قلّ من فاق آل غور اجتهاداً لتحريك الرأي العام بشأن تغيّر المناخ، فقد كان النائب الأسبق للرئيس الأميركي وراء الوثائقي (An Inconvenient Truth) الذي تناول المناخ وحاز جائزة أوسكار، كما تقاسم جائزة نوبل للسلام تقديراً لجهوده في هذا المسعى، ودرّب عشرات آلاف الناشطين ليعززوا الوعي حول خطر احترار الأرض.
خطب آل غور في محفل دافوس للأثرياء في سويسرا العام الماضي فأرعد وأزبد كما لو كان مبشراً معمدانياً، وقال: "هل بيننا من يعبأ إن لعننا أبناؤنا وأحفادنا وسألونا: بالله عليكم أين كان عقلكم؟ لقد كنتم قادرين على منع تحول الأرض إلى جحيم".
لم تشتهر جهود آل غور خلال العقدين الماضيين في إثبات توافق بين الرأسمالية والاستدامة. تقع مكاتب "جنريشن إنفستمنت مانجمنت" (Generation Investment Management)، الشركة التي شارك آل غور بتأسيسها، في شارع خلفي في لندن وراء شاشات عملاقة تشرف على ساحة بيكاديللي المكتظة بالسياح، وقد حققت بصمت قدراً من أكبر أرباح الاستثمار المستدام.
لكن العام الماضي أتى قاسياً، فقد تراجع أكبر صناديقها 28%، كما كان شأن الصناديق المنافسة، إثر تعثّر الأسواق جرّاء غزو روسيا لأوكرانيا وصدمات سلاسل التوريد والتضخم. قال آل غور إن هذا "حال طارئ بسيط" في أداء هذا القطاع.
الرأسمالية المستدامة
هناك قضية أخرى قد تكون أفدح أثراً: زادت خلال السنوات الأخيرة انبعاثات غازات الدفيئة للشركات التي تشكّل نحو نصف حيازات أكبر صناديق "جنريشن" وحجمه 26.4 مليار دولار، رغم اهتمامها بالعوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة.
انطلقت مسيرة "جنريشن" بعد أربع سنوات من اعتراف آل غور بهزيمته في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2000، التي فاز فيها بالتصويت الشعبي لكنه خسر في الهيئة الانتخابية بقرار من المحكمة العليا.
استقر شركاؤه الستة، ومنهم المدير التنفيذي السابق لدى مجموعة "غولدمان ساكس" ديفيد بلد، على تسميتها "جنريشن" بعدما اقترح مازحاً تسميتها "بلد آند غور" (Blood & Gore).
تقول "جنريشن"، التي تتبنى شعار "الرأسمالية المستدامة"، إنها تهدف للاستثمار في شركات تدعم "مجتمعاً تسوده مقومات الإنصاف والصحة والأمان" ولتقليص مساهمتها في الاحتباس الحراري. بمرور الوقت، أصبحت إحدى أكبر الشركات في هذا المجال، فقد تمكّنت من إدارة استثمارات كانت ذروتها 39 مليار دولار في 2021 قبل تراجعها إلى 30 مليار دولار العام الماضي.
أهداف نبيلة
صنف تقرير حديث لشركة الأبحاث "مورنينغستار" (Morningstar) "جنريشن" في مرتبة متقدمة بين الصناديق الأكثر التزاماً بالاستدامة. لكن خسائر العام الماضي، جنباً إلى جنب مع تزايد البصمة الكربونية في بعض حيازات "جنريشن"، تسلط الضوء على مدى فوضى الاستثمار المستدام، وتثير سؤالاً مقلقاً هو: إن كان آل غور وشركاؤه يعانون ليحققوا الأهداف النبيلة بيئياً ومالياً، فهل سيتمكن أي طرف من أن ينجح بذلك؟
تسعى "جنريشن" بالطبع لأن تستثمر في شركات مزدهرة، في وقت عادة ما يعني فيه النمو زيادةً في الانبعاثات. هنا تبرز أوجه التوافق والتناقض التي تُصعب قياس فعالية الاستثمار في مجالات البيئة والمجتمع والحوكمة على نطاق أوسع.
يقول داعمو الاستراتيجية إنه مكسب لجميع الأطراف يجمع بين الربح المالي ومساعي الخير. لكن يكاد يكون أكيداً أن تحقيق ذلك سيتطلب مقايضات. تُحمّل معظم الشركات، بطريقة أو بأخرى، تكاليف على الناس والكوكب، سواء كان نشاطها تعدين معادن الألواح الشمسية والبطاريات، أو أنها تعتمد على بائعين تشوب أعمالهم قضايا تتعلق بحقوق العمال لتصنيع ملابس من القطن العضوي.
