منجم فحم "مورانبا نورث" التابع لشركة "أنغلو أميركان" (Anglo American) من بين أكبر مصادر التلوث البيئي في أستراليا، لكنه في ذات الوقت موضع إشادة في قطاع الوقود الأحفوري لأنه قد يصبح نموذجاً يحتذى للحفاظ على المناخ.
تعمل "أنغلو"، التي تتخذ في لندن مقراً، على تقليص أكثر أنواع الانبعاثات إشكالية من هذا المنجم ومنجمين آخرين عبر احتجاز غاز الميثان، وهو أحد الغازات الدفيئة الأشد تأثيراً من ثاني أكسيد الكربون، من مكامن الفحم في جوف الأرض عبر سلسلة مسارب وشبكات أنابيب، ومن ثمّ تزوّد المنازل والشركات المجاورة بهذا الوقود وتستخدمه لإنتاج الكهرباء.
يُعَدّ هذا مثالاً استثنائياً لشركة مناجم فحم تنجح في تطبيق تقنية يتمسك بها دعاة الجهود المناخية الأسرع بصفتها ضرورة للمساعدة على معالجة مصدر رئيسي لاحترار الكوكب.
أستراليا، التي تهيمن على إمدادات الفحم الحجري، واحدة من أكثر من 100 دولة وقّعت اتفاقية تتعهد بخفض انبعاثات غاز الميثان العالمية بما لا يقل عن 30% دون مستويات 2020 بحلول 2030.
سيتعين عليها لتحقيق هذا الهدف إيجاد طريقة للحد من انبعاث الميثان من مناجم الفحم، الذي يمثل نسبة متزايدة تقترب من ثلث إجمالي انبعاثات الميثان في البلاد.
تقدر "أنغلو" أنها تلتقط ما يزيد قليلاً على 42% من غاز الميثان الذي كان سيتسرب من مناجمها، وهي ترى في هذا النهج وسيلة لجعل استخدام الفحم أكثر قبولاً لدى العملاء والمستثمرين المهتمين بالمناخ.
قال دانيل فان دير ويستويزن، الرئيس التنفيذي للعمليات الأسترالية في "أنغلو": "إذا كنت تعتقد أن في صناعة الفحم الحجري عماد إنتاج الصلب مستقبلاً طويل الأجل، ونحن نعتقد ذلك، فإننا نؤمن بشكل أساسي أنه يتعين علينا أن نكون مشغِّلاً مسؤولاً لتلك الأصول... نعتقد أن ما نقوم به هنا عمل ريادي".
مناجم الفحم هي مصادر انبعاث رئيسية للميثان، وهو من الغازات الدفيئة الأقوى بنحو 80 مرة مقارنة بثاني أكسيد الكربون على مدى 20 عاماً. تنخفض هذه النسبة إلى نحو 30 ضعفاً بمضي أكثر من 100 عام لأن الميثان لا يدوم طويلاً في الغلاف الجوي. الميثان مسؤول عما يقرب من ثلث الارتفاع في درجات الحرارة عالمياً منذ الثورة الصناعية، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
نقص الاستثمارات يهدد خطط أستراليا الطموحة للهيدروجين
أقل تلويثاً
بلغ حجم تسريبات الميثان إلى الغلاف الجوي من مناجم الفحم على مستوى العالم 40 مليون طن العام الماضي، حسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية. في أستراليا، أكبر مصدري الفحم المعدني أو "فحم الكوك" المستخدم في صناعة الصلب، ينبعث من المناجم نحو 1.7 مليون طن سنوياً، وفقاً للوكالة.
عند حساب كل من الفحم المعدني والحراري المستخدم في إنتاج الطاقة، فإن أستراليا هي أكبر مصدر للفحم بعد إندونيسيا. رغم أن التقاط الميثان من مناجم الفحم وإحراقه ينتجان انبعاثات كربونية، فإنه أقل ضرراً على المناخ من تركه يتسرب إلى الجو.
لا تفرض أستراليا على الشركات التقاط انبعاثات غاز الميثان أو تخفيفها، لكن هذا قد يتغير قريباً. تقضي سياسة يناقشها البرلمان بإلزام شركات المناجم بذل مزيد من الجهود للحدّ من الانبعاثات.
في الاتحاد الأوروبي، تشمل قواعد الميثان الجديدة التخلص التدريجي من الحرق والتسريب في مناجم الفحم الذي يتجاوز مستويات معينة، ومطالبة المناجم بقياس الانبعاثات والإبلاغ عنها.
الصين هي المسؤولة عن نصف انبعاثات الميثان العالمية من مناجم الفحم، وليس لديها سياسة للحد منها، رغم أن الحكومة في بكين تقول إنها تعد لذلك.
