إن نظرت إلى فترات الركود في الولايات المتحدة على مدى خمسة عقود خلت سيصعب عليك ألا تتساءل عما إذا كان ”سيليكون فالي بنك“ يمثل قشرة الموز التي سينزلق بسببها الاقتصاد المهتز.
حين يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، كما هو الحال الآن؛ فإنَّ الركود يصبح تهديداً قائماً، ويميل الانحدار عادة للبدء فجأة بعد أن تضرب الثقة صدمة غير متوقَّعة في زمن ضعف.
قال بيتر هوبر، رئيس الأبحاث الاقتصادية العالمية في ”دويتشه بنك“: ”حين يجتمع سعي الاحتياطي الفيدرالي لإبطاء الأمور كي يتعامل مع التضخم مع التشديد في الأوضاع المالية ومع الضغوط؛ ستشهد بعض التصدع".
أحياناً تقلب ضربة خارجية الاقتصاد المتباطئ، كما حدث في 1990 عندما ارتفعت أسعار النفط كرد فعل على غزو العراق للكويت، فأفسدت آمال رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان غرينسبان في تحقيق هبوط سلس.
يكشف ارتفاع الفائدة في كثير من الأحيان عن نقاط ضعف خفية، خاصة بعد فترة من المال السهل أو التخفيف التنظيمي في القطاع المالي. إذ تتعرض القطاعات ذات الرافعة المالية المفرطة وصناديق الاستثمار ذات الانكشاف شديد التركّز أو البنوك ذات المخاطر الكبيرة، لانكشاف كما ينكشف الشاطئ حين ينحسر المد.
تاريخ يتشابه
كان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بول فولكر في أوائل الثمانينيات يخوض معركته الأسطورية ضد التضخم، وقد أدى ذلك لانهيار ”كونتيننتال إلينوي بنك آند ترست“ (Continental Illinois National Bank and Trust)، الذي كان في حينها سابع أكبر بنك تجاري في الولايات المتحدة.
هنا حالتان كشفت فيهما سلسلة ارتفاعات في أسعار الفائدة عن تصدعات اتسعت لتتحول إلى انكماش كامل. أدى انفجار ما يسمى بفقاعة الدوت كوم في 2001 إلى ركود اقتصادي، وبعده بسبع سنوات أدى فرط استدانة قطاع الإسكان إلى انهيار "بير ستيرنز" و"ليمان براذرز". في كلتا الحالتين حولت سلسلة سريعة من الأحداث الحذر من تباطؤ النمو إلى خوف أعمق مما قد يحدث بعد ذلك. انسحب المستثمرون والمقرضون في جميع القطاعات إلى بر الأمان، وانحسر المستهلكون، وبدأ أرباب العمل بالتخلص من الموظفين.
أزمة المصارف لا ينبغي أن تثني "الفيدرالي" عن رفع الفائدة
قال ديفيد ويلكوكس، مدير الأبحاث الاقتصادية الأمريكية في "بلومبرغ إيكونوميكس" ومدير قسم سابق في بنك الاحتياطي الفيدرالي: ”هناك هشاشة في الاقتصاد الكلي للولايات المتحدة ليست مفهومة جيداً، لكنَّها تبدو جلية للعيان حين يتباطأ الاقتصاد إلى سرعة تشابه المشي على الأقدام“.
قول ويلكوكس يسهل رؤية أنَّه عندما تتراجع الثقة بشكل مفاجئ، تميل البطالة إلى الارتفاع بشدة. قفز معدل البطالة إلى 10% في أكتوبر 2009 من
%4.4 فقط في منتصف 2007 بسبب تداعيات الأزمة المالية العالمية. كما أنَّ الركود المعتدل نسبياً في 2001 دفع البطالة إلى 5.7% من 3.9% خلال تلك السنة، واستمر في الارتفاع حتى بلغ ذروته عند 6.3% في منتصف 2003.
يتساءل كثيرون الآن عما إذا كان انهيار ”سيليكون فالي بنك“ بالإضافة إلى مصرفين آخرين هذا الشهر سيدفع الولايات المتحدة إلى الركود. يجيب الاقتصاديون حتى الآن بحذر: "ربما لا".
