رصد جهاز رقمي لكشف الزلازل موضوع داخل بئر ضحلة على جزيرة بورنهولم الدانماركية إشارة غريبة بُعيد منتصف ليل 26 سبتمبر. سجّل الجهاز، الذي يشبه خوذةً رياضيةً شكلاً وحجماً، موجةً عبرت طبقة الصخور تحت الجزيرة.
ولّدت موجة الضغط سيلاً من نقاط البيانات مرّرته الكابلات سريعاً إلى مرآب عائلة تسكن في الجوار، حيث فصل كمبيوتر هناك الإشارات إلى أجزاء تمثّل كل منها بضع ثوان، ثم نقلها عبر كابلات الإنترنت تحت بحر البلطيق إلى كوبنهاغن.
لم يستغرق انتقال البيانات أكثر من ثانية، إلا أن المعلومات بقيت على خوادم هيئة المسح الجيولوجي للدانمارك وغرينلاند لأكثر من 24 ساعة دون أن يتحقق منها أحد. أخيراً، جلس نيكولاي ريندس، وهو عالم الجيولوجيا طويل القامة حليق الرأس، إلى طاولة مكتبه يرشف القهوة وشغّل البرنامج ليطّلع على النشاط الزلزالي لليوم السابق. بما أن الدانمارك لا تشتهر بالبراكين والزلازل، استغرب النبضات التي سجّلها جهاز رصد الزلازل في بورنهولم.
سرعان ما انتقل اهتمام النقاش في غرفة الموظفين إلى تقارير إعلامية تتحدث عن تصاعد فقاعات غاز من قعر بحر البلطيق جعلت سطحه يشبه قدر ماء يغلي.
سألت تين لارسن، إحدى زميلات ريندس: "إذا كان هناك تسرّب من أنبوب ضخم، فهل يمكننا أن نراه؟" حين عاد ريدس إلى مكتبه، راجع تخطيط النشاط الزلزالي من بورنهولم وقارنه مع أجهزة قياس زلازل أخرى ليستبين الأمر الذي أثار ارتباكه في البداية ولإجراء مسح تثليثي للموقع.
أظهرت موجات ضغط أخرى سجلها جهازان إضافيان، واحد في الدانمارك وآخر في السويد أن مركز الاهتزاز كان في نقطة جغرافية واحدة، وليس في منطقة أوسع كما المألوف في الزلازل، واستدعى ريدس زملاءه ليؤكدوا استنتاجاته. قالت لارسن "لم يساور أي منا أدنى شك: ما حصل لم يكن زلزالاً".
هجوم دقيق الإعداد
أبلغ علماء الزلازل مدير وكالتهم وبدوره أبلغ رئيسه، وزير المناخ الدانماركي، عن وقوع انفجار تحت الماء. في غضون ذلك، رُصدت فقاعات غاز أخرى على مسافة أبعد نحو الشمال، وحين راجع الفريق القراءات الزلزالية، وقع على بيانات مشابهة.
تبيّن أن كلاً من تلك المواقع يماشي مسار شبكة خطوط أنابيب "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2" التي تنقل الغاز الروسي نحو أوروبا الغربية.
فيما لم يبدأ خط أنابيب "نورد ستريم 2" بالعمل بعد، كان "نورد ستريم 1" قد أسهم في ذروته بنقل ما يصل إلى 60 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، أي ما يوازي خُمسي إجمالي إمدادات أوروبا من الغاز.
قالت لارسن: "يُستبعد أن يكون حصول انفجارين في اليوم نفسه في خط الأنابيب ناجماً عن حادث... أياً يكن الأمر، ما حدث لم يكن طبيعياً".
عقد قادة الشرطة والجيش والأجهزة الاستخبارية الدانماركية اجتماعاً في مجلس الأمن القومي بعد ساعات فقط، فالدانمارك لم تكن قط متحمسة تجاه خطة شبكة الأنابيب هذه التي اقتُرحت للمرة الأولى في نهاية التسعينيات لضخ الغاز السيبيري تحت البحر لمسافة مئات الكيلومترات من أحد الخلجان الروسية النائية نحو شمال ألمانيا.
لكن في 2009، عادت كوبنهاغن وسمحت بمرور خطي أنابيب عبر جزء من بحر البلطيق يقع ضمن المياه الدولية وضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة للدانمارك في آن معاً نظراً لقربه من بورنهولم.