بدأت "أنغلو" التقاط الميثان لأول مرة في 2006 بغرض تحسين إجراءات السلامة في منجم فحم "جيرمان كريك" (German Creek) التابع لها في وسط كوينزلاند، وامتدت هذه الممارسة إلى "مورانبا نورث" في 2008 و"غروفنر" (Grosvenor) في 2016.
تُفاقِم المستويات العالية الجوفية من الغاز خطر وقوع انفجارات، فقد أدى انفجار شديد ناتج عن الميثان في منجم "غروفنر" في 2020 إلى إصابة خمسة عمال بحروق شديدة. أصبح التقاط الميثان إحدى الركائز الأساسية لسياسات الشركة البيئية، إذ تعتزم خفض الانبعاثات المباشرة من عملياتها إلى الصفر بحلول 2040.
سياسة المناخ الجديدة تعيد تشكيل الاقتصاد الأسترالي
يُجمَع الميثان في منجم "مورانبا نورث" في شمال شرق كوينزلاند باستمرار في أثناء التنقيب في المنجم. في كل مرة تستعد فيها "أنغلو" لفتح منطقة جديدة من الموقع، تحفر معدات احتجاز الميثان في قاع طبقة الفحم لتسحب بقايا الماء وتجمع الغاز في أثناء تسربه.
يُباع الغاز عالي الجودة الذي يحتجز في السوق المحلية مبدئياً، فيما يُستخرج الغاز منخفض الجودة في وقت لاحق من العملية، وهو يحتوي أيضاً على النيتروجين وثاني أكسيد الكربون وغازات أخرى، وتستخدمه شركة "إي دي إل" (EDL) لتشغيل منشأة قريبة لتوليد الكهرباء تعمل على مدار الساعة.
يُنتِج الغاز المنبعث من هذا المنجم ومن منجمين آخرين تمتلكهما "أنغلو" ما يكفي من الكهرباء لتزويد نحو 100 ألف منزل.
فحم لتوليد الكهرباء
في أستراليا، تستخدم شركة "غلينكور" (Glencore) الميثان أيضاً من مناجم الفحم تحت الأرض لتوليد الكهرباء، رغم أنها تشغّل أيضاً مواقع مفتوحة لا تتيح مثل هذا التخفيف، فيما في فرنسا أنتجت شركة "فرانسيز دي لإنرجي" (Française De l'Énergie) نموذجاً تجارياً من احتجاز الميثان من مناجم الفحم المهجورة.
تقدر "أنغلو" أن عملياتها لاحتجاز الميثان في أستراليا تمنع إطلاق نحو 5.5 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وهو مقياس يُستخدم لمقارنة الغازات الدفيئة المختلفة. كما تقول "أنغلو" إنها تدرس إمكانية احتجاز الميثان في منجميها السطحيين، أو ما يسمى العمليات "المفتوحة"، إلا أنها لم تلزم نفسها هذا.
استهلاك الفحم يتجه إلى تحقيق رقم قياسي جديد هذا العام
تقول "غلينكور" إنها خفّضت انبعاثات الميثان بما يعادل 38 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون منذ 2010 عبر تحويلها إلى كهرباء، أو عن طريق حرق الغاز الصادر من مناجمها العميقة.
كما أعلنت مجموعة "بي إتش بي" (BHP Group) إنها تحتجز بعضاً من الميثان في مناجم الفحم تحت الأرض في أستراليا، لكنها لم تقدم تفاصيل عن حجم خفض الانبعاثات. لا تلتقط أي من عملاقتي التعدين الميثان من مناجم مفتوحة، لكنهما تقولان إنهما تدرسان إمكانات ذلك، شأنهما في ذلك شأن "أنغلو".
نحو 80% من مناجم الفحم في أستراليا مفتوحة، وفقاً لأرقام حكومية. يُمكن التقاط بعض الميثان من المناجم السطحية عبر سحبه من مكمن الفحم قبل بدء الاستخراج، لكن نظراً إلى أن خطر الانفجار يكون ضئيلاً في العمليات المفتوحة، فإن شركات المناجم الأسترالية لا تتجشم عناء ذلك زمناً أو تكلفة.
لا يكون احتجاز الميثان سهلاً حين يبدأ نبش منجم مفتوح. قالت كل من "بي إتش بي" و"غلينكور" إنه لا توجد تقنية تجارية حتى الآن لالتقاط الميثان الذي يتسرب من منجم سطحي، المعروف باسم الانبعاثات المتسربة، في أثناء التنقيب.