قواسم مشتركة
كانت البنوك الثلاثة، ”سيليكون فالي بنك“ و“سيغنيتشر بنك“ (Signature Bank) و“سيلفرغيت“ (Silvergate Bank)، التي أغلقت أبوابها في أوائل مارس غير عادية من ناحيتين متصلتين. إذ كان المقترضون والمودعون فيها يتركزون بشكل كبير في قطاع التقنية الذي توسع بسرعة كبيرة خلال الوباء، وبدأ بتسريح عاملين حتى عندما استمرت بقية القطاعات بتعيين موظفين.
بالإضافة إلى ذلك، اشترت البنوك الثلاثة سندات الخزانة الأميركية طويلة الأجل بكميات كبيرة، وهو رهان بدا آمناً بعد بدء الوباء حين خفض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً، وأشار إلى أنَّه سيبقيها على ذلك لفترة طويلة.
الجهات التنظيمية في أميركا تتجه نحو تفكيك "سيليكون فالي"
لكنَّ تسارع التضخم المفاجئ في 2021 و2022 أجبر الاحتياطي الفيدرالي على سلسلة زيادات شديدة في أسعار الفائدة، أدت لخفض قيمة سندات الخزانة طويلة الأجل.
كان السؤال الرئيسي الذي أعقب استيلاء المنظمين الفيدراليين على ”سيليكون فالي بنك“ هو ما إذا كانت مصارف أخرى قد تعرضت لمخاطر مماثلة. قرر المنظمون في 12 مارس أنَّ إجابة هذا السؤال ربما كانت "نعم" فتصرفوا بشكل استباقي لدرء سحوبات جماعية إضافية من البنوك عبر ضمان جميع الودائع غير المؤمنة في ”سيليكون فالي بنك“ و“سيغنيتشر“.
كما أنشأ الاحتياطي الفيدرالي مرفقاً للإقراض الطارئ، وخفف شروط نافذة الخصم لديه ليتيح النقد للبنوك بسهولة أكبر.
قلق من التبعات
كما ساعدت اللوائح التي فرضت بعد الأزمة المالية العالمية متطلبات رأس مال وسيولة أشد على أكبر البنوك العاملة في الولايات المتحدة، فقللت بقوة احتمالية ترنحها تحت الضغوط.
قال نيل شيرينغ، كبير الاقتصاديين في مجموعة "كابيتال إيكونوميكس": "هذه ليست لحظة بنك (ليمان)… إذا كانت هذه الأزمة ستنتهي غداً، فلن تكون هي الحدث الذي يتسبب بانزلاق الاقتصاد الأميركي الى ركود"، لكنَّ البنوك متوسطة الحجم ليست نقطة الاشتعال المحتملة الوحيدة. برغم عدم ارتباطها مباشرة بمشاكل البنوك الأميركية، فقد تخارج مستثمرون متوترون من أسهم وسندات مجموعة ”كريدي سويس“ في 15 مارس بعدما رفض المساهم الرئيسي فيها فكرة ضخ مزيد من النقد في العملاق المالي السويسري الذي كان يعاني منذ أمد طويل.
تشعر جوليا كورونادو، رئيسة ”ماكرو بوليسي بيرسبيكتيفز“ (MacroPolicy Perspectives) والخبيرة الاقتصادية السابقة في الاحتياطي الفيدرالي بقلق بالغ لأنَّ صناديق التقاعد وشركات التأمين والمستثمرين المؤسسيين الآخرين في السنوات الأخيرة، وجهوا حصة متزايدة من أموالهم نحو صناديق الملكية الخاصة التي استثمرت بكثافة في قطاع التقنية. قالت: "من الواضح أنَّها منطقة لا نعرف ما تخفي… لا أشعر بالثقة، ونحن نرقص على حافة الاستقرار المالي".
نظراً للرسالة القوية التي أرسلها المنظمون، قال ويلكوكس إنَّه "واثق إلى حد معقول" بشأن طمأنة المستثمرين والمودعين في البنوك، وإنَّ مخاطر العدوى سيُقضى عليها، ولن يتسبب هذا الحدث بركود. أضاف: "لكن يصعب أن تكون متأكداً تماماً بشأن أي شيء بمجرد ظهور صدع في الواجهة".