تمكّن علماء الزلازل سريعاً من تحديد أن الانفجار الأول حصل الأرجح في هذه المنطقة التي لا تخضع لسيادة واضحة. واكتشفت السلطات الدانماركية والسويدية في نهاية المطاف أربعة تسربات منفصلة للغاز، كلها في مناطق اقتصادية تنتمي إلى إحدى الدولتين، لكن ضمن المياه الدولية.
بيّن مسؤولون حكوميون وعسكريون دانماركيون حاليون وسابقون أن المواقع تشير إلى هجوم دقيق الإعداد.
مراجعات أمنية وعسكرية
حذّر مدير مركز الطاقة والمناخ في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية مارك–أنطوان إيل-مازيغا خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي عُقدت على عجل بعد أربعة أيام من الانفجارات من أن استهداف جزء من البنية التحتية لقطاع الطاقة تُقدّر قيمته بعدة مليارات الدولارات "يُعد سابقة استثنائية".
قال إيل-مازيغا للدبلوماسيين في الاجتماع إن الانفجارات تؤشر إلى تصعيد التوترات الجيوسياسية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "حيث تصدرت تجارة الطاقة وخطوط الأنابيب المشهد، وتحولت إلى أسلحة".
بحلول ذلك الوقت، كان عدد من القادة الدوليين اعتبروا أن التفجيرات مفتعلة وطالبوا بمحاسبة المرتكبين بشدة. لكن على مرّ الأشهر الستة التالية احتدم جدل حول الطرف الذي يتحمل مسؤولية التفجيرات.
توصّل صناع السياسات والقادة العسكريون في منطقة البلطيق بشكل خاص إلى مجموعة نظريات. فيما تحقق دول عديدة في الحادثة لم تعلن أي منها بعد عن نتائج حاسمة بعد.
في غضون ذلك، تعيد عدة حكومات في أوروبا وخارجها النظر في عقيدتها العسكرية وتراجع خياراتها الأمنية المتعلقة بالبنى التحتية التي تصعب حمايتها.
كان توقيت الهجمات أبعد ما يكون عن الصدفة، ففي صباح اليوم نفسه الذي انكب فيه علماء الزلازل على دراسة البيانات، كانت رئيسة الوزراء الدانماركية متيه فريدريكسن تزور بولندا للمشاركة في مراسم إطلاق خط أنابيب آخر هو خطّ أنابيب البلطيق الذي سينقل الغاز النرويجي عبر الدانمارك نحو ساحل البلطيق في بولندا، معززاً إمدادات الغاز الأوروبية، فيما تسعى القارة للحد من اعتمادها المزمن على منتجات الطاقة الروسية.
قالت فريدريكسن حينها: "علينا بذل كل ما بوسعنا للحد من استخدام روسيا للطاقة كأداة لبسط نفوذها... معاً سنهزم بوتين". إلا أن انفجارات "نورد ستريم" أظهرت مدى هشاشة مثل هذه البنية التحتية.
أنابيب معطلة
كان خطا الأنابيب التوأمان اللذان يشكلان شبكة "نورد ستريم 1" وافتُتحا في 2011 قد أُغلقا منذ أغسطس بغرض الصيانة بعد مرور ستة أشهر على الحرب الروسية في أوكرانيا. وأعلنت شركة "غازبروم" حينئذ أن الصيانة ستستغرق وقتاً أطول من المعتاد بسبب العقوبات المفروضة على روسيا.
قبل ساعات فقط من الموعد المرتقب لاستئناف تدفق الغاز في بداية سبتمبر، أعلن قادة مجموعة السبع عن خطط لفرض سقف على أسعار النفط الروسي، فيما اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إجراءات مماثلة على صعيد الغاز. دفع ذلك "غازبروم" لتعلن تعليق الشحنات عبر "نورد ستريم 1" إلى أجل غير مسمى.
في حين أُنجز بناء شبكة أنابيب "نورد ستريم 2" وهي عبارة عن خطي أنابيب يمتدان بشكل شبه مواز لـ"نورد ستريم 1" على بعد بضعة أميال من المنطقة الاقتصادية الدانماركية في 2021، إلا أنها لم تدخل الخدمة قط.
برغم دعم القادة الألمان والروس للمشروع، إلا أنه واجه معارضة شرسة من الولايات المتحدة وبولندا وغيرها من الحلفاء الأوروبيين. وكانت برلين سحبت أخيراً دعمها للمشروع قبل بضعة أيام من الغزو، حيث حظر المستشار الألماني أولاف شولتس مبيعات أي غاز عبر "نورد ستريم 2" يمكن أن يستفيد منها الكرملين مالياً.
