تسير شاحنات عملاقة عالية الهدير عابرة الطرقات السريعة متجهة إلى المستودعات أو آتية منها وهي تحمل بضائع العالم بأسره. كل ما ترى، سواءً كان ذلك الجهاز الذي تستخدمه لقراءة هذا التقرير أو طرداً من " أمازون" أو أثاث منزلك أو صندوق موز، لا بدّ أن كل ذلك أتاك في جوف شاحنة.
لكن هذا القطاع، الذي يبتلع كميات هائلة من الديزل، يفتقر بشدة للكفاءة ويشوبه فيض مشكلات ويقاوم عصا التقنية السحرية. تلك الشاحنات غالباً ما تكون فارغة لنحو خُمس ما تقطعه من مسافات، لدرجة أن هناك نكتة دارجة في هذا القطاع تتناول الكيلومترات المهدورة، إذ يقال إن أكثر سلعة تُشحن في العالم هي الهواء.
يعمل ماريوستز غرزس في مرآب صغير مزدحم بشاحنات القطر في ضواحي مدينة بوليسلافيتش قرب الطريق السريع (A4) في جنوب غرب بولندا ويبحث عن سبل لتقليص عدد الكيلومترات التي تقطعها شاحناته فارغة.
توسعت شركته، "ديمار- ترانس" (Demar-Trans)، فأصبح قوام أسطولها 28 شاحنة وأبرمت عقوداً لشحن شتى أنواع السلع، من مقاعد سيارات الأطفال إلى طعام الكلاب وأواني البلاستيك وغيرها من البضائع على امتداد أوروبا.
إلا أن إدارة عمليات الشحن تتطلب تعاملاً يومياً مرهقاً مع الطلبات الجديدة وتفاوضاً على الأسعار وتتبعاً الشحنات، وعادةً ما يكون ذلك عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف. بعد ذلك، يضطر غرزس لأن ينتظر وقتاً طويلاً قبل أن يتلقى دفعات فواتيره التي قد تستغرق ما يصل إلى ثلاثة أشهر، فيما يقع على عاتقه تغطية النفقات العامة.
جلس الرجل في بعد ظهر أحد أيام نوفمبر في مقرّ شركته المؤلف من أربعة مكاتب وقد أحاط به بضعة موظفين إداريين ومراسلين غارقين بالفواتير والجداول المطبوعة، وقال: "نواجه صعوبات في تلقي الدفعات في كل مرة".
أداة رقمية
أصبحت أعمال غرزس أسلس بعدما بدأ يتعاون مع "سيندر تكنولوجيز" (Sennder Technologies) في برلين، وهي شركة ناشئة متخصصة بتطوير أدوات رقمية تربط ما بين الشركات الراغبة بشحن بضائعها وشركات النقل بالشاحنات.
يجمع برنامج "سيندر" الإلكتروني ما بين سوق للشحن البري وتطبيق لإدارة أساطيل الشاحنات، وهو يعرض على الشركات العائلية الصغيرة قائمة طلبات نقل من شركات مثل "أنهوسير- بوش" (Anheuser-Busch) و"كوكا كولا" و"دانون"، تتيح لأصحاب مؤسسات مثل غرزس أن يحجزوا طلبية ليتولوا نقلها أو أن يقدموا عرضاً ليفوزوا بها.
تأتي أرباح "سيندر" من هامش بين ما تتقاضاه من شركات ترسل شحنات وما تدفعه هي للناقلات. زدّ على ذلك أن المنصة المجانية تقدّم خدمات لوجستية تساعد على أتمتة الأعمال الورقية وتحقيق الاستفادة القصوى من المسارات بحيث تكون هناك تسليمات من عدة نقاط متسلسلة ذهاباً ثم تحميلات من نفس النقاط إياباً.
بدأت "ديمار– ترانس" تستعين بـ"سيندر" في بداية 2021 وهي تعتمد الأن على برنامجها في ربع تعاملاتها. وصف غرزس البرنامج بأنه"المذهل"، مشيراً إلى خصائصه المحاسبية وإتاحته تلقي الدفعات سريعاً، إذ لا يستغرق تسديد الفواتير أكثر من أسبوع أو أسبوعين في العادة.