الغسل الأخضر
أثار الغموض عدداً من الانتقادات المتزايدة وبدأت الجهات التنظيمية حول العالم تتخذ إجراءات صارمة ضد ما تسميه "الغسل الأخضر"، فيما سخر الجمهوريون في الولايات المتحدة من الاستثمار في المجالات البيئية والاجتماعية والحوكمة ووصفوه بأنه ضرب مفرط من "الصحوة". كما خلُص بعض مؤيدي الفكرة الأوائل إلى أنها محدودة الطول في معالجة مشاكل الكوكب.
كتب دنكن أوستن، الشريك السابق في "جنريشن" في تدوينة على موقع "لينكدإن" في يونيو: "فات أوان استمرار التظاهر بأن اتباع نهج طوعي يقوده السوق للاستدامة قد يحقق تغييراً كافياً بالسرعة الكافية". لقد رفض التعليق على "جنريشن".
يعمل لدى "جنريشن" نحو 110 موظفين، ويتمعن محللوها في بيانات أمور لا يظهر أثرها مباشرة في ميزانيات الشركات، مثل انبعاثات الكربون وتدريب الموظفين وتمثيل النساء في مجالس الإدارة، وتراهن الشركة على أن أداء التدابير غير المالية قد يساعد في تعزيز الأرباح على المدى الطويل.
تتعمق "جنريشن" بدراسة أداء عشرات الشركات التي تعتقد أنها قد ترغب بشراء حصص فيها يوماً ما. كان لدى الشركة غير مرة موظف مسؤول عن تفكيك السيارات الكهربائية وصولاً إلى أجهزة الاستشعار والموصلات الخاصة ليتمكن محللوها من فهم أفضل لتقنياتها. يشكّل مثل هذا التحليل "صيغة مؤكّدة للوصول إلى رؤية أكثر دقة للواقع"، حسب ما قال آل غور خلال وجوده في مكتب "جنريشن" في سان فرانسيسكو، مرتدياً بزة داكنة ومنتعلاً حذاء رعاة بقر أسود.
رفع الأداء
كما تفعل شركات الاستثمار المستدام الأخرى، تحثّ "جنريشن" الشركات التي تملكها لتسرّع وتيرة أنشطتها أو تحسّن أداءها في الأمور البيئية والاجتماعية. أحد الأمثلة البارزة على ذلك كان عندما حدّدت شركة الخدمات العقارية "جونز لانغ لاسال" (Jones Lang LaSalle) هدفاً للانبعاثات الصفرية لأول مرة فوضعت تصوّراً لتحقيق ذلك في 2050. حثتها "جنريشن" على أن تكون أكبر طموحاً، فما كان من "جونز لانغ لاسال" إلا أن حددت 2040 تاريخاً لتحقيق هدفها.
تدير "جنريشن" ثمانية صناديق، أكبرها هو صندوق للأسهم الخاصة العالمية، يملك عادةً حصصاً في عشرات الشركات المُدرجة ويحتفظ بها وسطياً لخمس سنوات. تضم قائمة حيازاته حالياً كلاً من "أديداس" (Adidas) و"تشارلز شواب" (Charles Schwab) و"مايكروسوفت".
قالت الشركة في إخطاراتها العامة إن إنتاج الشركات التي يمتلك فيها الصندوق حصصاً من انبعاثات غازات احتباس حراري لكل دولار إيرادات تقل بنحو 75% مقارنة مع شركات مؤشر "إم إس سي آي العالمي"، الذي يضم أكثر من 1500 شركة وتعتبره "جنريشن" معياراً لقياس أدائها المالي.الأمم المتحدة: استمرار تمويل الوقود الأحفوري يُنذر بـ"كارثة مناخية"
لكن تحليل "بلومبرغ نيوز" لبيانات الانبعاثات الخاصة باستثمارات "جنريشن" يرسم صورة أعقد. كان صندوق الأسهم العالمية التابع لها يضم 42 شركة في نهاية العام الماضي، وأظهر تحليل "بلومبرغ" للانبعاثات الناتجة عن كلٍ من هذه الشركات سنوياً خلال الفترة من 2015 إلى 2021، أن بيانات 18 شركة منها تمثل 46% من أصول الصندوق، تبين زيادات في الانبعاثات من العام الأول للبيانات المتاحة حتى العام الماضي. كان هذا أعلى من صناديق الاستثمار المستدامة التي شملتها الدراسة، لكن يصعب القول إنه خارجاً عما سواه.