بالتالي، في وقت وقوع التفجيرات، لم تكن الشبكتان اللتان تمتدان على نحو 1200 كيلومتر إلا أطناناً من المعدن والخرسانة تكاد تكون بلا أي قيمة، مع ذلك كانت مليئة بملايين الأمتار المكعبة من الغاز، أغلبه من الميثان المستخدم للحفاظ على التوازن الداخلي ومنع الأنابيب من الانهيار تحت ثقل المياه التي تعلوها، وكان ذلك هو الغاز الذي شوهد يتصاعد إلى سطح بحر البلطيق خلال الساعات التي تلت الانفجارات.
قال مسؤول في "غازبروم" لمجلس الأمن الدولي إن الشبكة كانت تحتوي وقت الانفجارات 800 مليون متر مكعب من الغاز، أي ما يوازي ربع استهلاك الدانمارك السنوي.
البلطيق يعود للواجهة
أظهرت تحقيقات لاحقة أن الضرر هائل جداً لدرجة يُستبعد استئناف تدفق الغاز في وقت قريب، ما يعني أن الفيزياء تحت الماء باتت فجأة تنسجم هي الأخرى مع التطورات السياسية فوق الأرض، فقد أدت الهجمات إلى قطع إمدادات الغاز الروسي في وقت كان الجميع في أوروبا يسعون لوقف شراء الغاز من روسيا.
قال العقيد دان تيرمانسين، قائد السرب الثاني في البحرية الدانماركية: "لم يكن أحد يعرف ما الذي يجري فعلاً، ولكن السياق الأوكراني كان جزءاً من الأمور التي تبادرت إلى أذهاننا".
التحق تيرمانسين بقوات البحرية الدانماركية في ثمانينيات القرن الماضي خلال الحرب الباردة، في وقت كان على البحارة البقاء في حالة تأهب دائمة. إذ أمكن للقادة أن يصدروا أوامر بانطلاق الزوارق الهجومية السريعة في غضون إشعار ساعة فقط، ليلاً أو نهاراً، لمواجهة أي قوة إنزال روسية.
قال وهو يصعد السلالم شديدة الانحدار نحو جسر سفينة "بيتر ويليموس" الحربية المحملة بالمدافع المضادة للطائرات ومنصات إطلاق الصواريخ إن "المهمة في ذلك الوقت كانت تركز بشدة على بحر البلطيق".
راح تيرمانسين يتأمل ميناء كورسور الذي تحرسه قلعة حصينة مبنية من الآجر الأحمر تعود إلى القرن الثاني عشر، ثم أشار إلى مضيق ستوربيلت المعروف باسم "الحزام الكبير" والذي يشكل بوابة عبور نحو بحر البلطيق.
بموجب القانون الدولي، يتعين على السفن الروسية التبليغ عن مرورها فيه في طريقها نحو المحيط الأطلسي، فيما يتعين على الغواصات أن تصعد إلى السطح وتبقى ظاهرة إلى حين مغادرتها المياه الإقليمية الدانماركية.
اليوم، بعد عقود من الهدوء النسبي كانت خلالها الزوارق الدانماركية تشارك في معارك بعيدة في إطار مهام حلف شمال الأطلسي، عاد بحر البلطيق مجدداً ليتصدر أولويات القوات البحرية الدانماركية.
ما يزال أكثر من 100 ألف لغم من مخلفات حروب القرن العشرين متناثراً في قاع بحر البلطيق وتعلق من حين إلى آخر بشباك سفن الصيد، ولدى الدانمارك بعض عشرات الغطاسين الذين يعملون على إزالتها.
غواصة مسيّرة
في غضون 24 ساعة من انفجار "نورد ستريم" الأول الذي قالت رئيسة الوزراء فريدريكسن إنه "خطر لأقصى حد"، توجه نحو عشرة من أفراد فرقة النخبة تلك لفحص الأنابيب المتصدعة قرب بورنهولم.
بدأ الغطاسون الذين طُلب منهم عدم مناقشة المهمة حتى مع بعض قادتهم بجمع عينات من الأنابيب وقعر البحر في منطقة "أعماق بورنهولم" التي تُستخدم مكباً لمستوعبات غاز الخردل العائدة إلى الحرب العالمية الأولى وآلاف الألغام القديمة المهترئة التي ما تزال خطرة.