قد تبدو هذه المساعي باهتة مقارنة بالشاحنات ذاتية القيادة والكهربائية التي يعد إيلون ماسك ونظراؤه بأنها ستحدث ثورة في عالم الشحن، لكن ثمّة فجوة بحجم أسطول من الشاحنات بين طموحات شركات خليج سان فرانسيسكو والواقع على الأرض.
الحديث هنا يتناول قطاعاً كان يعتمد في الماضي على آلات الفاكس، واقتصر تطوره على الانتقال لاستعمال برنامج "إكسل" وللتواصل عبر موقع "كريغزليست". قال بالفيل كورول، وهو سائق شاحنة في لاتفيا يعمل لحسابه الخاص، مازحاً إنه قبل برنامج "سيندر"، كان يستعين بالإجمال بـ"تطبيقات من ورق".
أظهرت الفوضى التي عمّت في حقبة كورونا استحالة استمرار الطرق القديمة، كما أسهمت في استقطاب رأس المال الجريء، فيما هرعت الشركات المهيمنة على القطاع منذ زهاء قرن مثل "دي بي شينكر" (DB Schenker) و"كونا + ناغل انترناشونال" (Kuehne + Nagel International) لتبني التقنيات الحديثة قبل أن تلحق بالركب الشركات المنافسة الأكثر تخصصاً بالتقنية.
تُظهر بيانات شركة الأبحاث "بيتش بوك" (PitchBook) أن إجمالي التمويل الذي حصدته شركات التقنية الناشئة الناشطة في مجال سلاسل الإمداد بين 2020 و2022 بلغ 124 مليار دولار، أي نحو ضعفي المبلغ المسجل خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت مجتمعةً.
خدمات مشابهة لـ"أوبر"
ثمّة رهان بأنه آن أوان تبني قطاع الشحن البرّي لخدمات مشابهة لتلك التي توفرها "أوبر". إلا أن هذه المقارنة تسخّف في الواقع من التحديات المقبلة، فتنسيق حركة الشاحنات يختلف أيما اختلاف عن طلب سيارة أجرة.
بل إن "أوبر تكنولوجيز" وافقت في سادس أشهر انتشار الوباء على بيع ذراعها المعنية بالشاحنات في أوروبا إلى "سيندر"، رغم أنها كانت قد طورت منصة رقمية مخصصة للشركات الراغبة بشحن بضائعها ولشركات النقل، وذلك في صفقة لقاء أسهم قيّمت هذه الوحدة بـ900 مليون يورو.
قال ديفيد نوتاكير، المؤسس الشريك لـ"سيندر" ورئيسها التنفيذي الذي بلغ عمره 35 عاماً: "نموذجهم الأميركي لم يفلح في أوروبا... سنرى في مجال الشحن البرّي أن الشركات القارية ستسود ".
في الصين، تبدو "فول تراك ألاينس" (Full Truck Alliance) في الصدارة، وفي الولايات المتحدة، تتنافس شركتا "أوبر" و"كونفوي" (Convoy) على السوق، في حين كانت بلومبرغ نيوز قد كشفت في 8 مارس أن "أوبر" تفكر بالتخلص من بقية قسمها المتخصص بالشحن.
تجشمت "سيندر" عناءات تدل على مدى الفوضى المستشرية في هذا القطاع اللامركزي قبل أن تتمكن من بلوغ ما حققته من نجاح في الاتحاد الأوروبي. جمعت الشركة أكثر من 320 مليون يورو وارتفعت قيمتها لتجاوز مليار دولار، لكنها واجهت نكبات عديدة، منها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والحرب في أوكرانيا، زد على ذلك التشرذم الذي يعانيه القطاع وبغض تقليدي لدى بعض المستهلكين تجاه علامة تجارية ما.
ربما يبدو الاكتفاء بورقة وقلم أجدى في ظل كل هذه الظروف، إلا أن نوتاكير المتحدر من فرانكفورت وصاحب الشخصية العملية الذي يبدو واقعياً لأبعد الحدود، يرى في نجاح "سيندر" مؤشراً على أنها تسير على الدرب الصحيح.
