ترسخ الاستقطاب الحزبي في أميركا بعد توجيه اتهام إلى ترمب في ظلّ تراجع الثقة بالمؤسسات

اتهام ترمب يفاقم الانقسام السياسي الأميركي

دونالد ترمب - المصدر: بلومبرغ
دونالد ترمب - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كان قرار هيئة المحلفين الكبرى في مانهاتن في 30 مارس بتوجيه اتهامات إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب علامة قاتمة جديدة على الانحدار المدني الأميركي، الذي قد يؤدي إلى عدة نتائج، ليس بينها ما تُحمد عقباه.

اتهم المدعي العام في مقاطعة مانهاتن إلفين براغ ترمب بتزوير سجلات تجارية من أجل إخفاء أموال دفعها لممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز ليشتري صمتها، حسب ما نقلت "بلومبرغ نيوز" عن عدد من المصادر.

كان ترمب الذي توقّع توجيه تهم إليه قد استخدم وسائل التواصل الاجتماعي ليحثّ مناصريه على التظاهر، وحذّر من "سقوط قتلى وحصول دمار" في حال اتهامه، ما يذكّر بتحريضه لمؤيديه عشية الهجوم على مبنى الكابيتول في واشنطن في 6 يناير 2021. مع توقيفه، قد تتجه البلاد نحو حقبة جديدة متفجرة من انقسامات حزبية عميقة.

يطرح اتهام ترمب قضية جدلية جديدة تتناول الرئيس السابق، في حين أن هذه الخطوة غير مسبوقة في التاريخ الأميركي، إلا أنها تبدو أشبه بنغمة قديمة متكررة. صحيح أن جو بايدن هو الرئيس الحالي للولايات المتحدة، لكن دونالد ترمب لا يزال يتصدّر عناوين الأخبار ويؤثر في المشهد السياسي الأميركي.

رغم خروجه من البيت الأبيض فإنّ توجيه الاتهامات لا يعني أنه سيرحل عن ساحة السياسة. هذا وحده يكفي لجعل ترمب مختلفاً عن كل الرؤساء السابقين الذين كانوا عادةً ما ينكفئون عن الحياة السياسية عقب خسارتهم في السباق الانتخابي لولاية ثانية.

خروج عن الأعراف

يواجه ترمب احتمال التعرّض لملاحقات قضائية إضافية على خلفية دوره في التحريض على هجمات 6 يناير وعرقلته التصديق على أصوات المجمع الانتخابي ومساعيه لقلب نتائج الانتخابات في جورجيا وطريقة تعامله مع مستندات سرية كانت خلف مداهمة مكتب التحقيقات الفيدرالية لسكنه في منتجع "مارالاغو" في فلوريدا في أغسطس. لقد نفى ترمب كل الاتهامات، معتبراً أنها مدفوعة بحملات يقودها معارضوه.

إلى جانب رفض ترمب الانسحاب من الحياة السياسية، يمثّل تفلّته من العقاب رغم التهم الجنائية المقدمة ضده خروجاً حقيقياً عن الأعراف التاريخية. دأب الرؤساء والمرشحون الرئاسيون في ما مضى على تقديم مصلحة الوطن على الحزب.

على سبيل المثال، استقال الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه لتجنّب عزله على خلفية فضيحة "ووترغيت"، ثم أصدر جيرالد فورد عفواً رئاسياً عنه ليضع حدّاً "للكابوس الوطني الطويل".

في عام 2000 اعترف آل غور بفوز خصمه جورج بوش الابن في الانتخابات الرئاسية رغم عدم انتهاء إعادة احتساب الأصوات في فلوريدا، لأنه اعتبر أن ذلك يصبّ في المصلحة العليا للبلاد.

لكن بالنسبة إلى ترمب وحلفائه، هذا النوع من التفكير أكل الدهر عليه وشرب. قال تايلر بودويتش، الرئيس التنفيذي لمجموعة العمل السياسي المؤيدة لترمب "لِنُعِد أميركا عظيمةً": "تستغل النخبة السياسية والمتنفذون الحكومة من أجل اعتراض طريقه، إلا أنهم سيفشلون في ذلك... سيعاد انتخابه بأكبر فارق في التاريخ الأميركي".

ليست حالاً مستجدة

لطالما عرفت الساحة السياسية الأميركية المارقين والغوغاء من الساسة الشعبويين ذوي الجاذبية أمثال هوي لونغ وروس بيرو، إلى مناهضي الشيوعية المرتابين مثل جوزيف مكارثي.