يتطلب هذا العمل قضاء فترات طويلة في المياه المظلمة واستنشاق الهواء عبر قوارير معبأة بالهيلوكس، وهو خليط من الهليوم والأكسيجين، ولكنه خالٍ من النيتروجين نظراً لمخاطره التخديرية.
جلس أحد أكثر غطاسي البحرية الدانماركية خبرة في حانة في كوبنهاغن يتناول الجعة، وقال إنه صعب جداً أن يكون غطاسون قد عثروا على الأنابيب ثم نقلوا المتفجرات وزرعوها دون أن تكون بحوزتهم إحداثيات دقيقة أو تقنية تتبع.
لقد زُرعت المتفجرات التي تُقدّر زنتها بمئات الكيلوغرامات على الجانب الأسفل من الأنابيب وساعدت السرعة الانفجارية بتجنّب كرة لهب كانت لتجتاز الأنابيب بسرعة في الاتجاهين.
حسب تقديرات الغطاس الدانماركي، فإن العملية كانت لتستغرق ساعات لو قام بها غطاس منفرد، تشمل عودته الآمنة إلى السطح. بالتالي، يخلص إلى أن مرتكب الهجوم توفرت له غواصة مسيّرة سريعة، مثل تلك التي تملكها قوات البحرية المتقدمة.
أشار إلى أن توقف سفينة لساعات بانتظار عودة فريق غطاسين كان ليلفت الانتباه أو ليكتشفه المحققون بعد العملية.
توافق البحرية الدانماركية على هذه الفرضية، بما أنه يصعب أن يبقى الغطاسون تحت الماء طيلة الوقت اللازم لإعداد هذا الهجوم دون اكتشافهم. لم تدل شرطة كوبنهاغن التي تشرف على التحقيق الجنائي في القضية ولا وكالة الاستخبارات الدانماركية أو وزارتا الدفاع والخارجية بأي تعليقات إضافية.
استراتيجية السويد
في السويد المجاورة، بدأ الخطر الذي شكلته هجمات "نورد ستريم" يعيد رسم استراتيجية البلاد العسكرية. فلطالما تفوقت البحرية السويدية في المراقبة تحت الماء بما أنها تنشط في دولة ساحلها يمتد لأكثر من 3 آلاف كيلومتر وتضم 230 ألف جزيرة.
لقد تعززت هذه المهارات على مدى العقدين الماضيين مع تكرر حوادث اقتراب الغواصات الروسية من المياه السويدية.
يتسم بحر البلطيق بمعدلات ملوحة متفاوتة وتيارات متقلبة ومياه ضحلة في أحيان كثيرة، ما يصعّب عمل الغواصات بسرية. بالتالي، تشكل خبرات السويد أداة مهمة بيد حلف شمال الأطلسي الذي تطمح البلاد للانضمام إليه بعد قرون من التزامها الحياد، في تحوّل صارخ ناجم عن الغزو الروسي.
قال العميد باتريك غاردستين وهو يدل بإصبعه إلى خارطة لطرقات الشحن في بحر البلطيق موضوعة على طاولة في غرفة داكنة مزينة بألواح خشبية في جزيرة موسكا: "نحن خبراء في هذه البيئة".
تقع الجزيرة على بعد نحو ساعة بالسيارة جنوب ستوكهولم، وتضم قاعدة بحرية تبدو أشبه بمخبأ لأحد الأشرار في أفلام جيمس بوند، لما تحتويه من أرصفة تحت الأرض ترتبط عبر شبكة أنفاق محفورة في الصخر.
بيّن غاردستين الذي عُيّن نائباً لقائد البحرية قبل شهر من انفجارات "نورد ستريم" أن الحادث يؤشر إلى المخاطر المتزايدة لما يُعرف بالأعمال الحربية الهجينة، المتمثلة باستهداف بنية تحتية استراتيجية مدنية.
قال: "للأمر تأثير كبير على شعور مواطنينا حيال أمنهم وحيال الاستقرار في المنطقة".
أسرار دفاعية
كان رئيس غاردستين في زيارة إلى الولايات المتحدة يوم الانفجارات، فهرع نيابةً عنه إلى مركز العمليات البحرية للاطلاع على إحاطة عامة حول ما جرى، وما هي إلا دقائق حتى اتصل غاردستين عبر خط هاتف مخصص للطوارئ مرتبط بشبكة اتصالات مشفرة تابعة لحلف شمال الأطلسي.
أجابه أدميرال بريطاني قائلاً، حسب ما رواه غاردستين: "لأنك تجرأت على الاتصال بي، فسأساعدك". ارتجف صوت غاردستين فيما استذكر اتصال أقرانه من حلف شمال الأطلسي ليعرضوا عليه المساعدة، وقال: "شعرت أنني لست وحيداً وأن لدي دعم العالم الغربي كله إلى حد ما".
إلى حد ما كان تعبيراً سليماً، فالتعاون العلني في التحقيقات بالانفجارات بين القوى العسكرية المختلفة كان محدوداً جداً. فتحت كل من الدانمارك وألمانيا وبولندا والسويد تحقيقات مستقلة، وكذلك فعلت روسيا التي طالب ممثلها الدائم في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا "باتخاذ إجراءات جنائية بموجب الفصل المتعلق بأعمال الإرهاب الدولي".
إلا أن القضايا المرتبطة بالقدرات العسكرية تحت الماء ما تزال محط شبهات وشكوك متبادلة. في هذا الصدد، يقول المدعي العام الرئيسي في التحقيق السويدي ماتس ليونغكفيست إن الجهود التي بذلها فريقه تضمنت معلومات "خاضعة للسرية لصلتها المباشرة بالأمن القومي"، بالتالي لن تدخل السويد في أي تحقيق مشترك قد يضطرها لمشاركة مثل هذه المعلومات.
رغم سنوات من التعاون في المهام التدريبية، إلا أن فرق الغطس السويدية والدانماركية بقيت بعيدة عن بعضها خلال التحقق من مواقع التفجيرات، ولم يتشارك أعضاؤها أي تجهيزات أو الأدلة التي عثروا عليها.
أصل هذا الحذر واضح، فقد طُرد مئات الجواسيس الروس من العواصم الأوروبية خلال العام الماضي، فيما ظهر تخوّف الحلفاء من نقل الأسرار العسكرية إلى موسكو جلياً في ديسمبر بعد اعتقال جاسوس مشتبه به في دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية المسؤولة عن الاستخبارات الخارجية، يعمل لصالح روسيا.
في بولندا، ألقت السلطات القبض في يناير على ثلاثة رجال ادعوا أنهم مواطنون إسبان كانوا على مقربة من منشآت طاقة، ما استدعى إجراء مراجعة أمنية بحقهم.
كانت الشرطة النرويجية قد اعتقلت في أسبوع واحد في أكتوبر سبعة مواطنين روس في أربع حوادث متفرقة تتعلق بتحليق طائرات مسيّرة أو التقاط صور لمنشآت دفاعية أو منشآت طاقة حساسة.
قال بال هيلديه، المسؤول السابق في وزارة الدفاع النرويجية الذي يعمل حالياً لصالح المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية إنه بما أن معظم إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا تُنقل حالياً عبر خطوط الأنابيب النرويجية الممتدة على آلاف الأميال، فإن الهجمات كانت "بمثابة جرس إنذار". أضاف: "قد تكون كامل بنيتنا التحتية معرضة للخطر".
اتهامات متبادلة
قال إيريك نليس كروس، رئيس للاستخبارات الأستونية السابق وعضو البرلمان الحالي إن "كثيراً من الأمور تغيرت منذ التفجيرات". أضاف كروس، الذي وصف نفسه بـ"البلطيقي المرتاب"، إنه قلق حيال تهديد عسكري مباشر مثل غزو روسي أكثر من احتمال وقوع هجوم منفرد يستهدف شبكة الغاز أو الكهرباء.
مع ذلك، أقرّ أن الدول التي تعتمد على بنى تحتية تتضمن أنابيب تحت الماء تبقى عرضة للخطر، وقال: "يعيدنا ذلك للسؤال: من فعل ذلك؟... هل من المنطقي أن تقوم روسيا بذلك؟ الجواب نعم ولا".
قال كروس ربما تمتلك بعض الوكالات الاستخبارية أدلة تشير إلى المرتكبين، ولكن لديها كثير من الأسباب لعدم كشفها، "بالأخص إن لم يكن المخربون روسيين".
يأتي تعليق كروس في إطار واحد من أكثر الألغاز الجيوسياسية إثارة منذ عقود. فقد حيّرت هوية مرتكبي التفجير الساسة والمنظرين السياسيين في الدول التسع المطلة على بحر البلطيق، امتداداً حتى العواصم الأوروبية الأخرى، ووصولاً إلى الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي، وسط تبادل توجيه أصابع الاتهام.
اتهمت الدول الغربية وأوكرانيا في البداية موسكو بالوقوف خلف الهجوم، فيما نفى الكرملين ذلك وقال إن ذلك "اتهام متوقع غبي وسخيف"، ثم بعد شهر اتهمت روسيا بريطانيا بالضلوع بالهجوم، وردّت الأخيرة بوصف اتهام موسكو "بترويج لادعاءات مغلوطة على نطاق واسع".
كان المدعي العام الألماني قال في فبراير إنه "لا يمكن إثبات" أي تورط روسي. من جانبها وصفت السلطات السويدية الحادثة بالعمل التخريبي، ولكن مثل الدانماركيين، امتنعت عن التصريح أكثر في العلن.
تقارير وسّعت الاتهامات
أفادت صحف "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" وعدد من وسائل الإعلام الألمانية في مارس أن المراجعات الاستخبارية تؤشر إلى وجود رابط مع "مجموعة داعمة لأوكرانيا" أو حتى الدولة الأوكرانية نفسها.
غرّد أحد المستشارين في مكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد أحد هذه التقارير، إنه رغم استمتاعه بجمع "نظريات مؤامرة مثيرة" حول الحكومة الأوكرانية، إلا أنه لا علاقة لبلاده بالحادثة في بحر البلطيق.
أتت تلك التقارير الصحفية بعد منشور للصحفي سيمور هيرش الفائز بجائرة "بوليتزر" الذي حمّل إدارة بايدن مسؤولية التفجيرات بمساعدة من النرويج. أوضح هيرش الذي تعرض لانتقادات في السنوات الأخيرة على خلفية تغطيته للأحداث في باكستان وسوريا إن سرديته تستند إلى مصدر واحد قال إن "لديه معرفة مباشرة بالتخطيط للعمليات".
إلا أن سفيرة الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي جوليان سميث أكدت أن "الولايات المتحدة لا تتحمّل أي مسؤولية فيما جرى وأي ادعاء من هذا القبيل أمر مشين".
كما قال جون سيفر الذي عمل 28 عاماً في مديرية العمليات في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وانضم حالياً إلى "المجلس الأطلسي" إنه لا توجد أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي قد تنخرط في مثل هذه العملية.
أضاف: "لدى جيوشنا، جميعها، القدرة على مثل هذه الأعمال، لكن لا أرى الفائدة الكبرى من فعل ذلك في وقت السلم". أمّا فيما يخص ضلوع الولايات المتحدة، قال: "لا أقدر على تخيل ذلك، فعلى كل مستوى من مستويات الهرمية، لا بد أن يكون أحدهم قد قال: هذا أغبى أمر سمعت به. مستحيل أن نفعل أمراً كهذا ولا يجدر بنا أن نفعله".
دور أوكراني؟
أعرب رونالد ماركس، وهو مسؤول قضايا سابق في وكالة الاستخبارات المركزية صاحب خبرة في مجال العمليات في روسيا، عن اقتناع متزايد بأن مجموعة صغيرة من الأوكرانيين كانت وراء الهجمات، وربما حصلت على مساعدة حكومة أجنبية.
قال ماركس وهو أستاذ زائر حالياً في جامعة "جورج مايسون": أراهن بقسط رهني العقاري على ذلك".
كما قالت فيونا هيل، الخبيرة في الشأن الروسي وهي عضوة سابقة في مجلس الأمن القومي الأميركي، في بودكسات إنها ظنت في البداية أن روسيا فجرت الأنابيب "حتى توجه رسالة مفادها أن كثيراً من البنى التحتية الأخرى مهددة". إلا أنها بدأت تتساءل اليوم حول احتمال ضلوع أوكرانيين في الهجوم، رغم تأكيدها أنها لم تشاهد أي دليل على ذلك.
قال سامويل شارب، اختصاصي العلوم السياسية رفيع المستوى في مؤسسة "راند بول" البحثية الذي يجري دراسات حول روسيا إنه شبه متأكد من أن موسكو لم تفجر الأنابيب التي كانت شركات روسية أنفقت مليارات الدولار لبنائها. أضاف: "لو كان هناك أدنى دليل على أن روسيا تقف خلف ذلك، لكان ذلك قد تسرب منذ وقت طويل".
