجمالي الملابس الجديدة التي أنتجتها الشركة منذ بدأت العمل قبل 39 عاماً.
أعلنت علامات تجارية قليلة نجاح هذه البرامج. من بين 16 شركة للملابس والأحذية في شمال أميركا لها برامج نشطة لبيع الملابس المستعملة، وتواصلت معها "بلومبرغ" – من بينها "أبيركرومبي آند فيتش" (Abercrombie & Fitch) و"باتاغونيا" و"إربان أوتفيترز" (Urban Outfitters) و"بي في إتش" (PVH) مالكة "تومي هيلفيغر" (Tommy Hilfiger)، رفضت خمس شركات توفير بيانات أو تفاصيل عن أداء برامجها لبيع الملابس المستعملة. كما لم تجب خمس أخرى على طلبات التعليق.
انتقادات للموضة السريعة
لم يكن التربح من هذا هدف "شي إن"، التي كانت ملابسها زهيدة الثمن، محل انتقادات لتشجيعها على نمو الموضة سريعة الاستهلاك. كتبت كايترين واتسون، مديرة قسم الاستدامة في "شي إن"، في رسالة بالبريد الإلكتروني: "نحن لم نطلق حملة لبيع الملابس المستعملة بنية تحقيق أرباح، بل بغرض نشر الوعي وسهولة الوصول لعملائنا للمشاركة في الاقتصاد الدائري".
قالت واتسون إنَّ الشركة حققت هدفها المبدئي بمشاركة أكثر من 100 ألف مستخدم في برنامج بيع الملابس المستعملة في 2022، رغم أنها لم توضح طبيعة المشاركة.
قال أندي روبن، رئيس مجلس الإدارة التنفيذي بشركة "تروف"، التي تدير برامج بيع الملابس المستعملة لدى "ليفايز" (Levi’s) و"لولوليمون" (Lululemon) و"باتاغونيا" وغيرها: "حالياً، ترى العلامات التجارية ومجالس الإدارات والمسؤولون التنفيذيون أنَّ السبيل الوحيد لتنمية نشاطها في قطاع الملابس هو بيع مزيد منها، وهو ما يحدث من خلال تصنيع مزيد منها، وينتج عن ذلك نسب أعلى من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون... لا بد لبيع الملابس المستعملة أن يساهم في بناء نشاطك، وإلّا لن يتوسع نشاطك ويحقق أهداف الاستدامة المرجوة".
الملابس المستعملة مشكلة بيئية جديدة تواجهها الصين
أوضح روبن أنَّ عملاء "تروف" يحصلون على 1% إلى 5% من إجمالي إيراداتهم من بيع الملابس المستعملة. قال: "نحن الآن ما نزال في طور البناء من أجل مستقبل لم يأت بعد".
الوصول ببيع الملابس المستعملة إلى نقطة يمكن فيها تحقيق مبيعات جيدة وإبطاء إنتاج سلع جديدة سيتطلب مزيداً من الوعي بين المستهلكين ومشاركة أكبر من قيادات الشركات وتحسين البنية التحتية للخدمات اللوجستية.
قال آدم سيغل، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "ريكيورايت" إنه رغم عِلم أغلب المستهلكين أنَّ بإمكانهم شراء ملابس مستعملة من مواقع أو تطبيقات مثل "بوشمارك"، تتيح البيع المباشر بين الأفراد "لا تفكر سوى قلة قليلة من الشراة بأن تتجه مباشرة لموقع (أحد العلامات التجارية) لشراء ملابس مستعملة، لأنَّ هذا الأمر لم يكن موجوداً".
مزيد من الخطوات
تُدْرِجُ الشركات الملابسَ المستعملة أيضاً بشكل منفصل عن تلك الجديدة على مواقع علاماتها التجارية. قالت غايل تايت، رئيسة "تروف" التنفيذية، إنَّ الوصول ببيع الملابس المستعملة إلى المرحلة التالية من النمو يتطلب من متاجر البيع بالتجزئة أن ترحب بفكرة إدراج الملابس الجديدة والمستعملة معاً "لإزالة العقبات" أمام شراء الملابس المستعملة.
يمثل الحصول على موافقة المسؤولين التنفيذيين بالشركات، ممن ليس لديهم حافز كافٍ من الناحيتين المالية والتنظيمية، عقبة أخرى. قالت سينثيا باور، مؤسسة شركة "مولتي فولتي" (Molte Volte) الاستشارية لبيع المنتجات المستعملة، إنَّ بعضهم يقلق من أن تتمدد مبيعات المنتجات المستعملة على حساب مبيعات الموضة الجديدة، وينتظر آخرون من نموذج بيع الملابس المستعملة أن يعمل دون تدخل أو استثمار إضافي في التسويق والاستراتيجية.
صناعة الملابس الأميركية لا تجد مناصاً عن الصين
شبكات الخدمات اللوجستية العكسية، التي تتيح للعلامات التجارية الحصول على الملابس المستعملة من الزبائن، مكلفة وما تزال في المهد إلى حد كبير. تأسست شركات تقديم خدمات بيع الملابس المستعملة بشكل يتيح للعلامات التجارية تعهيد بعض هذه الأشغال لجهات أخرى، لكن عملياتها مكلفة هي الأخرى.
