كان يُظن أن "غوغل" ستقود قطاع الذكاء الاصطناعي لأنه من أهم ما تختص به تابعة "ألفابيت". ذاع صيت صاحبة محرك البحث الأشهر بسبب رهاناتها طويلة الأجل على جميع التقنيات المستقبلية، كما أن غالبية الأبحاث التي تستند إليها الموجة الحالية من روبوتات الدردشة القائمة على الذكاء الاصطناعي طُورت في مختبراتها.
غير أن شركة "أوبن إيه آي" (OpenAI) الناشئة برزت بوصفها رائدة مبكرة لما يعرف بالذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو برنامج يمكنه إنتاج النصوص أو الصور أو المقاطع المصورة، عبر إطلاقها "تشات جي بي تي" (ChatGPT) في نوفمبر.
لقد جعل نجاح "أوبن إيه آي" المفاجئ منافستها "ألفابيت" تلهث للحاق بمجال فرعي من التقنية، التي قال رئيس "غوغل" التنفيذي سوندار بيتشاي إنها ستكون "أهم من النار أو الكهرباء".
يبدو أن "تشات جي بي تي"، الذي يعتبره البعض منافساً محتملاً لمحرك البحث التقليدي من "غوغل"، يشكل تهديداً مضاعفاً نظراً إلى العلاقات الوثيقة التي تربط مطورته "أوبن إيه آي" بشركة "مايكروسوفت".
لقد أدى الشعور بأن "غوغل" قد تتخلف عن الركب في مجال لطالما اعتبرته إحدى نقاط قوتها الرئيسية إلى إثارة قدر لا يستهان به من القلق بين جنبات عملاقة التقنية، التي تتخذ في ماونتن فيو بولاية كاليفورنيا مقراً لها، وفقاً لما قاله موظفون حاليون وسابقون وآخرون مقربون من الشركة، طلب عديد منهم عدم كشف هوياتهم لأنه لم يُصرح لهم بالتحدث علناً حول الأمر.
قال أحد الموظفين الحاليين: "هناك مزيج غير صحي من التوقعات المرتفعة على نحو استثنائي من جهة، وشعورٍ طاغٍ بالقلق بشأن أي مبادرة تتعلق بالذكاء الاصطناعي من جهة أخرى".
استنفار المؤسسين
أعادت تلك الجهود بيتشاي لأيام عمله مديرَ منتجات، حين كان يتولى متابعة خصائص منتج بعينه والإدلاء برأيه في ما يتعلق بخطط إنتاجه وتطويره بشكل مباشر، وهي مهمة عادة ما تكون أدنى من درجته الوظيفية الحالية بكثير، وفقاً لموظف سابق.
كما بدأ مؤسسا "غوغل" لاري بيدج وسيرجي برين ينخرطان في أعمال الشركة بقدر فاق ما فعَلا منذ سنوات، حتى إنّ برين عدّل التعليمات البرمجية لروبوت الدردشة "براد" (Brad) الذي تطوره "غوغل" ويشبه "تشات جي بي تي".
أعلنت الإدارة العليا لعملاقة التقنية حالة طوارئ اقترنت بتوجيه مؤداه أن جميع منتجاتها الأهم، أي تلك التي لديها أكثر من مليار مستخدم، يجب تضمينها الذكاء الاصطناعي التوليدي في غضون أشهر، وفقاً لشخص على دراية بالموضوع.
كانت الشركة قد أعلنت في مثال مبكر في مطلع مارس أن منتجي المقاطع المصورة عبر منصتها "يوتيوب" سيتمكنون قريباً من استخدام الذكاء الاصطناعي لتبديل الملابس رقمياً.
ذكّرت حالة الطوارئ التي أعلنتها "غوغل" بعض موظفيها السابقين بآخر مرة طبقت فيها الشركة تعليمات داخلية بشأن غرس فكرة جديدة في كل منتجاتها الرئيسية، حين بدأت جهداً كي تروّج لشبكة "غوغل بلس" الاجتماعية البائدة في 2011.