قال: "نموذج الأعمال الذين نتبعه مقاوم للأزمات"، مشيراً إلى أن حاجة الناس لتلقي بضائعهم في أصعب الأوقات تزيد عمّا سواه، أضاف: "على الأقل هذا ما كان في الأزمات التي اختبرناها".
حوافز التحديث غائبة
كانت "سيندر" ثمرة مشروع جامعي في الواقع، فقد كان نوتاكير يدرس لينال درجة ماجستير في إدارة الأعمال من المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (إنسياد) قرب باريس حين راح يستطلع أفكار عدّة شركات بحثاً عن طرق لتعزيز تطبيق "بلا بلا كار" (BlaBlaCar) الفرنسي للنقل المشترك على متن سيارات خاصة.
رأى أنه بإمكان السيارات أن تحمل طروداً في صناديقها وعلى عوارض تُثبت على سقوفها فيما تسافر عبر خطوط برية مشتركة مقابل بعض المال، فأطلق موقعاً سماه "أوبربرينغر". لكنه سرعان ما أدرك أنه لا يمكن الاعتماد على السيارات بقدر شركات الشحن مثل "دي إتش أل" أو "يو بي أس"، وهي لا تنفع إلا لنقل أغراض كبيرة متخصصة مثل الآلات الموسيقية.
حاول بعدها نوتاكير وأحد زملائه في الجامعة أن ينقلوا أشياء في صناديق الحافلات، إلا أنهم أخفقوا في محاولتهم هذه أيضاً، فقد فشلت تجربة بالتعاون مع شركة حافلات ألمانية هي "فليكس باص" (FlixBus) بتأمين أي عميل تجاري في 2016. في نهاية المطاف، ترك زميل نوتاكير في الدراسة المشروع واتجه نحو العمل الاستشاري.
لكن في 2017، نجح نوتاكير بإقناع اثنين من أصدقائه العاملين في مجال الاستشارات، هما يوليوس كويهلير ونيكولوس شيفيناكير، بمساعدته على تأسيس شركة خدمات لوجستية تعتمد على صغير الحافلات والشاحنات.
عقد الثلاثي اجتماعات مع فرق الشحن المحلية في شركة "أمازون" وغيرها من شركات التجارة الإلكترونية، واستشفوا أنه لدى هذه الشركات حاجة ماسة لتسليم شحناتها في ذات يوم طلبها إلى مدن داخلية صغيرة.
تسيطر مؤسسات صغيرة لا يتجاوز عدد شاحناتها العشر على نحو 70% من إجمالي الشاحنات العاملة في أوروبا، ولا يمكن التواصل مع معظمها إلا بواسطة الهاتف أو البريد الإلكتروني. بالتالي، غالباً ما تعتمد الشركات الراغبة بشحن بضائعها على وسيط من طرف ثالث يكون صلة وصل مع شركات النقل، أمّا تسعيرته فتفتقر للشفافية ويكسب ربحه من غموض التسعير.
تعليقاً على ذلك، قال لودفيغ هوسمان، الشريك في شركة "ماكنزي أند كو" الذي يركز على العملاء في قطاع اللوجستيات: "ربما خسروا بعض الفعالية نتيجة امتناعهم عن الرقمنة، لكنهم استفادوا إلى حد كبير من الافتقار إلى الشفافية في السوق ومن استغلال عدم تكافؤ توافر المعلومات".
لم يكن لدى كبار وكلاء الشحن، من طراز "كونا + ناغل" التي تملك أساطيل ضخمة لكنها تعتمد على متعاقدين فرعيين، ما يكفي من حوافز لتحديث طروحاتها، إذ إن المساس ببنيتها التحتية التقليدية يهدد بالعبث مع شركاء مترسخين وأنظمة مساعدة معتمدة في مجالات التخزين والشحن الجوي والبحري.
كما أن الماضي كان له درس. حين فشلت مساعي "دوتشيه بوست" (Deutsche Post) في تحديث الهندسة التقنية لتابعها "دي إتش أل غلوبال فورووردينغ" (DHL Global Forwarding) في 2015، انتهى الأمر بأن خسرت الشركة الأم 345 مليون يورو وعادت بعد ذلك إلى النظام القديم.