لكن في الماضي، ظلّ هؤلاء على هامش الحياة السياسية، إلا أن مفاجأة فوز ترمب التاريخي في الانتخابات الرئاسية في 2016 قلبت الموازين، وأوصلت أحد أولئك السياسيين إلى البيت الأبيض. ترمب الذي واجه دعوتين لعزله من منصبه، أصبح أول رئيس أميركي توجّه إليه اتهامات جنائية. يشكل وضعه الحالي إعادة تقديم لمفهوم الاستثنائية الأميركي.

نموذج الزعيم السياسي صاحب الشعبية الواسعة الذي يواجه اتهامات جنائية دون التخلي عن طموحاته السياسية لتولّي مناصب عليا ليس أمراً مستجدّاً على الساحة الدولية.

في 2013، أدين رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلوسكوني بتهمة التهرب من الضرائب وسُجن، ليعود ويفوز بمقعد في مجلس الشيوخ الإيطالي في الانتخابات العامة في السنة الماضية.

في البرازيل، أُدين الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بتهم غسل الأموال، والفساد، وسُجن، إلا أن المحكمة الاتحادية العليا أبطلت الحكم الصادر بحقه، وأعيد انتخاب دا سليفا مجدداً لرئاسة البرازيل العام الماضي.

كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صاحب أطول فترة في منصب رئيس الوزراء في إسرائيل، تمكّن من تحقيق عودة مذهلة في العام الماضي بعد مواجهة تهم فساد جنائية. حتى إذا أدين ترمب، فثمّة سابقة بالترشح للرئاسة الأميركية من خلف قضبان السجن، لكنه بلا شكّ يأمل أن يحصل على ما أكثر من الـ3.4% من الأصوات التي حصدها أوجين ديبس حين ترشح للرئاسة في 1920 حين كان سجيناً في أتلانتا بتهمة إثارة فتنة.

تراجع الثقة بالعدالة

سيسرّع توجيه الاتهامات إلى ترمب حتماً التراجع في ثقة الأميركيين بالمؤسسات الكبرى في البلاد. أدّت سلسلة من الأحداث على مدى السنوات الماضية إلى انخفاض منسوب الثقة بنظام العدالة الجنائية الذي سجّل انخفاضاً حاداً في مستوى التأييد.

أظهر استطلاع لمؤسسة "غالوب" العام الماضي أن 14% فقط ممن شملهم لديهم "ثقة عالية" بنظام العدالة الجنائية في البلاد، مقارنة مع 20% قبل سنتين، ليحلّ ثالثاً بعد الأخبار التليفزيونية والكونغرس على قائمة المؤسسات التي تحظى بأقل مستويات ثقة في الرأي العام.

لا شكّ أن ترمب نفسه كان سبباً رئيسياً في انهيار ثقة الرأي العام. أرسلت حملته رسائل إلكترونية لمناصريه في 23 مارس تزعم فيها أن محاكمته لها دوافع سياسية. جاء في الرسالة الإلكترونية الغاضبة أن "استغلال اليسار لنظامنا القضائي أمر مخزٍ... لكن ما ترونه ما هو إلا قمّة جبل جليدي يمثل الضرر الذي تلحقه الدولة العميقة ببلادنا".

كما أسهم ساسة جمهوريون آخرون في تعميق الاستقطاب الحزبي، فقد وصف رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي في 25 مارس التحقيق بأنه "سوء استخدام شائن للسلطة من قبل مدّعٍ عامّ متطرف يطلق سراح مرتكبي الجرائم العنيفة، فيما يسعى للانتقام من الرئيس ترمب"، وقال إنه سيطلب من اللجان في مجلس النواب البحث في المسألة.

حتى قبل قرار الاتهام ضد ترمب، كان هجوم الجمهوريين قد استدعى رداً حاداً من مكتب براغ. وصف المدعي العام الديمقراطي مطالبة الجمهوريين في مجلس النواب بالحصول على معلومات حول هذه القضية بـ"التحقيق غير المسبوق في مجريات مقاضاة قائمة لا يهدف إلا إلى تعظيم نفوذ أصحابه". اعتبر أن ما نُقل عن أن ترمب يقود هذا المسعى "يجعل طلب تحقيق في الكونغرس غير شرعي".

تشكيك بالصلاحيات

رغم هذا فإن الجمهوريين ليسوا وحدهم من يشككون في صلاحية براغ للسير في الدعوى، بل يؤكد عدد من الخبراء القانونيين أن التهم المستندة إلى القانون الاتحادي يجب أن يتولّاها مدعّون اتحاديون، فيما لا تنطبق هذه الصفة على براغ.