بيد أن تلك ليست مقارنة مثالية، إذ لم يُنظر إلى "غوغل" قَط على أنها إحدى رائدات قطاع الشبكات الاجتماعية، لكن خبرتها في مجال الذكاء الاصطناعي لا جدال فيها.
مع ذلك، لا يزال شعور بوجود تشابه بينهما يتملك الجميع، إذ ارتبطت مكافآت الموظفين بنجاح "غوغل بلس" في ما مضى.
بداية نجاح
قال موظفون حاليون وسابقون إنه يُرجح تأثر تقييمات ومراجعات أداء بعض موظفي "غوغل" على الأقل بقدرتهم على إدماج الذكاء الاصطناعي التوليدي في أعمالهم. لقد تمخض إعلان حالة الطوارئ الأخير بالفعل عن عشرات من عمليات إدماج الذكاء الاصطناعي التوليدي المخطط لها.
قال أحد موظفي عملاقة التقنية: "نقوم بعدد كبير من المحاولات أملاً في نجاح إحداها، لكننا لم نُدانِ ما هو مطلوب لتبديل حال الشركة وتحقيق قدرتها على المنافسة".
فشلت جهود التعبئة لإنجاح "غوغل بلس" في نهاية الأمر، فقد كافحت الشبكة الاجتماعية لتلقى قبولاً لدى المستخدمين، ما دفع "غوغل" لإعلان إغلاق الشبكة في 2018.
يرى أحد المسؤولين التنفيذيين السابقين لدى عملاقة التقنية هذا الإخفاق بمثابة قصة تحذيرية، فيقول: "كانت تعليمات لاري أن كل منتج يجب أن يتضمن مكوناً اجتماعياً. وقد انتهى الأمر على نحو سيئ للغاية".
"مايكروسوفت" تطلق محرك "بينغ" مزوداً بتكنولوجيا "OpenAI"
نقض متحدث باسم "غوغل" المقارنة بين حالة الطوارئ المتعلقة بتطوير منتجات الذكاء الاصطناعي وحملة إنجاح شبكة "غوغل بلس" الاجتماعية. قال إنه بينما تناولت التعليمات الخاصة بحملة "غوغل بلس" جميع المنتجات، استهدفت الحملة الحالية لإدماج الذكاء الاصطناعي تشجيع موظفي "غوغل" على اختبار برامج الذكاء الاصطناعي للشركة داخلياً، وهي ممارسة شائعة في قطاع التقنية يطلق عليها اسم "الاستخدام التجريبي" للمنتجات داخلياً.
استطرد قائلاً إنّ معظم موظفي "غوغل" لم يركزوا على قضاء وقت إضافي لتجربة الذكاء الاصطناعي، وإنّ ذلك كان حال من يعملون على المشاريع ذات الصلة فقط.
قناعة مشتركة
تشاطر "غوغل" كيانات أخرى في قناعة أن الذكاء الاصطناعي هو أهم تقنيات العصر. على سبيل المثال، يدور وادي السيليكون في فلك حملات دعائية متكاملة تروج للذكاء الاصطناعي، وقد زعم أصحاب رؤوس الأموال ورواد الأعمال فجأة أنهم أصحاب رؤى في هذا المجال، مبتعدين أخيراً عن تمركز استثماراتهم حول تقنيات مثل "بلوكتشين".
كما شهدت شركات تقنية ارتفاع سعر أسهمها بعدما أعلنت إدخال الذكاء الاصطناعي في منتجاتها.
كما ركز مارك زوكربيرغ، رئيس "ميتا بلاتفورمز" التنفيذي، خلال الأسابيع الأخيرة على الذكاء الاصطناعي بدلاً من "ميتافيرس"، وهي تقنية أعلن عنها مؤخراً باعتبارها أساسية للشركة لدرجة تطلبت تغيير اسمها، وفقاً لشخصين على دراية بالموضوع.