متاعب السائقين
كان مؤسسا "سيندر" يتشاركان السكن في شقة صغيرة في برلين لا تتجاوز مساحتها 48 متراً مربعاً حين خطرت لهما فكرة تخطي الوسطاء، فأبرما اتفاقيات مع "أمازون" وشركة التجزئة المتخصصة بالأزياء "زولاندو" (Zalando) لتوصيل طرودهما في يوم الطلب نفسه، ثمّ بدآ يستميلان شركات النقل للعمل معهما.
اكتشفا في البداية كيفية أتمتة تتبع تسليم الطرود بواسطة نظام بسيط عبر الشبكة العنكبوتية، حيث تعيّن عليهم إدخال بيانات الشحن التي تزوّدهما بها شركات النقل مثل عدد شرحات النقل الخشبية وتأكيدات التحميل وأوقات الوصول وغيرها.
حصلت الشركة على استثمار أولي قوامه بضعة ملايين الدولارات في 2017 من صندوق "سكانيا غروث كابيتال" (Scania Growth Capital)، ذراع الاستثمارات الجريئة التابع لشركة صناعة المركبات السويدية الضخمة، فمنح ذلك "سيندر" نوعاً من الدعم، إلا أن جذب شركات النقل بقي يشكل تحدياً.
كان سائقو الشاحنات يحجزون نقلات ثم يتراجعون في اللحظة الأخيرة، ما هدد بإثارة استياء الشركات الراغبة بشحن البضائع. يتذكر نوتاكير كيف اضطر ومعه شيفيناكر في إحدى المرات لاستئجار شاحنة فان وهرعا في الحادية عشرة ليلاً ليستلما طلبية من إيرفورت على بعد أربع ساعات، ثم عادا إلى برلين لتسليم الشحنة ضمن الموعد المحدد عند الثالثة فجراً.
قال نوتاكير الذي كان يرتدي ملابس أنيقة لا تلائم العمل في مستودع: "سبق أن واجهنا مشكلات قبل بضعة أيام ولم يكن بوسعنا تحمّل مشكلات إضافية".
بدأ الرجلان في 2018 يركزان على شاحنات زنتها 40 طنّاً، أي تلك القاطرات والمقطورات التي نراها عادةً على الطرقات السريعة. وعد موقعهما الإلكتروني المتخصص بحجز خدمات النقل ذاتياً باستلام الشاحنة للطرود من المصدر في غضون ثلاث ساعات وإتاحة تتبع الشحنة بالوقت الفعلي، وهو أمر نادر في القطاع.
إلا أن إقناع السائقين بمشاركة بياناتهم لم يكن مهمةً سهلةً، فبعضهم كان يتخوف من استخدام نظام التعرف على المواقع العالمي أو يفضّل إرسال وثائق التوصيل بالبريد بدل تحميل صورها.
حاولت "سيندر" لاحقاً أن تزوّد السائقين بأجهزة "موتورولا" ذكية تأتي مع تطبيق أساسي مثبت بها، إلا أنهم غالباً ما كانوا يستبدلون شريحة الخطّ بشريحة خاصة بهم أو يفصلون بطارياتها حين يرغبون ألّا يُعرف مكانهم.
حتى أن الشركات التي كانوا يعملون لصالحها بدت مترددة بشأن تغيير الطرق القديمة التي تعتمدها. تفاجأ كويهلير غير مرة خلال تسويق البرنامج لشركة نقل بأنها زوّدت دورات المياه لديها بهواتف خطوط أرضية كي لا يفوّت الموظفون أي طلب نقل جديد.
كورونا وبريكست
مع ذلك، قفزت إيرادات "سيندر" 300% بين 2018 والعام التالي بعدما أثبتت اعتماديتها للشركات التي تريد شحن البضائع، فحصلت على مزيد من العقود السنوية وجذب ذلك مزيداً من شركات النقل. أصبح لدى "سيندر" بحلول منتصف 2019 أكثر من 7500 شاحنة مدرجة على منصتها. في ذلك العام أيضاً، زادت عدد موظفيها إلى 150 واستحصلت على 90 مليون دولار من مستثمرين، بينهم شركات مثل "أكسيل" (Accel) و"لايكستار" (Lakestar).