لقد خصصت 10 صناديق أخرى شملها التحليل ما لا يقل عن ربع أصولها لشركات ترتفع فيها الانبعاثات، ويمكن أن يكون سبب ذلك غالباً ارتفاع مبيعاتها، لكن حتى حين النظر إلى ناتج الكربون لكل دولار من الإيرادات، فإن حوالي سُدس محفظة "جنريشن" مستثمر في شركات ترتفع انبعاثاتها.
أشارت "جنريشن" إلى أن الأرقام الرئيسية قد تحجب بيانات التغيير بسبب استحواذات أو طرق جديدة في تحليل البيانات. سجلت "أديداس"، على سبيل المثال، زيادة في 2021 لأن بياناتها تضمّنت انبعاثات متاجر التجزئة التابعة لها لأول مرة.
قالت "جنريشن" إنها لن تستثمر في شركة تتزايد انبعاثاتها إلا إن اقتنعت بأنها تساعد على تقليص إجمالي ناتج الكربون في المجتمع. على سبيل المثال، تعد الحوسبة السحابية أكثر كفاءة من ملايين أجهزة الكمبيوتر المنفردة، لكن مع تحوّل الأفراد والشركات إلى هذه الخدمة، ارتفعت الانبعاثات التي سجلتها "مايكروسوفت".
شهادات الطاقة المتجددة
سجلت بعض الشركات في صندوق "جنريشن" انبعاثات أقل عبر شراء شهادات الطاقة المتجددة، التي يقول منتقدوها إنها ليست ذات أثر يذكر في خفض إجمالي إنتاج الكربون. قالت "جنريشن" إنها تتوقع من الشركات تجنب مثل هذه الأرصدة وأن تنتج الطاقة المتجددة بسبل أخرى.
ذلك قد يزيد غموض الأرقام. قلّصت شركة تصنيع الأجهزة الطبية الأميركية "بيكتون ديكنسون آند كو" (.Becton Dickinson & Co)، وهي أحد أقدم استثمارات "جنريشن"، من استخدامها لتلك الشهادات قبل ثلاث سنوات فقفزت انبعاثاتها المسجلة بأكثر من 20%.
تعد "أمازون دوت كوم" أكبر مُصدرة للانبعاثات في الصندوق بأشواط، وكانت "جنريشن" تتملك حصصاً في عملاقة التجارة الإلكترونية بتقطع منذ 2010، وأثارت ذلك جدلاً حادّاً داخل الشركة، فقد بدأت "أمازون" بالإفصاح عن بصمتها الكربونية في 2019.
قال ميغيل نوغاليس، أحد شركاء "جنريشن" المؤسسين: "لم تتوفر البيانات آنذاك وقد كنا محبطين قليلاً". تعهدت "أمازون" في ذاك العام بأن تصبح محايدة للكربون بحلول 2040 كي تغري "جنريشن" لتزيد استثمارها. قال نوغاليس إن الشركة بدأت "تتحرك بسرعة كبيرة مثيرة للإعجاب".
لكن "أمازون" قاومت بشدة انخراط عمالها في نقابات، وقفزت انبعاثاتها بنحو الخُمس في 2021 مع ارتفاع المبيعات خلال تفشي الجائحة، ما أدى لتشويه صورة أي عمل خير كانت تقوم به (رغم أن أخذ نمو مبيعاتها بالاعتبار يظهر أن بصمتها الكربونية قد تقلصت 2%).
قالت آن غودتشايلد، الخبيرة اللوجستية في جامعة واشنطن، إن السؤال لا يقتصر على ما إذا كان الطلب عبر "أمازون" تنتج عنه انبعاثات أقل من التنقل بالمركبات إلى مراكز التسوق، لكن من المهم أيضاً معرفة ما إذا كانت سهولة التسوق عبر الإنترنت تجعل الناس يشترون أكثر مقارنة مع الطرق الأخرى، وماذا يفعل المستهلكون بالوقت الذي يوفرونه وكمية الغازات المسببة للاحتباس الحراري الناتجة عن ما يفعلونه. أضافت: "لن نحل مشكلة المناخ من خلال التسوق عبر الإنترنت".
بيّنت "جنريشن" أن أبحاثها تُظهِر أن التجارة الإلكترونية قد تكون وسيلة تسوّق منخفضة الانبعاثات وأنها لا تحفز الاستهلاك المفرط. قالت "أمازون" إنها تعمل بشكل مكثف لتحقيق هدفها في الحياد الكربوني اعتماداً على مزيد من الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية وأنواع الوقود البديلة.
