لم يستسلم رود بوركيت منهزماً بقدر ما كان ساخطاً على واقع الحال. فالرجل الذي زرع أشجار الزيتون في قلب الحزام الزراعي لولاية كاليفورنيا طيلة 30 عاماً، باع بساتينه أخيراً في 2022.
قال بوركيت، الرئيس السابق لمجلس مزارعي الزيتون في كاليفورنيا وأحد أوائل مؤيدي الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب على واردات الزيتون من إسبانيا: "لقد رفعت يديّ مستسلماً، فليذهب كل ذلك إلى الجحيم".
يعزو بوركيت هذا القرار إلى عدّة عوامل، منها ارتفاع أسعار الأسمدة وكلفة اليد العاملة وشحّ المياه والضرائب المرتفعة. إلا أن السبب الرئيسي الذي دفعه للتخلّي عن عمله كان إدراكه بأن المزارعين في دول أخرى، لا سيّما في إسبانيا، يزرعون الزيتون ويشحنونه ويبيعونه ليُقدّم على الموائد الأميركية بأسعار أقل بأشواط من نظرائهم الأميركيين. أضاف "كان القطاع عظيماً، لكنني لا أتوقع أن أرى أي نمو على المدى الطويل".
زيتون إسباني مدعوم
يعرض تراجع قطاع زراعة الزيتون في كاليفورنيا مثالاً عن السياسات الحمائية التي قد تأتي بنتائج عكسية وينجم عنها خاسرون على الطرفين، وهذا أمر لا بدّ أن تأخذه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الحسبان فيما يستعدان لخوض سباق جديد على الدعم الحكومي، يركز هذه المرة على أشباه الموصلات والمركبات الكهربائية.
يُزرع الزيتون في كاليفورنيا منذ القرن الثامن عشر، حين غرس مبشرون إسبان تلك الأشجار على امتداد 21 بعثة تبشير كاثوليكية بين سان دييغو وسان فرانسيسكو.
حالياً، ترتكز معظم زراعة الزيتون في منطقة سنترال فالي الممتدة بطول 650 كيلومتراً من الأراضي الخصبة بين ساحل المحيط الهادئ وسلسلة جبال سييرا نيفادا، وهي مصدر نحو نصف الفاكهة والخضار والمكسرات المزروعة في الولايات المتحدة.
اتضح في السنوات الماضية أن مزارعي زيتون المائدة في كاليفورنيا، أي النوع الذي يُستخدم في البيتزا والسلطة، عاجزون عن منافسة الزيتون المستورد زهيد الثمن من إسبانيا، أكبر منتج للزيتون في العالم.
إذ يزعم مسؤولون أميركيون أن حكومة إسبانيا تقدّم دعماً مخلّاً بالموازين التجارية للمزارعين الإسبان الذين يبيعون الزيتون إلى الولايات المتحدة بأدنى من سعر السوق.
زد على ذلك أن منتجي الزيتون في كاليفورنيا يقولون إن المزارعين الإسبان استفادوا أيضاً من تمويل حكومي للتحوّل نحو زراعة البساتين عالية الكثافة التي يمكن جني ثمارها بسرعة باستخدام آليات تهز الأغصان. إلا أن هذا التحوّل الذي يحتاج لرأس مال كبير يتطلب اقتلاع الأشجار القديمة وإعادة زراعة أشجار جديدة على مسافة متقاربة أكثر، ما قد يستغرق سبع سنوات لبلوغ مستوى الإنتاج التجاري.
كان باحثون في جامعة كاليفورنيا-ديفيس حذّروا قبل عقد بأنه في حال عدم تحديث قطاع زراعة الزيتون في الولاية بما يتيح استخدام آلات الجني "فما هي إلا مسألة وقت قبل أن يتوقف إنتاج زيتون المائدة في كاليفورنيا".
فرض رسوم جمركية
تفاقمت ضغوط التكاليف المترتبة على مزارعي كاليفورنيا بفعل ارتفاع أجور العمال وعقود من الجفاف وقيود صارمة على استهلاك المياه، فاضطرت مزارع عائلية كثيرة إلى اقتلاع أشجارها واستبدالها بمحاصيل أكثر إدراراً للربح، مثل اللوز والجوز.
قال بارت هيل، مزارع زيتون من الجيل الثاني في بايكرسفيلد: "فيما يرزح القطاع تحت مزيد من الضغوط وتتضاءل هوامش الربح، سنشهد مزيداً من التخلي عن زيتون المائدة للتوجه نحو محاصيل أخرى أو نحو مزارع الطاقة الشمسية... أكره التفكير بوضع ألواح شمسية على مثل هذه التربة الجميلة والخصبة في أفضل مناخ في العالم".
أُزيل نحو ثلثي مساحة بساتين زيتون المائدة في كاليفورنيا خلال العقدين الماضيين، لتنحسر من 145 كيلومتراً مربعاً في 2003 إلى 48 كيلومتراً مربعاً في 2022، حسب وزارة الزراعة الأميركية. في المقابل، تضم إسبانيا أكثر من 27 ألف كيلومتر مربع من بساتين الزيتون، نحو ألفي كيلومتر مربع منها مخصصة لزراعة زيتون المائدة.
تلقّى مزارعو الزيتون في كاليفورنيا بعض الدعم في 2018 حين فرض الرئيس ترمب رسوماً جمركية بمعدل 35.5% على زيتون المائدة الإسباني المستورد إلى الولايات المتحدة، والذي بلغت قيمته الإجمالية السنوية آنذاك نحو 70 مليون دولار.
وصفت أوروبا هذه الخطوة بصفعة من حليفتها لطول أمد، أمّا تبعات ذلك فظهرت على الفور، حيث تراجعت شحنات الزيتون القادمة من إسبانيا 72% في الشهرين الأولين من دخول الرسوم الجمركية حيز التنفيذ، حسب المفوضية الأوروبية.
أميركا تفرض ضرائب جديدة على الواردات الأوروبية
قالت سيسيليا مالمستروم، مفوضة التجارة في الاتحاد الأوروبي آنذاك، إن "الخلاف حول الزيتون كان صغيراً ولكنه مهم جداً لإسبانيا... لطالما نظرنا إلى الموضوع كمثال عن السياسات التي تحدث توترات في العلاقة التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا".
نزاع تجاري مع أوروبا
أتى القرار الأميركي بفرض الرسوم الجمركية بعد ضغوط من شركتي تصنيع الزيتون الناضج الوحيدتين المتبقيتين في أميركا، "بيل–كارتر فودز" (Bell-Carter Foods) و"مسكو فاميلي أوليف" (Musco Family Olive) على إدارة ترمب، محذرة من أن الزيتون الإسباني المدعوم يلحق ضرراً لا تعافي منه بالمنتجين الأميركيين.
قال تيم كارتر، رئيس "بيل–كارتر فودز" السابق: "السعر كان أقل بكثير ممّا كنّا قادرين على تقديمه في كاليفورنيا".
فيما مكّنت رسوم ترمب الجمركية مزارعي كاليفورنيا من الحفاظ على شيء من حصة في السوق، سرعان ما خرج النزاع التجاري عن السيطرة، فارتفعت تكاليف إنتاج زيتون المائدة على المزارعين على ضفتي الأطلسي. أفسح ذلك مجالاً لمصدّري زيتون المائدة اليونانيين الذي سارعوا لملء الفراغ في السوق الناجم عن تراجع الصادرات الإسبانية.
في البدء، أقنعت إسبانيا الاتحاد الأوروبي بالتقدم بشكوى أمام منظمة التجارة العالمية في جنيف، التي أصدرت حكماً يميل بشكل عام لصالح الاتحاد الأوروبي. عاد ترمب ليزيد الرسوم الجمركية على الزيتون الإسباني بنسبة 25% إضافية في 2019 في سياق النزاع التجاري بين ضفتي الأطلسي على خلفية الدعم الحكومي لشركتي صنع الطائرات "بوينغ" و"إيرباص". ردّت أوروبا بفرض رسوم جمركية من جانبها على سلع أميركية تُقدّر قيمتها بعشرات مليارات الدولارات، بما فيها زيتون المائدة الكاليفورني.
مآزق إدارة بايدن
بعد تولي الرئيس جو بايدن مقاليد الرئاسة في 2021، علّق العمل بالرسوم الجمركية التي كانت قد فُرضت على بضائع بقيمة 11.5 مليار دولار من التجارة بين ضفتي الأطلسي، كما جمّد النزاع بين "بوينغ" و"إيرباص" في سياق مساع لتطبيع العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الرسوم الجمركية الأميركية على الزيتون بقيت رغم تخفيضها بشكل طفيف إلى 28.4% لأن المسؤولين الأميركيين ظلّوا يعتبرون أن إسبانيا تدعم مزارعيها الذين يغرقون السوق الأميركية بالزيتون.
اتفاق أميركي-أوروبي على تعليق رسوم جمركية بخصوص خلاف "بوينغ" و"إيرباص"
تعليقاً على ذلك، قال أنتونيو دي مورا، أمين عام الرابطة الإسبانية لمصدّري ومصنّعي زيتون الطاولة إن "موقف حكومة بايدن هو نفسه موقف حكومة ترمب، وهو لا يساعد إطلاقاً في الحفاظ على علاقات جيدة مع إسبانيا أو الاتحاد الأوروبي".
يقدّم هذا الخلاف حول زيتون المائدة الذي يمثّل أقل من 0.01% من إجمالي التدفق التجاري عبر الأطلسي عيّنة مصغرة عن المآزق التي يواجها بايدن، إذ تسعى إدارته لتوجيه سلاسل الإمداد نحو الدول الحليفة والصديقة في أوروبا بعيداً عن الصين وروسيا، فيما تعمل على وضع حدّ لخسارة الوظائف في الولايات المتحدة أو حتى لاستعادة الوظائف المفقودة نتيجة عقود من تحرير التجارة.
قالت مالمستروم، وهي حالياً زميلة عليا في معهد "بيترسون" للاقتصادات الدولية في واشنطن: "هذه القضية بالذات لا تساعد بايدن على إعادة التموضع في سياسته الأطلسية".
معركة مكلفة
قال ترمب يوماً إن "الحروب التجارية جيدة ويسهل الفوز فيها"، إلا أن الرابحين الحقيقيين في النزاع حول الزيتون كانوا جماعات الضغط والمحامين المتخصصين بالشؤون التجارية على ضفتي الأطلسي.
يقرّ المزارعون الإسبان بدفع أكثر من 8.5 مليون دولار بدل أتعاب قانونية من أجل عرض قضيتهم أمام الهيئات الناظمة في واشنطن وأعضاء لجان منظمة التجارة العالمية في جنيف.
حتى كارتر الذي ضغط شخصياً باتجاه تبني الرسوم الجمركية في 2017 يتساءل ما إذا كانت المعركة فعلاً تستحق العناء. قال: "كانت العملية مكلفة جداً للقطاع... نتحدث عن ملايين وملايين الدولارات، أتساءل لو كان يمكن إنفاق تلك الأموال على أمور أخرى".
وافق كارتر في العام الماضي على صفقة لبيع الشركة التي تمتلكها عائلتها منذ 100 سنة إلى شركة الزيتون الإسبانية الكبرى "أسيتوناس غوادالكيفير" (Aceitunas Guadalquivir) مقابل مبلغ لم يُكشف عنه.
قال كارتر: "مع فرض الرسوم الجمركية وتفشي الوباء، أصبح من الواضح لعائلتي أن الوقت حان على الأرجح للانسحاب... لم أعد في ساحة المعركة".