كي يصبح بيع الملابس المستعملة شقاً هاماً من مبيعات شركات الأزياء، سيتحتم عليها بيع كميات أكبر بكثير من المنتجات المستعملة. على سبيل المثال، تنتج "إتش آند إم" نحو ثلاث مليارات قطعة سنوياً، لكن منصتها لبيع الملابس المستعملة تضم أقل من 30 ألف قطعة.
يقول داعمو التدوير إنه قد تكون هناك حاجة لمزيد من التمويل من مستثمرين خارجيين ومصادر حكومية لتأسيس البنية التحتية.
قالت رايتشل كيب، المدير التنفيذي لـ"أميريكان سركيولار تكستايلز غروب" (American Circular Textiles Group): "بعض رأس المال المتاح لمنصات بيع الملابس المستعملة غير صبور، وهذا سيء جداً، لأنني أعتقد أنه هذا يغدو كما النبوءة التي تحمل في طياتها عوامل تحقيقها، ويزيد من صعوبة توسيع نطاق هذه الأنشطة".
عقبات أخرى
شهدت شركات بيع الملابس المستعملة "ذا ريل ريل" و"ثريد أب" هبوط أسعار سهميهما بأكثر من 80% منذ الطرح العام الأوّلي لكل منهما. قالت آنا أندريفا، المحللة في "نيدام آند كو" (Needham & Co.)، إن ذلك يرجع جزئياً إلى أنَّ أحد عروض القيمة الرئيسية للملابس المستعملة هو أنَّ سعرها أقل من الجديدة، لكنَّ متاجر التجزئة التقليدية قدمت تخفيضات كبيرة على مدى العام الماضي، فصعّب ذلك على الملابس المستعملة منافستها.
كانت هناك إشارات ضئيلة على نجاح علامات تجارية استغلت منتجات مستعملة كان مصيرها مكبات النفايات. تراجعت تكاليف التقنية والخدمات اللوجستية لمُقدِّمي خدمات الواجهة الخلفية، في ضوء تعاقد تلك الشركات مع مزيد من العلامات التجارية في الموضة.
لإصلاح الكوكب.. علينا العودة إلى ثقافة إصلاح المنتجات
قال جوي زويلينغر، الرئيس التنفيذي لشركة "ألبيردز" (Allbirds)، صانعة الأحذية والملابس المستدامة، في رسالة بالبريد الإلكتروني إنَّ برنامج "ريرَن" (ReRun) الخاص بها ولّد ضعفي التوقعات الأصلية لإجمالي المبيعات منذ بدأ في فبراير 2022. باعت "أثليتا" (Athleta)، التي تملكها شركة "غاب" (Gap)، 1.5 مليون قطعة منذ 2020 عبر شراكة "ثريد أب"، وشهدت شركة "أركتريكس" (Arc’teryx) للملابس الخارجية زيادة مبيعاتها 50% خلال العام الماضي عبر برنامج "ريغير" (ReGear) لبيع الملابس المستعملة.
جرّب آخرون مشروعات قصيرة الأجل لبيع الملابس المستعملة دون أن تصبح جزءاً من مشروعاتهم. طرحت "ماسيز" (Macy’s) برنامج لشراء الملابس المستعملة مباشرة، بالشراكة مع "ثريد أب" في 2019 في 40 من متاجرها.
الترويج للملابس المستعملة
يقول المدافعون عن الاستدامة إنَّ أحد السبل السريعة لتحديد ما إذا كانت شركة ما تحفز شراء قطع جديدة هي إلقاء نظرة على ترويجها لنشاطها في بيع المنتجات المستعملة. على سبيل المثال، باعت "غاب" بطاقات هدايا بقيمة 11 مليون دولار في 2022 من خلال شراكة مع "ثريد أب" في علاماتها التجارية، وفقاً لتقرير الامتثال لمعايير البيئة والمجتمع والحوكمة الخاص بالشركة لعام 2022.
قال جولز لينون، رئيس وحدة الموضة في "إيلين ماك آرثر فاونديشن" (Ellen MacArthur Foundation): "يدفع ذلك نمو المبيعات الخطية التقليدية بدلاً من تحفيز النمو في نموذج العمل الدائري لهذه الشركات".
لماذا لا يزال شراء الملابس عبر الإنترنت أمراً صعباً؟
يلقى بيع الملابس المستعملة نجاحاً أكبر بين العلامات التجارية الراقية حالياً. قال روبن، الذي يعمل في "تروف"، إنه يصعب لعلامة تجارية مثل "أولد نايفي" (Old Navy) تحقيق ربح من إعادة بيع زوج من السراويل القصيرة بيعت في الأصل مقابل ثمانية دولارات فقط، مقارنة بإعادة بيع "أركتيريكس" لمعطف كان سعره في الأصل 300 دولار مقابل 220 دولاراً.
كما يتيح بيع الملابس المستعملة للناس الفرصة للحصول على قطع فاخرة قد لا يكونوا قادرين على شراء الجديدة منها.
لكنَّ جيمس راينهارت، الرئيس التنفيذي لـ"ثريد أب"، أوضح أنَّ هذه الحسبة لا بد أن تتغير كي ينجح بيع الملابس المستعملة على المدى الطويل.
قال: "مساعدة الأغنياء على شراء معاطف "باركا" وحقائب يد وإعادة بيعها ليس الحل. إن استطعنا إظهار أنَّ العلامات التجارية ذات السعر الأقل يمكن أن تصبح دائرية وأكثر استدامة، أعتقد أنَّ هذه ستُموّن حركة تستحق الاجتهاد لتحقيقها".