حث التنفيذيين
قالت "جنريشن" إنها تحثّ المسؤولين التنفيذيين على تبني أهداف حد من الانبعاثات تتماشى مع الجهود الدولية للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة عالمياً. هناك حوالي 60% من الشركات في أكبر صنادقها تشكل جزءاً من مبادرة لإحداث ذلك، مقارنة مع 42% في مؤشرها القياسي. تسعى الشركة لأن تتبنى جميع الشركات التي تمتلك حصصاً فيها مثل هذه الأهداف، وتقول إنها ستبدأ بالتصويت ضد مسؤولي الشركات الذين لا يتبنون هذا النهج.
مع ذلك، فإن تبني مديري الأموال للأهداف المناخية قد لا يكون كافياً، كما تقول ليزا ساكس، مديرة مركز الاستثمار المستدام في جامعة كولومبيا. فقد بيّنت أن تجنب الاستثمار في الشركات ذات الانبعاثات العالية وتحديد أهداف انبعاثات صافية صفرية له تأثير ضئيل على إجمالي الناتج الكربوني.
أضافت ساكس: "يحث المديرون على فصل الأصول عالية الكربون أو بيعها"، لكن الشركات تواصل التلويث في ظل تملك أطراف جديدة "دون أي تأثير على إزالة الكربون".
لن تكون أي من جهود "جنريشن" مقنعة إلى هذا الحد إن لم تستطع تحقيق المقياس الأهم، وهو كسب المال. تقدم "جنريشن" خدماتها للأثرياء وكبار المستثمرين، مثل صناديق التقاعد، وتبدو رسوم أكبر صناديقها، وهي 1% من الأصول المُدارة و20% من الأرباح التي تتجاوز أداء مؤشراتها، أشبه بما تتقاضاه صناديق التحوط والملكية الخاصة عالية القيمة مقارنة مع الصناديق المشتركة التي تعتمدها كمعيار لقياس أدائها.
لكن قبل الخسائر التي تكبدها أكبر صناديق "جنريشن" العام الماضي، التي كانت أسوأ بمقدار 10 نقاط مئوية من مؤشرها القياسي، حقق عملاؤها ازدهاراً رغم تلك الرسوم. بلغ متوسط عوائد صندوقها الرئيسي 13.7% على أساس سنوي منذ إنشائه في 2005، مقابل 8.6% لمؤشره القياسي، وفقاً للمستثمرين.
انزلاق أداء الشركة المتراجع نحو مأزق شائع للاستثمار الذي يركّز على القضايا الاجتماعية، هو أنه يسهل تحقيق أداء جيد فيما تقوم بأعمال خيرية حين تقود السوق صناعات عالية النمو لكنها نظيفة نسبياً (وهي التقنية). هذا يصعب تقييم ما إذا كان تفوّق صندوق المبادرات البيئية والاجتماعية والحوكمة يرجع إلى مبادئه، أو ببساطة لأنه يحسن اختيار القطاعات.
في خطاب أرسلته "جنريشن" إلى المستثمرين في يناير، عزت التراجع الذي تكبّدته العام الماضي لرفضها الاستثمار في شركات الوقود الأحفوري، التي لمع نجمها مع ارتفاع أسعار النفط، وإلى تراجع الطلب الاستهلاكي الذي حفز التخارجات من "أمازون" و"أديداس".
لكن، بينما تتنبأ بركود "كبير" في عديد من الدول، تقول "جنريشن" إنها تتوقع من الشركات التي تملك فيها حصصاً أن تزيد الإيرادات هذا العام.
عندما حققت الشركة أرباحاً قياسية في 2021، حصل أعلى الشركاء ربحاً على 84.7 مليون جنيه إسترليني (103 ملايين دولار)، وفقاً لإفصاحات مودعة لدى جهات تنظيمية في بريطانيا، وهو مبلغ يتعارض حجمه على ما يبدو مع هدف بناء مجتمع "عادل". رغم أن "جنريشن" لم تذكر اسم الشريك، إلا أنها تقول إنه عندما يكسب العملاء الأموال تكسب الشركة أيضاً.
ذكرت "جنريشن" أنها تساهم بنصيب من الأرباح في مؤسسة أنشأتها للتعامل مع تغير المناخ وعدم المساواة، وقالت: "نحن نحاول إحداث فارق... بما أن عملاءنا حققوا نجاحاً، فقد نجحنا نحن أيضاً".