تشكل التعليمات الجديدة أخباراً سارة لبعض العاملين لدى "غوغل" ممن شهدوا تاريخها في الاستغراق بالبحث النظري وتعثرها عندما تبلغ مرحلة تسويق منتجاتها. يأمل أعضاء بعض الفرق، التي تعمل على مشاريع الذكاء الاصطناعي التوليدي، أن يتمكنوا الآن من "الاضطلاع بمزيد من مشاريع تطوير المنتجات الفعلية، وأن يكون لهم مزيد من النفوذ لإجراء التعديلات، بدلاً من أن يكونوا مجرد فرق بحثية"، وفقاً لأحد الأشخاص المطلعين على الأمر.
على المدى الطويل، قد لا يهم كثيراً أن "أوبن إيه آي" كانت محور نقاشات عامة لبضعة أشهر، نظراً إلى مقدار العمل الذي أنجزته "غوغل" على أرض الواقع. كان بيتشاي قد بدأ يشير إلى عملاقة التقنية بعبارة "شركة الذكاء الاصطناعي الأولى" عالمياً في 2016.
لقد استخدمت "غوغل" تقنية التعلم الآلي لتوجيه أعمالها الإعلانية لسنوات مع إدماج الذكاء الاصطناعي في المنتجات الاستهلاكية الرئيسية مثل "جي ميل" و"غوغل فوتوز"، إذ تعتمد على التقنية سالفة الذكر لتساعد المستخدمين في كتابة رسائل البريد الإلكتروني وتنظيم الصور.
في سياق متصل، استعرضت شركة الأبحاث "زيتا ألفا" (Zeta Alpha) أهم مئة ورقة بحثية ذُكرَت في مجال الذكاء الاصطناعي خلال الفترة بين 2020 و2022، في إطار دراسة حديثة، ووجدت أن "غوغل" هيمنت على هذا المجال.
مخاطر التطوير
قال أمين أحمد، الباحث السابق في مجال الذكاء الاصطناعي لدى "غوغل"، الذي شارك في تأسيس شركة "فيكتارا" (Vectara) الناشئة لتطوير برامج بحث تحادثية للشركات: "الطريقة التي انتهى إليها الأمر جعلت (غوغل) بمثابة عملاق نائم تخلّف عن الركب ويحاول اللحاق به الآن. لكنني أعتقد أن الأمر مختلف على أرض الواقع. لقد أجادت (غوغل) تطبيق هذه التقنية على بعض منتجاتها الأساسية إلى حد كبير قبل منافسيها في هذه الصناعة بسنوات عدة".
تكافح "غوغل" أيضاً التوتر الذي تنطوي عليه الموازنة بين أولوياتها التجارية من جهة، والحاجة إلى التعامل مع التقنية الناشئة بمسؤولية من جهةٍ أخرى.
توجد نزعة موثّقة في الأدوات التلقائية لإظهار تحيزات تضمنتها مجموعات البيانات التي تدربت عليها، فضلاً عن مكافحة عملاقة التقنية الأميركية المخاوف بشأن الآثار المترتبة على تجريب تلك الأدوات على الجمهور قبل انتهاء إعدادها لهذا الغرض.
تصاحب تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي، على وجه الخصوص، مخاطر منعت "غوغل" من الاندفاع لدخول هذه السوق. قد يعطي روبوت الدردشة في مجال البحث، على سبيل المثال، إجابة تبدو كأنها صادرة عن الشركة التي طورته مباشرةً، تماماً كما يبدو "تشات جي بي تي" كأنه صوت "أوبن إيه آي".
مخاطر الإسراع
تشكل تلك الاحتمالية قضية أخطر من تزويد المستخدمين بقائمة روابط لمواقع أخرى.
يبدو أن حالة الطوارئ التي أعلنتها "غوغل" جعلت احتساب استعدادها للمخاطر مقابل أهداف الأرباح المخطط لها غير واضح على نحو أثار قلق بعض خبراء المجال.
قالت إميلي بندر، أستاذة علم اللغويات الحاسوبية بجامعة واشنطن، إن "غوغل" وغيرها من الشركات التي تقفز للحاق بركب الذكاء الاصطناعي التوليدي قد لا تستطيع أن تنأى بمنتجاتها عن "الأمثلة الفاضحة على التحيز، ناهيك بالانتشار الواسع لحالات أقل وضوحاً".
قال المتحدث الرسمي باسم "غوغل" إن الشركة تحكمها مبادئ خاصة بها للذكاء الاصطناعي، وهي مجموعة مبادئ توجيهية أُعلِنت في 2018 لتطوير التقنية على نحو مسؤول، مضيفاً أن الشركة لا تزال تتبع نهجاً حذراً حيال تناول تلك القضايا.
أظهرت مؤسسات أخرى استعدادها للمضي قدماً في تطوير تقنية الذكاء الاصطناعي، سواء فعلت "غوغل" أم لا. كانت إحدى أهم المساهمات التي قدمها باحثو شركة التقنية العملاقة في هذا المجال دراسة علمية حملت عنوان "الانتباه هو كل ما تحتاج إليه"، إذ طرح مؤلفوها ما يعرف بـ"شبكات الخلايا العصبية البرمجية"، وهي أنظمة تساعد نماذج الذكاء الاصطناعي بالتركيز على أهم المعلومات في خضم البيانات التي تضطلع تلك النماذج بتحليلها.
تُعَدّ شبكات الخلايا العصبية البرمجية الآن لبنات البناء الأساسية لنماذج معالجة اللغات الضخمة، إذ تمكن التقنية سالفة الذكر المجموعة الحالية من روبوتات الدردشة من القيام بدورها. يرمز الحرف "T" في "ChatGPT" إلى كلمة "Transformer" أو "شبكات الخلايا العصبية البرمجية".
معضلة "زيروكس بارك"
بعد خمس سنوات من نشر تلك الورقة البحثية، غادر جميع مؤلفيها "غوغل" عدا أحدهم، إذ أشار بعضهم إلى رغبتهم في التحرر من قيود شركة كبيرة بطيئة الحركة.
كان باحثو "غوغل" المغادرون بين عشرات الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي الذين انتقلوا إلى "أوبن إيه آي" ومجموعة من الشركات الناشئة الأصغر، منها "كاراكتر دوت إيه آي" (Character.AI) و"أنثروبيك" (Anthropic) و"أديبت" (Adept).
تسعى قلة من الشركات الناشئة التي أسسها الباحثون السابقون لدى "غوغل"، ومنها "نيفا" (Neeva) و"بيربليكسيتي إيه آي" (Perplexity AI) و"تونيتا" (Tonita) و"فيكتارا" (Vectara)، لإعادة تصور البحث باستخدام نماذج لغة ضخمة.
قالت سارة هوكر، التي كانت تعمل في فريق "غوغل برين" لأبحاث الذكاء الاصطناعي القائمة على تقنيات التعلم العميق، إنّ حقيقة أن عدداً قليلاً من الشركات الرئيسية لديها المعرفة والقدرة على تطوير تلك النماذج تجعل تنافسها على تلك المواهب "أشد بكثير من مجالات أخرى لا يتطلب تدريب نماذجها ذات القدر من التخصص". تعمل هوكر حالياً لدى شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة "كوهير" (Cohere).
يشيع في هذا المجال أن يسهم أشخاص أو مؤسسات بشكل كبير في تطوير تقنية متقدمة أو أخرى ثم يقفوا متفرجين، فيما يحصد غيرهم مكاسب مالية مذهلة منها دون أن يحصلوا على حصة من ذلك.
استشهد كيفال ديساي موظف "غوغل" السابق، وهو الآن المدير الإداري لشركة رأس المال الاستثماري "شاكتي" (Shakti)، بشركة "زيروكس بارك" (Xerox Parc) للأبحاث العلمية، التي وضعت أساس معظم تقنيات عصر الحوسبة الشخصية، لترى شركتَي "أبل" و"مايكروسوفت" تتقدمان وتبنيان إمبراطوريات تريليونية على ظهرها.
قال ديساي: "تسعى (غوغل) لتضمن أنها لن تكون (زيروكس بارك) هذا العصر، فقد طورت جميع ابتكارات تقنية الذكاء الاصطناعي، لكنها لم تنفذ أياً منها".