حماية البنى التحتية
أعادت انفجارات "نورد ستريم" ومعها غزو أوكرانيا تصويب بوصلة التفكير العسكري على امتداد أوروبا الشمالية، بالأخص في الدانمارك، وأحدثت تحولاً بالطريقة التي ينظر بها الساسة وقادة القطاع إلى البنية التحتية للطاقة. إذ تجتاز أوروبا شبكات أنابيب متداخلة تمر تحت بحر الشمال والبحر الأبيض المتوسط.
فيما تسعى القارة للتخلص من اعتمادها على الوقود الأحفوري، يعمل عديدٌ من دولها على بناء مزارع رياح ضخمة في البحر ترتبط بالشاطئ عبر كابلات سيكون تأمينها صعباً جداً في حال حصول أي هجمات.
جلس يينس وينزيل كريستوفيرسن لساعات في مكتبه في قسم العلوم السياسية في جامعة كوبنهاغن خلف جدار طوبي مهيب كان يوماً جزءاً من مستشفى يعود إلى القرن التاسع عشر، ليدرس تفاصيل الانفجارات، محللاً كافة السيناريوهات المحتملة على شاشة جهاز كمبيوتر ضخمة.
يفترض كريستوفيرسن وهو ضابط بحرية وأكاديمي أن تكون الوكالات الاستخبارية حول العالم قد بحثت في صور الأقمار الصناعية باستخدام خوارزميات قوية وقارنتها ببيانات أجهزة الإرسال والاستقبال على متن السفن بهدف تحديد مراكب مشبوهة.
تحدث كريستوفيرسن عن سفينة حربية روسية انتهكت في يونيو المياه الإقليمية الدانماركية قرب بورنهولم فيما كانت الجزيرة تستضيف تجمعاً للاحتفاء بالديمقراطية الدانماركية.
تشير إحدى النظريات الدانماركية إلى أن واحدة مثل هذه السفن ربما تكون زرعت المتفجرات وزوّدتها بصواعق تنفجر في وقت لاحق لتدمير خطوط الأنابيب. (أصدرت السفارة الروسية بياناً قالت فيه إن الدانمارك لم تقدم "أي دليل حول ما حدث" في إشارة إلى حادثة انتهاك المياه الإقليمية).
زيادة الإنفاق الدفاعي
يرى كريستوفيرسن الحديث عن القدرات وتحميل المسؤوليات مثيراً، لكنه غير مهم في نهاية المطاف، فالأهم تأمين صمود البلاد على المدى الطويل.
فتح النزاع في أوكرانيا نقاشاً معمقاً حول الإنفاق الدفاعي بالنسبة للدانمارك وجيرانها، إذ تضطر كثير من الدول الصغيرة ذات الموارد العسكرية المحدودة لإرسال قوات إلى الخارج بموجب عضويتها في حلف شمال الأطلسي، كما أن عليها أن تحصن ساحتها ضد اعتداء روسي، وأن تبذل مزيداً من الجهد لحماية البنى التحتية الخاصة بالطاقة الواقعة في مناطق نائية.
قال كريستوفيرسن مغتاظاً: "لا توجد غواصات في الدانمارك"، مشيراً إلى أن البلاد تخلت عن برنامج الغواصات المكلف قبل عقدين. سأل: "كيف سنتمكن من مراقبة البنية التحتية في قاع البحر أو الرد على أي اعتداء من جهة الشرق؟"
في غضون ذلك، تجري الدانمارك حواراً حول إنفاقها الدفاعي خلال العقد المقبل، وقد تصدرت المسيّرات تحت الماء وأجهزة إزالة الألغام هذا النقاش بعد هجمات "نورد ستريم".
يؤيد كريستوفيرسن هذه الاستثمارات التي يعتبر أنها ضرورية للحماية من عمليات التخريب. قال وهو ينقر على الطاولة محبطاً: "لا توجد مراقبة مستمرة لأي من الكابلات تحت الماء، سواء تلك المتعلقة بالاتصالات أو الكهرباء أو الغاز... نحن ننتقل من 2.3 غيغاواط مولدة من عنفات الرياح إلى 8.3 غيغاواط في عام 2030، وما الذي نفعله لحمايتها؟ على حد علمي لا شيء".
تعزيز الأمن تحت الماء
على الجهة الأخرى من بحر الشمال، تعمل المملكة المتحدة على توسيع سعة توليد طاقة الرياح في البحر، فيما تسعى في الوقت عينه إلى تعزيز قدرتها على حماية عنفات الرياح وما يتصل بها من بنية تحتية تحت الماء، وهي بصدد شراء سفينتين مصممتين لصيانة المنشآت البحرية التابعة لشركات النفط والغاز وإعادة تأهليهما لاستخدامها لأغراض عسكرية.