قالت "بي إتش بي" في تقرير تغير المناخ لعام 2020 إنها تتعاون مع باحثين لتقييم جدوى استخدام البكتيريا الآكلة للميثان مرشحاً بيولوجياً للحد من غاز الميثان في مناجم الفحم الجوفية والمفتوحة.
مشكلات ثانوية
حتى في منجم تحت الأرض، لا يخلو التقاط الميثان من بعض المشكلات الثانوية، فقد رصدت وحدة الاستشعار "إي إم آي تي" (EMIT) التابعة لـ"ناسا"، على متن محطة الفضاء الدولية، سحابة كبيرة من غازات الاحتباس الحراري في 19 يناير قرب منجم الفحم "غراستري" (Grasstree) التابع لـ"أنغلو" تحت الأرض في كوينزلاند، وفقاً للبيانات المعلنة.
قالت الشركة إنه كان هناك انبعاث "ثانوي" في اليوم السابق من محطة توليد الطاقة التي تعمل بالغاز في الموقع، لكنها رفضت تحديد كمية الانبعاثات.
العالم يحتاج إلى إنفاق 110 مليارات دولار سنوياً لتخفيض انبعاث غاز الميثان
إحدى طرق البدء في معالجة مشكلة الميثان في قطاع الفحم هي إجبار المناجم الأكثر إطلاقاً للملوثات على الإغلاق، لكن ذلك سيواجه مقاومة في أستراليا، إذ تشكّل هذه الصناعة جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد والثقافة والسياسة.
لقد قضت محاولات تنظيم الفحم أو إغلاق المناجم على المستقبل السياسي لعدد من الساسة في ما مضى. هناك مشكلة رئيسية أخرى، وهي أنه على عكس توليد الكهرباء، حيث يوجد عديد من بدائل الفحم الأقل تلويثاً، لم تُطوَّر بدائل الوقود المستخدم في صناعة الصلب بالكامل بعد، في ما يُعَدّ الصلب مادة أساسية لتوربينات الرياح والمركبات الكهربائية وشبكات الكهرباء المطلوبة لإزالة الكربون.
قد تستغرق ابتكارات مثل استخدام الهيدروجين بدلاً من الفحم المعدني عقوداً قبل أن تُطبّق على نطاق تجاري حقيقي.
نهج سليم
تقول "إمبر" (Ember)، وهي مجموعة أبحاث مناخية غير ربحية مقرها في لندن، إن "أنغلو" تتبع النهج الصحيح في مناجم الفحم تحت الأرض، وإن التقاط غاز الميثان يجب تعميمه في هذه الصناعة، بما في ذلك سحب الغاز قبل أن تبدأ المناجم المفتوحة الجديدة عملياتها.
تتوقع "إمبر" أن تنخفض انبعاثات مناجم الفحم في أستراليا إلى النصف تقريباً بحلول 2030 من خلال التقاط الميثان في مواقع أخرى تحت الأرض، بتكلفة سنوية تبلغ 500 مليون دولار أسترالي (337 مليون دولار).
قالت أنيكا رينولدز، مستشارة في سياسة المناخ لدى "إمبر": "نعتبر الميثان الناتج من مناجم الفحم مكسباً سهلاً، فهو يمنحنا مزيداً من الوقت لمعالجة القطاعات التي يصعب التخفيف فيها، مثل الزراعة"، وترى أنه لن يتحقق شيء دون سياسات جريئة.
تحاول حكومة حزب العمال الأسترالية، التي وصلت إلى السلطة في مايو 2022، أن تسنّ قانوناً يجبر أكثر الشركات إصداراً للانبعاثات على شراء ما يعوض عن انبعاثات الكربون إذا تجاوزت انبعاثاتها مستوى معيناً.
قالت رينولدز إنّ هذا ليس نهجاً مناسباً لتخفيف الميثان المنبعث من مناجم الفحم، وإنّ تعويضات الكربون تعتمد على زراعة الأشجار أو غيرها من الأساليب القائمة على الطبيعة، وهي تستغرق وقتاً طويلاً لسحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، كما أن الميثان المنبعث من مناجم الفحم له عمر أقصر وتأثير أعلى من الكربون.
تقترح رينولدز اتباع سياسة مخصصة للتعامل مع الميثان، وترى أنه يجب حظر مناجم الفحم الجديدة، لكن الحكومة قد قررت أنها لن تعمد إلى ذلك. بيّنت رينولدز أنه يمكن النظر إلى الاستثمار الإلزامي في تخفيف انبعاث الميثان في المواقع الحالية على أنه فرصة وليس على أنه إضافة تكلفة.
قالت: "ستكون نتيجة هذا التنظيم استثماراً كبيراً في المجتمعات المعتمدة على مناجم الفحم، إنه تقريباً مكسب للجميع".