كانت جيسي درابر، الشريكة المؤسِسة لشركة "هالوجين فنشرز" (Halogen Ventures)، تتأهب لتُقيم حفل عشاء دعت إليه ممثلين عن "سيليكون فالي بنك" (Silicon Valley Bank) حتى فوجئت بانهيار المصرف في 9 مارس.
كان العشاء الذي كانت تخطط له درابر مع شخص ذي علاقة بالمصرف، يهدف لجمع نحو 24 سيدة أعمال يدخلن الاستثمار الجريء لأول مرة، كان مناسبة مثالية لدفع آلة إنشاء الشركات الناشئة بدعم من رأس المال الجريء، وهو النوع الذي اشتهر البنك بالمساعدة في ترتيبه.
لم يكن "سيليكون فالي بنك" مجرد وجهة للشركات الناشئة وشركات رأس المال الجريء ليودعوا فيه أموالهم فحسب، بل كان مقرضاً ومستثمراً وعميلاً ومستشاراً مالياً شخصياً ومؤسسةً تساعد في التوظيف ووسيطاً بين الأشخاص والمؤسسات التي تشكل قطاع الشركات الناشئة.
رغم أن بوادر المتاعب كانت تتفاعل على مدى عام، إلا أن انهيار المصرف المفاجئ بدا وكأنه صدمة حادة أفجعت أبناء هذه الصناعة. لكن ربما تكون أيام الازدهار، التي كانت الصناعة بأكملها تنعم بها حين كانت درابر في سن المراهقة، قد ولّت. قالت: "الأمر كما لو أن أحداً ألقى بقنبلة على قطاع التقنية، فماذا عسانا أن نفعل الآن؟".
الأزمة المُلحّة التي أطاحت بالمصرف قد انقضت على الأغلب، فقد ضمنت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع في غضون أيام من سيطرتها على جميع ودائع المصرف، ما ترتب عليه فعلياً رفع سقف التأمين البالغ 250 ألف دولار إلى مستوى فلكي.
أعلنت المؤسسة في 26 مارس أن "فيرست سيتيزنز بانك شيرز" (First Citizens BancShares) وافق على شراء المصرف، بودائع قيمتها 56 مليار دولار ووافق على تشغيل 17 فرعاً قديماً يحمل العلامة التجارية "سيليكون فالي بنك، أحد فروع فيرست سيتيزنز".
السيناريوهات الكارثية التي انتشرت في البداية عبر منصات البودكاست والدردشات الجماعية في وادي السيليكون، بأن الاحتياطيات النقدية لآلاف الشركات الناشئة والشركات الاستثمارية تبخرت، وما تبع ذلك من سلسلة إغلاقات الشركات وجيل من الابتكارات المهدرة، كل ذلك لم يمرّ مرور الكرام. ستستمر أصداء الأزمة بالتفاعل في المستقبل المنظور.
ثقة مخادِعة
يعتقد بن ماثيوز، الشريك العام في "نايت فنشرز" (Night Ventures)، أن أصحاب رؤوس الأموال الجريئة دائماً ما يرون أنهم سيكونون رابحين. قال: "كل من يقوم بهذه المهمة هو مفرط بشدة في الثقة. عليك أن تكون كذلك إذا كنت تريد النجاح".
بعدما انقضى عام 2022 القاسي، انتابت المستثمرين حالة حماس هذا الربيع بشأن تحوّل الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى أمر كبير في المستقبل، إلى أن حلّت أزمة "سيليكون فالي بنك" وهزت معنويات الناس ودفعتهم لتقبل استمرار حدة الانكماش في قطاع التقنية والاعتراف بأن التحديات الأساسية التي تصاحب نهاية الأموال السهلة لم تنقض. قال ماثيوز: "إنه سكون ما قبل العاصفة. سينفد النقد لدى كثير من الناس في يونيو".
يتعين النظر إلى أنَّ انهيار "سيليكون فالي بنك" ليس نتيجة مشاكل صناعة رأس المال الجريء، ولكن باعتباره عَرَضاً. نجح نموذج "سيليكون فالي بنك" لفترة طويلة كمصرف آمن وثابت لعالم شركات التقنية الناشئة المدعومة من رأس المال الجريء.