يُتوقع أن تدخل أولى السفينتين "توباز تانغاروا" في الخدمة في الصيف المقبل تحت اسم جديد. صُنعت هذه السفينة في النرويج وتستطيع القيام بمسوحات وتفتيشات وإطلاق غواصات مسيّرة وروبوتات من فتحات مغمورة في بدن السفينة، التي يبلغ وزنها 6600 طن.
كان وزير الدفاع البريطاني بن والس قد قال في يناير: "هذا أمر مهم جداً في وقت نواجه فيه اجتياح بوتين غير الشرعي لأوكرانيا".
كانت فرنسا قد أعلنت العام الماضي عن خطط وضعها جيشها لتطوير مسيّرات وروبوتات تحت الماء إلى جانب مقاوليها الدفاعيين، وقد أنشأ حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي قوة مشتركة تركز على البنية التحتية الحساسة.
أعلن أمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ في فبراير عن تشكيل "خلية تنسيق" في مقر الحلف في بروكسل بقيادة ضابط ألماني مخضرم، تتولى تحسين التواصل حول الأمن تحت الماء بين المدنيين والجيوش والشركات الخاصة على امتداد التحالف.
المجهول قد يبقى مجهولاً
ظهرت عواقب عدم التحرك لحماية هذه البنية التحتية بوضوح، فقد صرحت "غاز بروم"، التي سجلت صادراتها من الغاز تراجعاً كبيراً، بعد بضعة أيام من التفجيرات في سبتمبر أنها باشرت البحث عن طرق لاستئناف العمل بشبكة "نورد ستريم"، لكنها لم تقدم أي إطار زمني لإتمام الإصلاحات.
سرعان ما اتضح سبب ذلك. استكشفت شركة نرويجية متخصصة بصناعة المسيّرات تحت الماء المنطقة باستخدام مركبة تُشغّل عن بعد ويمدّها بالطاقة كابل طوله 300 متر وتُدار بواسطة أداة تحكم للعبة "أكسبوكس" معدلة.
رغم أن المياه عكرة أحياناً، تمكنت المركبة من التقاط مقطع فيديو يظهر تشوهات شديدة في محيط الأنابيب المعدنية وقضباناً ملتوية في الحاوية الخرسانية وشقّاً كبيراً في قعر البحر كان يمر خلاله جزء طويل من خط الأنابيب.
حصلت بعد بضعة أيام سفينة "نفريت" التابعة لـ"غاز بروم" على الإذن للتحقيق داخل المنطقة الاقتصادية السويدية، وبلّغت عن العثور على حفر بعمق يتراوح بين ثلاثة وخمسة أمتار، فيما تبعثرت أجزاء من الأنبوب على امتداد 250 متراً مربعاً على الأقل.
لكشف التهديدات وتجنّب وقوع أضرار مماثلة في بحر البلطيق مستقبلاً، لا بد من توفير مزيد من أجهزة السونار والغواصات وأجهزة الاستشعار المتحركة والثابتة.
أقرّ غاردستين، الجنرال السويدي، بأن "المهمة ضخمة جداً" ودعا قادة القوات البحرية لدول البلطيق، باستثناء روسيا، لعقد لقاء في جزيرة موسكا في مارس لمناقشة قضايا الدفاع تحت الماء.
قال: "مهم أن نظهر لأصدقائنا وشركائنا وخصومنا أننا هنا ونرى ما تفعلون... كما علينا أن نظهر عزيمتنا للدفاع عن مصالحنا وأراضينا".
في الأيام المحمومة التي أعقبت تفجيرات بورنهولم، اجتاز القادة الأوروبيون الخطوط الحمر بتهديداتهم بالرد. قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الإسباني جوزيب بوريل إن "أي تعطيل متعمّد للبنية التحتية الخاصة بالطاقة في أوروبا أمر غير مقبول بتاتاً وسيواجه بردّة فعل حاسمة وموحدة".
لكن بعد مضي ستة أشهر على الحادثة، وحتى لو كان طرف ما قد توصّل لكشف المرتكبين، فلم يفصح أحد عن ذلك، ولو وقعت ردّة فعل كالتي حذّر منها بوريل، فنحن لم نعلم بها، تماماً مثل الأحداث التي حصلت تحت البحر، وربما لن نعرف ذلك أبداً.