إنّ توجيه تهم جنائية إلى ترمب بموجب قوانين الولاية مسألة معقدة، فتهمة تزوير السجلات التجارية غالباً ما يُتعامل معها على أنها جنحة، وكي ترتقي إلى مستوى جناية، يتعين على المدّعين أن يثبتوا أنها ارتُكبت في سبيل تنفيذ جريمة أخرى.

كما يبرز وضع براغ في مدينة نيويورك الموالية للديمقراطيين بشدة، إذ استقال العام الماضي مدعيان رفيعا المستوى من مكتب المدعي العام في المقاطعة بعد أن تصدّى لجهودهما الرامية إلى توجيه الاتهامات إلى ترمب.

في فبراير، أصدر أحدهما -وهو مارك بوميرانتز- كتاباً فضح فيه كلّ الأسرار منتقداً تردد براغ في السير بقضية التزوير الجنائية الطموحة ضد ترمب، التي عمل عليها بوميرانتز وزميله كاري ديون.

كان بوميرانتز قد ضغط على المدعي العام في رسالة استقالته التي سُربت إلى الإعلامِ العامَ الماضي، واصفاً إحجامه عن توجيه اتهامات ضد الرئيس السابق بـ"خذلان خطير للعدالة".

علاوة ذلك، سيخوض براغ سباقاً لإعادة انتخابه في نهاية المطاف. كانت منافسته الديمقراطية في الانتخابات التمهيدية السابقة تالي فارهاديان وينستين قد عُيّنت أخيراً رئيسة لمجلس إدارة منظمة غير ربحية متخصصة بالشؤون القانونية أسسها بوميرانتز وديون.

قال دانيال هورويتز، المدعي السابق في مكتب المدعي العام في مانهاتن: "هي ترشحت لمنصب المدعي العام مرّة في السابق، وانتقادات بوميرانتز لبراغ موثّقة جيداً... يطرح ذلك تساؤلات حول إذا ما كانت هناك أجندات متعددة تُنفذ هنا".

نجم الانتخابات التمهيدية

يرى معظم الأميركيين أصلاً أن محاكمة ترمب مسيسة. وأظهر استطلاع من "رويترز" بالتعاون مع شركة "إيبسوس" أن 54% من المستطلعين، بما يشمل 80% من الجمهوريين بينهم، يعتبرون أن القضية الجنائية ضد ترمب لها دوافع سياسية. لكن هذا لا يعني أنهم يؤمنون ببراءة ترمب، إذ إن 70% من المستطلعين، ونصف الجمهوريين، يعتقدون أن السلوك الذى هو متهم به "قابل للتصديق".

بغض النظر عن نتيجة المحاكمة، لا شكّ أن اتهام ترمب سيرسم معالم الانتخابات التمهيدية المقبلة للحزب الجمهوري، لكن لم يتضح بعدُ كيف سيؤثر ذلك في الفوز المتوقع لترمب، ولصالح أي طرف سيأتي.

أمّا منافسو ترمب مثل رون دي سانتيس وغيره من الجمهوريين الساعين لخلافة الرئيس السابق، فهم يرحبون بأي أمر من شأنه أن يزعزع احتمالات ترشيحه عن الحزب.

في حين كان واضحاً أن ترمب سيكون نجم الانتخابات التمهيدية، إلا أنها باتت تتمحور حوله بأقرب مما كانت عليه، وذلك لأسباب عدّة، ليس أقلّها أن اتهامات براغ قد لا تكون الأخيرة قبل أن يختار الجمهوريون مرشحهم للرئاسة.

يتوق الساسة الطامحون إلى خلافة ترمب، من مايك بنس إلى نيك هايلي ورون دي سانتيس الذين يقاربون مسألة ترشحهم بحذر، إلى نَيل اعتراف بتميزهم الشخصي، لكنهم يخشون ترمب لدرجة تمنعهم من مهاجمته مباشرةً، وهم الآن يواجهون صعوبة إضافية في كسب اهتمام الناخبين الجمهوريين.

وجد استطلاع من "فوكس نيوز" في 29 مارس أن ترمب متقدم على منافسيه بنسبة تأييد تبلغ 54%، يليه دي سانتيس مع 24% وبنس مع 6%.

ترسخ الاستقطاب الحزبي

قال الخبير الاستراتيجي الجمهوري أليكس كونانت: "هذا الأمر سيستأثر بالسباق الرئاسي في المستقبل المنظور... تقاطر الصحفيون إلى مانهاتن بدل تغطية خطاب مايك بنس المهم أو زيارة تيم سكوت لأيوا، وبقوا في مانهاتن حتى جلسة الاستماع. فقرار الاتهام يجمّد السباق الانتخابي، ويجعله يتمحور حول ترمب مرّة أخرى، مثلما كان يحصل خلال ولايته الرئاسية. سيكون صعباً على المرشحين الآخرين القيام بخطوات كبرى فيما التركيز منصبّ على مكان آخر".