جمعت شركات رأس المال الجريء في الولايات المتحدة 163 مليار دولار للاستثمار في الشركات الناشئة في 2022، أي ما يعادل سبعة أضعاف المبلغ الذي جُمع قبل عقد، وفقاً للجمعية الوطنية لرأس المال الجريء.
كل هذه الأموال ما تزال موجّهة إلى الشركات الناشئة، لكن أصحاب رأس المال الجريء تأخروا في الاستثمار وهم يحاولون تفسير علامات المتاعب في الاقتصاد. شمل عملاء "سيليكون فالي بنك" نحو نصف الشركات الأميركية الناشئة في مجال التقنية وعلوم الحياة وتقريباً كل شركاتها البالغ عددها 1000 شركة رأس مال جريء.
السيولة التي اجتاحت منظومة هذه الشركات جاءت وليدة فترة غير مسبوقة لأسعار الفائدة المنخفضة التي سادت منذ أزمة 2008 المالية. كان على صناديق التقاعد والأوقاف وغيرها من تجمعات الأموال المؤسسية الكبيرة التي واجهت عوائد تافهة من الاستثمارات الأكثر أماناً، أن تبحث عن أدوات مالية من شأنها تحقيق أرباح أعلى.
كان يصعب عليها أن تقاوم إغراء رأس المال الجريء، الذي أسبغ مكاسب غير متوقعة من خلال دعم شركات ناشئة تحوّلت إلى شركات عملاقة، مثل "ألفابت" و"ميتا بلاتفورمز"، خاصةً حين بدا دائماً أن محصولها التالي يوشك أن ينتج حفنة شركات تغير العالم.
هدم الديناميكيات
تساهم زيادة أسعار الفائدة، بهدف كبح التضخم في عصر "كوفيد" والحرب في أوكرانيا، في هدم تلك التفاعلات بجميع أنواعها. كان السبب المباشر لمشاكل "سيليكون فالي بنك" هو قراره المتحفظ على ما يبدو بالاستثمار بكثافة في سندات الخزانة لأجل 10 سنوات.
لقد تحوّل العائد المنخفض على تلك السندات إلى التزام مع ارتفاع أسعار الفائدة، وكان على المصرف دفع معدلات أعلى للمودعين، وهبط سعر السوق للسندات ذات معدلات الفائدة المنخفضة.
كانت الشركات الناشئة، التي تجابه صعوبة في جمع تمويلات جديدة وتواجه في كثير من الأحيان تكاليف تشغيلية أعلى، تنفق أموالاً أقل، ما يؤدي لاستنزاف الأموال من "سيليكون فالي بنك".
تكبد المصرف خسائر استناداً للقيمة السوقية للأوراق المالية المحتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق تجاوزت 15 مليار دولار في نهاية 2022، وهو ما يقل قليلاً عن قاعدة حقوق الملكية البالغة 16.2 مليار دولار، وفقاً لإيداع فبراير.
سرعان ما انتشر الذعر بمجرد أن أدرك الناس في قطاع التقنية الموقف، ما أدى إلى التدافع إلى السحوبات من المصرف.
كذلك أدى ارتفاع أسعار الفائدة لإضعاف صناعة العملات المشفرة، وتباطؤ الطلب على الخدمات التي يبيعها عدد من الشركات الناشئة، وساهم بتسريح العمالة بشركات التقنية الكبيرة.
رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الفائدة مجدداً في 22 مارس، سعياً لموازنة الحاجة إلى وقف التضخم مقابل المخاوف بشأن انتشار عدوى انهيار "سيليكون فالي بنك" وتحول ذلك لأزمة أوسع نطاقاً، رغم أنه كان قد أشار من قبل إلى أن سلسلة الزيادات تشارف على نهايتها. سيستمر هذا في إجهاد كل من شركات رأس المال الجريء والشركات الناشئة التي تستثمر فيها، مع عواقب لا أحد يعرف مداها.
قال فيل هاسليت، المؤسس المشارك في "إيكويتي زين" (EquityZen)، وهي منصة عبر الإنترنت يتداول فيها العملاء أسهم الشركات الناشئة قبل طرحها للاكتتاب العام، إن أصحاب رؤوس الأموال الجريئة الحذرين يستغرقون وقتاً أطول لإتمام الصفقات ويتريثون في الفحوصات النافية للجهالة إزاء الشركات الناشئة على نحو لم يفعلوه من قبل.
قال إن هذه الشركات نفسها تركز أيضاً على محاولة ضمان أن استثماراتها الحالية تؤتي ثمارها بدل الخوض في استثمارات جديدة.
واقع مرير
يتوقع هاسليت أن الشركات الناشئة التي كانت تتحين شروطاً أكثر ملاءمةً على الاستثمارات الجديدة توشك أن تقبل بالأمر الواقع، وستُضطر لجني الأموال بشروط أقل جاذبية. سيعني هذا في كثير من الحالات قبول تقييمات أقل مما تلقته في جولات جمع الأموال سابقاً، وهي صفقات تُعرف باسم "الجولات الهابطة" التي كانت تقليدياً تعني أن الشركة الناشئة في مأزق.
كانت الأسهم المتداولة في "إيكويتي زين" خلال النصف الثاني من 2022 تُقيّم عند أقل من نصف قيمتها السابقة. قال هاسليت إنه كانت هناك علامات على أن الأمور كانت تتغير في وقت مبكر من هذا العام، لكن بعد ذلك "جاء انهيار (سيليكون فالي بنك) فتبدد التفاؤل".
قال جون نوردن، المؤسس المشارك في "جيه فنشرز" (J Ventures)، وهي شركة صغيرة تركز على الشركات الناشئة في المراحل المبكرة، إنه قلق من أنه قد يدخل "طريقاً بلا غاية" إن استثمر في شركات ناشئة تواجه بعد ذلك صعوبة في الحصول على جولات تمويل مستقبلية من مستثمرين أكبر حجماً.
حتى لو اختارت شركته الشركات الناشئة المناسبة، كما يقول، فلن تنجح إذا انهارت بيئة الاستثمار الأوسع. أحد الأمثلة التشاؤمية لذلك، كان عندما توصل نوردن إلى اتفاق لتوظيف مديرة تنفيذية من شركة تقنية مطروحة للتداول العام لتشغل منصباً كبيراً في إحدى الشركات الناشئة المدعومة من شركة "جيه فنشرز"، ثمّ تراجعت حين رأت ما حدث في "سيليكون فالي بنك". قال: "كانت واضحة عندما قالت إن السوق بأكمله قد تغيّر. ولم ترغب بأن تخاطر".
يمكن أن تؤدي فترة طويلة من ارتفاع أسعار الفائدة أيضاً إلى تغيير الحسابات لدى المستثمرين المؤسسيين الذين تعتمد عليهم شركات رأس المال الجريء في الحصول على رؤوس أموالها، ما يؤثر على أنواع الشركات التي تدعمها.
تمكّنت صناعة رأس المال الجريء في 2022 من جمع أموال أكثر من العام السابق، لكن عدد الشركات التي جمعت الأموال انخفض إلى مستويات ما قبل "كوفيد"، وهو مؤشر على أن الشركات الصغيرة التي ليس لها سجل حافل بالنجاح تواجه عدم يقين متزايد، حسب رأي مايلي غافيت، الرئيس التنفيذي لشركة "تيك ستارز" (Techstars)، التي تستثمر في المرحلة المبكرة لدعم أكثر من 3500 شركة ناشئة وعملت مع 24 ألف شركة رأس مال جريء.
شركات رأس المال الجريء التي لا تتمكّن من جمع أموال جديدة ستغلق في النهاية، أو ببساطة تنفق أموالها المتبقية وتدخل في حالة سبات. قال غافيت: "عبارات التبرير السحرية كانت من أمثال: سأركّز على عائلتي أو سأركّز على الصندوق الذي أملكه. كانت هذه هي طريقتهم في تبرير عدم جمع الأموال مرة أخرى. هناك عدد متزايد من الصناديق التي لا تدخل في أي شيء جديد، ليسوا موتى بل أحياء أموات".