اختارت "سيندر" توقيتاً ملائماً فيما كانت شركات ناشئة عديدة في أوروبا تتسابق لحجز مكان لها في السوق المقدرة قيمتها بـ325 مليار يورو، ومنها "أوبر فريت" ومنافستها الباريسية ذات الشعبية الواسعة "إيفيرود" (Everoad).
اضطرت جميع تلك الشركات لإنفاق مبالغ طائلة لتستقطب الشركات التي تُرسل الشحنات. أمّا مفتاح نجاح الوافدين الجدد على القطاع فتمثّل باستخدام خوارزميات للتعرف على حمولات يمكن نقلها معاً للحدّ من عدد الكيلومترات بلا حمولة والخسائر المتأتية عن ذلك.
صُمّم نظام إدارة النقل من "سيندر" الذي يحمل اسم "أوركاس" (أي الحوت القاتل) بطريقة تتيح له تقدير أسعار الشحن لشركات النقل استناداً إلى الأسعار السابقة، لكن بعد الضربة المزدوجة حين انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتفشى وباء كورونا في 2020، لم تعد البيانات تتطابق مع الأوضاع السائدة على الأرض.
قال ديرك دومان، كبير مسؤولي التقنية لدى "سيندر": "كان اختصاصيو تعلّم الآلة لدينا يشدون شعر رؤوسهم من شدة الاستياء ولسان حالهم يقول: نماذجنا لا تعمل".
تلت ذلك تقلبات كبيرة في أعداد السائقين المتوفرين وفي الحاجة إلى سلع محددة. قال كويهلر مستذكراً: "لقد شحنّا كمّاً هائلاً من أوراق المرحاض". ما زاد الطين بلّةً أن "سيندر" بدأت تتكبد خسائر في بعض التوصيل الذي تتولاه لأنها اضطرت أن تدفع للسائقين ما فاق ما تتلقاه بموجب عقودها مع الشركات المرسلة للشحنات.
تحمّلت الشركة هذه الضربات لكسب وفاء العملاء، على أمل أن تعوّض هذه التكاليف في غضون بضع سنوات عبر زيادة حجم أعمالها. قالت الشريكة في "أكسيل" سونالي دي رايكر: "أجرينا تحليلاً للطرقات في البداية فأظهر خسارات كثيرة، لكن مع مضي الوقت وفيما تستثمر أكثر في العملاء والمسارات، تظهر الأرباح".
توسّع خارجي
خصّص نوتاكير بعضاً من رأس المال الجريء الذي جمعته "سيندر" ليعزز مبيعاتها وعملياتها خارج ألمانيا، وتضمن ذلك فتح فروع في لاتفيا وبولندا واسبانيا. وقّع في يوليو 2020 على مشروع مشترك مع شركة "بوستي إيتالياني" (Poste Italiane)، الرديف الإيطالي لخدمة البريد الأميركية، لإدارة حمولات الشاحنات بأكملها رقمياً.
باعت "أوبر"، التي كانت تواجه أعمالها الأساسية في مجال سيارات الأجرة ضغوطات في الولايات المتحدة، وحدة الشحن الأوروبية التابعة لها إلى "سيندر" في أواخر 2020 مقابل حصة أقلية فيها. قال توماس كريستنسون، مدير عام "أوبر فريت" الذي انضم إلى "سيندر" ويشغل منصب كبير مسؤولي عمليات ما بعد البيع: "كان الحصول على الاستثمار اللازم من أجل بناء مزايا تقنية خاصة بأوروبا صعباً جداً ". اشترت "سينر" أيضاً "إيفيرود" في وقت سابق من ذلك الصيف مقابل مبلغ زهيد بعد نفاد أموال الشركة الفرنسية، حسب عدة مصادر.
في زيارة حديثة لمكتب "سيندر" عالي التجهيز في فروتسواف في بولندا، كان بضع عشرات من موظفين عشرينيين متسمّرين قبالة أجهزة كمبيوتر ثابتة ومحمولة فيما تصدح موسيقى من مكبر صوت في المكان.
جلست مديرة شؤون الناقلات ألكسندرا كونشي خلف طاولتها، التي تراكمت عليها بطاقات عملاء محتملين، تراجع طلبات اليوم على شاشتين. يقتضي عملها تقديم الدعم للناقلات التي تعمل مع "سيندر" بأي طريقة ممكنة، ما يتطلب أحياناً أن تتحدث معهم عبر "سكايب" أو "واتساب". قالت ضاحكة: "يتعامل زميل لي مع شركة نقل في شرق بولندا ترفض حتى أن تستخدم البريد الإلكتروني".
على بعد بضع خطوات، تتعامل ماغدالينا ستروزيك مع مشكلات مشابهة على جانب الشركات المرسلة للشحنات. فيما أن التعامل مع طلبات شحن من علامات تجارية كبرى مثل "كوك" أو "برنغيلز" عادةً ما يكون سلساً نسبياً، إلا أن تطبيقات الخدمة الذاتية لدى "سيندر" تعجز في حالات كثيرة عن التعامل مع غرابات القطاع.
مثلاً، في موسم عيد الميلاد قبل بضع سنوات، طلب شخص شحن كرسي مرحاضٍ واحد بلا صندوق إلى بلغاريا، فتطلب ذلك الأمر سلسلة مكالمات هاتفية مرتبكة للتعامل معه. من ناحية أخرى، أبدى عديد من الشركاء تخوّفهم من تقنية "سيندر" حتى قبل أن تؤدي الأتمتة التي تعتمدها إلى الاستغناء عن بعض الوظائف. قالت ستروزيك وهي تعبث بلعبة دوّارة: "هذا هو الحاجز الذي يجب أن نجتازه كي يصبح القطاع رقمياً".
مع استمرار أزمات الاقتصاد الكلّي في 2021 و2022، بدءاً من ظهور سلالات جديدة لفيروس كورونا إلى زيادة التضخم والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، خاض فريق نوتاكير "محادثات صعبة" مع العملاء حول رفع الأسعار.
عززت "سيندر" أعمالها ذات الطابع الفوري مع الشركات المرسلة للشحنات، فخفضت عدد العقود السنوية، ما منحها مزيداً من التحكم بالهوامش اليومية. كذلك بنت خاصية الحجز المسبق من خلال "أسطول مستأجر" من شركات نقل مستقلة حتى تؤمّن لنفسها سائقين لمدة ستة إلى 12 شهراً، وتحدّ من احتمال مواجهة نقص في عدد السائقين. إلا أن حرب بوتين جلبت رياحاً معاكسة، إذ قال نوتاكير إن "نحو عُشر إجمالي سائقي الشاحنات يتحدرون من أوكرانيا أو روسيا".
التمسّك بالممارسات القديمة
مع ذلك، ما يزال تبني التقنية التحدي الأكبر الذي تواجهه "سيندر"، فبدل أن يستخدم السائقون نظام "أوركاس" بأنفسهم، غالباً ما يرسلون وثائق التوصيل بالبريد الإلكتروني أو يتصلون هاتفياً للإبلاغ عن التحديثات، ثم يضطر موظفو "سيندر" لإدخالها يدوياً، ما يثير تساؤلات ما إذا كانت خدمتها فعلاً أكثر ابتكاراً ممّا تقدمّه شركات شحن تقليدية.
توسعت الشركة منذ 2020 فزاد عدد موظفيها من 200 إلى أزيد من ألف يعملون في 11 مكتباً ويركز ثلثاهم على المبيعات والعمليات والتسويق. قال أخصائي لوجستيات سابق طلب عدم كشف اسمه خشية تصرفات انتقامية على الصعيد المهني، إن الشركة تشبه علبة جميلة التغليف بداخلها نفس الحلوى التي تجدها في علب أخرى.
قال مديرون تنفيذيون في "سيندر" إنهم مصمّمون على كسب ثقة شركات النقل وتعلّم الدروس من أخطاء الماضي. أشار فيليب جوناس، نائب الرئيس لشؤون الإنتاج في الشركة، إلى خاصية محاسبية صمّمها لمستخدمي "أوركاس"، وقال: "وجدت أن ثمّة حاجة لرسوم بيانية شريطية تبيّن حمولاتك على مدى أشهر وكم دفعنا لكم، كانت رسومات بيانية جميلة جداً، لكن معظم الأشخاص قالوا إنهم لم يستخدموها قطّ!"
ليست "سيندر" وحيدة في معاناتها سعياً للتوسع في ظل انعدام دعم المؤسسات المتمسكة بالطرق القديمة. قال ليور رون، رئيس "أوبر فرايت" التنفيذي، فيما أن الولايات المتحدة أكثر انفتاحاً على التقنية مقارنة مع أوروبا، فإن شركات النقل ما تزال تستعين بالموظفين في مقر الشركة في شيكاغو كي "يساعدوهم عبر الهاتف لإتمام نقل الحمولة الأولى، ثم يسايروهم فيما ينقلون الحمولة الثانية والثالثة". بيّن رون أنهم في البداية كانوا يستخدمون "الخاصيات الأبسط" لدى "أوبر"، لكن "حين يبلغون الحمولة الخامسة عشرة، يسألون بتعجب: هل فعلاً يمكنني أن أنقر هذا الزرّ فأحصل على عقد؟".
الأتمتة مستقبلاً
لاحظ فريق يوناس أيضاً أن المستخدمين يفضّلون إجراء تعاملاتهم باستخدام وسائل بسيطة لا تشتمل 500 زرّ. قال: "حين أنظر إلى واجهة التفاعل الحالية أراها سيئة لكنهم يرونها جيدة". زد على ذلك أن العملاء يحتاجون إلى حوافز ملموسة ليجربوا الميّزات الجديدة.
أضافت "سيندر" خصائص ترشد سائقي الشاحنات إلى أماكن آمنة للاستحمام والنوم على أمل تشجيعهم على استخدام خرائطها على سبيل المثال، ولتشجيع شركات النقل على تحميل وثائق التوصيل رقمياً، تضمن الشركة الدفع في غضون ثلاثين يوماً من التسليم أو في غضون 72 ساعة مقابل رسم بنسبة 3%.
قال يوناس: "إننا نحول ملفات (بي دي إف) التي ترسلونها إلى أموال".
يمكن لمثل هذه الخصائص أن تشجع على تبني التقنية بشكل أوسع وزيادة الفعالية، لكن إذا ما كانت "سيندر" والشركات المنافسة ترغب بالارتقاء إلى توقعات المستثمرين على المدى الطويل، لا بدّ أن تدفع الشركات المرسلة للشحنات وشركات النقل بشكل أقوى نحو الأتمتة.
يرى نوتاكير، الذي يقول إن الإيرادات تضاعفت العام الماضي، أسباباً تدفع للتفاؤل على هذا الصعيد، إذ إن غالبية عملاء "سيندر" أتمتوا بالفعل ناحية واحدة على الأقل من عملياتهم، سواء تلقي الطرود من المصدر أو إتمام عمليات التحميل أو الدفع.
كما تأمل الشركة في إطار محاولتها للالتفاف على العادات القديمة أن تسهم بعض العروض غير الجذابة مثل قسائم وقود أو تخفيضات على أسعار عجلات في استقطاب مزيد من شركات النقل العائلية الصغيرة لتستخدم منصة "سيندر".
قال نوتاكير إن نظام "أوركاس" ذكي بما يكفي لاستخلاص البيانات تلقائياً من الرسائل الإلكترونية وقوائم "إكسل" وملفات "بي دي إف".
عودة إلى شركة "ديمار– ترانس" في بوليسلاويك، لا شك أن عمليات عديدة ما زالت بحاجة إلى الرقمنة. على الرغم من أن حجوزات الشركة وفواتيرها مع "سيندر" منظمة بالإجمال، إلا أن ذلك لم يمنع الموظفين من طبع نحو 15 طلب نقل وتعليقها على لوح أبيض، لأن قراءتها أسهل هكذا.
يستعجل غرزس ليخرج كي يستعرض أسطوله من القاطرات والمقطورات التي ورث أوّلها في 2007 عن والده الذي كان يعمل سائقاً. هو يستبعد إنجاز أتمتة العمليات الخلفية للشحن البرّي بشكل أسرع من أتمتة القيادة نفسها. وقف غرزس قرب مجموعة عجلات مستعملة قائلاً: "ربما سيرى حفيدي ذاك اليوم".