طبعاً لا شيء يضمن خروج ترمب سالماً من دائرة الضوء الإعلامية المسلّطة عليه. فوقائع القضية ليست في مصلحته، كما أن دحض الاتهامات ليس سهلاً، ومحاميه السابق مايكل كوهن سبق أن أقرّ بالذنب وسُجن على خلفية دوره في قضية الرشوة، وهو حالياً شاهد لصالح الادعاء.

لكن ملامح السياسة الأميركية وطبيعة الاستقطاب الحزبي للناخبين تغيرت جذرياً منذ الأيام التي كان يستقيل فيها المشرّعون من مناصبهم بعد أن تطالهم الفضائح، سواء بدافع الواجب أو لقناعتهم بأنهم لا يستطيعون الحفاظ على ما يكفي من التأييد للاستمرار في مناصبهم.

أجرى فريق من علماء السياسة أخيراً دراسة موسّعة لبيانات استطلاعات الرأي حتى يفهموا بشكل أفضل تأثير أبرز عناوين الأخبار خلال السنوات الماضية على تغيير نظرة الناخبين إلى المرشحين الرئاسيين وأحزابهم.

استنتج جون سايدس وكريس توسانوفيتش ولين فافريك في كتابهم "The Bitter End: The 2020 Presidential Campaign and the Challenge to American Democracy" أن الاستقطاب الحزبي مترسخ جداً لدرجة أنه ما عاد أي خبر يؤثر مهما كان مهماً، إذ يضع الجمهوريون والديمقراطيون هذه الأحداث في سياق نظرتهم المسبقة عن العالم، ما يضيّق احتمال تبدّل الولاءات بين الحزبين. أطلق الكتاب على هذه الظاهرة تسمية "التكلس السياسي". وكلّ شيء يدلّ إلى أن الأمر سينطبق على اتهام ترمب أيضاً.

المستقبل على المحكّ

قالت فافريك أستاذة برنامج "مارفين هوفينبرغ" للسياسة الأميركية والسياسات العامة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: "الناس اليوم متمسكون بأحكامهم ومواقفهم المسبقة أكثر من أي وقت مضى منذ أيام الصفقة الجديدة... سأُصدم كثيراً إذا ما حصل تغيير مفاجئ. أضف إلى ذلك تقدُّم ترمب الكبير في استطلاعات الرأي بشأن الانتخابات التمهيدية، بالتالي تظهر لنا البيانات أنه لا يزال يتمتع بتعاطف شعبي، وهذا لن يتأثر على الأرجح بقرار الاتهام".

يصعب تخيل أن الجدل الذي يثيره ترمب قد ينحسر أو أن الاستقطاب الحزبي الغاضب المحيط به قد يخمد قريباً. على العكس، فقد كشفت القضية التي رفعها براغ النقاب عن كل التصدعات الكبرى في السياسة الأميركية.

على الجانب الجمهوري، فاقمت القضية ارتياب الجمهوريين من استغلال ليبراليي "الدولة العميقة" نفوذهم الحكومي ليعاقبوا خصومهم السياسيين، كما زادت مخاوف المحافظين غير المؤيدين لتيار ترمب من أن يحمل سياسي فاسد لواء الحزب، ما يهدد بتعريض الحزب الجمهوري لخيبة أمل أخرى في صناديق الاقتراع في العام المقبل.

أدت القضية أيضاً إلى زيادة كراهية ترمب في صفوف الديمقراطيين والتشكيك في حياد إدارة بايدن وإضعاف الثقة الضئيلة أصلاً بالحكومة.

فوق كلّ شيء، أدت إلى تدهور إضافي في النسيج الاجتماعي لأمّة تبدو عاجزة عن تجاوز الأضرار الناجمة عن الجدل اللامتناهي الذي أثاره رئيسها السابق، الذي قد يعود ليصبح رئيسها المقبل رغم كل شيء.

الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن ترمب نفسه لن يسهّل الأمور على أحد. في الماضي، كان قرار الاتهام ليقضي على الحياة السياسية لأي سياسي، لكن في هذه الحالة كلّ ما يفعله هو تأكيد حبكة الانتخابات المقبلة: دونالد ترمب في مواجهة الجميع، ومستقبل البلاد على المحكّ.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك