لطالما انشغلت وكيلة السفريات، جو لينغ قبل الجائحة بترتيب رحلات شاملة رخيصة لزبائن صينيين إلى تايلندا وأجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا. درجت وكالتها في مدينة ديانغ بمقاطعة سيشوان على تنظيم رحلات بالحافلات لسياح يرتادون خلالها متاجر ومطاعم مرتبطة بها، وتحرص على إبعادهم عن المتاجر المحلية الأخرى.
يتلقى وكلاء مثل تشاو انتقادات لتسببهم باكتظاظ شواطئ ومعابد ومواقع شهيرة أخرى بدءاً من منطقة باتونغ الترفيهية الصاخبة في بوكيت إلى مجمع معبد أنغكور وات في كمبوديا. يزدري منتقدو حزم أسفار الخدمات الشاملة المسماة سياحة بلا دولارات، لأن كثيراً من تكلفتها التي يُجبى قدر كبير منها قبل مغادرة الصين، لا تصب في فعاليات الاقتصاد المحلية. قالت تشاو: "بالطبع هم لا يحبوننا. لا أحد يحبنا".
أصبح الصينيون في السنوات الأخيرة محركاً رئيسياً للسياحة عالمياً، فقد قاموا بـ155 مليون رحلة خارج بر الصين الرئيسي في 2019، حسب بيانات وزارة الثقافة والسياحة.
بلغت حصة المسافرين من الصين 16% من الإنفاق السياحي عالمياً في ذلك العام، أي ضعف إنفاق 2010، كما تظهر بيانات شركة "ناتيكسيس" (Natixis) وسافر عديد منهم عبر باقات خدمات سياحية ساعدت السياح الصينيين ممن يفتقرون للخبرة على تجنب مشاكل اللغة والتحديات اللوجستية.
لكن تصاعدت انتقادات للاعتماد المتزايد على الزوار الصينيين الذي لا يبرر من حيث الإنفاق ما تحدثه تلك الحشود من اكتظاظ. انحسر هذا الجدل حين أغلقت الصين حدودها في 2020 لوقف انتشار "كوفيد -19" فدفعت شركات السياحة في مختلف أنحاء آسيا للإغلاق وخسر بذلك عديد من عمال قطاع الضيافة وظائفهم.
تحدي الوجهات الآسيوية
تواجه الدول الآسيوية التي تعتمد على السياحة كي تخلق عدداً كبيراً من فرص العمل سؤالاً مع إعادة فتح أبواب الصين: بعد سنوات عديدة من فقدانها لزيارات السياح الصينيين، هل يمكن لهذه الدول أن تدير ظهرها لسياح الرحلات الشاملة الرخيصة؟ فيما يريد كثيرون في الصناعة سياحة مستدامة ومسؤولة، يجادل آخرون بالقول: "نحن بحاجة لعودة السياح، إننا بحاجة للمال".
قال بول بروانغكارن، كبير موظفي رابطة آسيا والمحيط الهادئ للسفر في بانكوك، الذي قال: "الأمر أشبه بلعبة شدّ حبل". هكذا هو الحال بالتأكيد في ميانمار، فقد سافر 23 ألف صيني فقط إلى أرض باغودا البورمية ليستمتعوا بالمناظر الطبيعية الخلابة العام الماضي، بانخفاض عن أكثر من 1.4 مليون في 2019.
بيّن يان وين، رئيس اتحاد السياحة في ميانمار، أن حوالي نصف الشركات في البلاد التي تركز على السياح الأجانب أغلقت مكاتبها. قال ساندار كياو، مدير عام شركة "أورينتال روز ترافيل آند تورز" (Oriental Rose Travel & Tours) في يانغون، وهي تركّز بشكل كبير على رحلات الصينيين السياحية: "يشعر بعض السكان المحليين بالقلق من أنهم لن يستفيدوا من رحلات السياح الصينيين، لكن في الواقع أن يكون هناك شيء هو أفضل من لا شيء".
ثمار إيجابية
سيكتشف أصحاب هذا القطاع قريباً ما إذا كان بإمكانهم الانتقال عن السياحة الرخيصة. بدأت الصين مع إعادة فتح أنشطتها الاقتصادية بعد الوباء بإجازة جولات جماعية إلى 20 دولة، منها تايلندا وست دول أخرى في جنوب شرق آسيا.
كتبت كلٌ من أليسيا غارسيا هيريرو وغاري نغ، الخبيران الاقتصاديان في "ناتيكسيس"، في تقرير بتاريخ 7 فبراير: "إنها مسألة وقت فقط قبل أن يجني العالم مجدداً الثمار الإيجابية للسياحة الخارجية الصينية".
أوضح أحد كبار مسؤولي السياحة في فيتنام في يناير أنه ينبغي للبلاد أن تقلل اعتمادها على هؤلاء المسافرين منخفضي الإنفاق. بلغ عدد الزائرين إلى البلاد حوالي 5.8 مليون صيني في 2019، ما يمثل ثلث المسافرين الدوليين إلى فيتنام.
لكن فو تهي بينه، رئيس جمعية السياحة الفيتنامية، قال إن الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا يجب أن تلغي الجولات التي لا ينفق فيها السياح، وأن تعمد إلى طريقة جديدة لتكافح الاحتيال التجاري.
نقلت عنه وسائل إعلام حكومية فيتنامية قوله: "شعب الصين ليس فقيراً، ويجب توفير خدمات السياحة الراقية للسياح الصينيين، مثلما التي وفرناها للسياح من أميركا واليابان وغرب أوروبا ليزيدوا إنفاقهم".
تغيير الزبائن
لطالما هيمنت جولات السياح الصينيين ذوي الميزانية المحدودة على نشاط شركة "هافا ترافيل" (Hava Travel)، المتخصصة بتنظيم رحلات إلى دانانغ ونها ترانغ، وهي وجهات فيتنامية تشتهر بشواطئها وكازينوهاتها.
كان متوسط تكلفة جولة مدتها خمسة أيام، بما يشمل الطيران والفنادق والطعام، حوالي 8 ملايين دونغ فقط (340 دولاراً)، فقد كان المسافرون ينفقون ما متوسطه 4 ملايين دونغ يومياً في متاجر مرتبطة بالجهة المشغلة.
قالت ناغويين نغوك تهيان، نائبة مدير عام الشركة، إن السياح المستقلين عادةً ما ينفقون ما يزيد عن ذلك بنسبة 50%، وهذا أحد الأسباب التي تجعل "هافا ترافيل" ترغب الآن بتقديم خدمات للزوار المتميزين.
لكن يصعب رفض السياح من أصحاب الرحلات الرخيصة شاملة التكاليف لا سيما بعدما اضطر نحو ثلث فنادق دانانغ للإغلاق أثناء الجائحة، لذا يستعد مشغلو السفريات هناك، ومنهم تهيان، لاستقبالهم مجدداً.
قالت تهيان إن الجولات الجماعية "ستتدفق إلى دانانغ ونها ترانغ في نهاية مارس وأوائل أبريل" وإن "هافا ترافيل" بدأت منذ ديسمبر الاستعداد لعودتهم.
محاولات تغيير تايلندية
أُثير نقاش بشأن هذه القضية على نطاق واسع في تايلندا، حيث شكّل السياح الصينيون أكثر من ربع زائريها، الذين بلغ عددهم 40 مليوناً في 2019، وساهموا بـ17 مليار دولار من عائدات السياحة في البلاد.
أحالت الحكومة وكالات تنظم رحلات سياحية رخيصة إلى محاكمات في إطار جهود لردع المخالفات، بزعم أنها تقاضت مبالغ زائدة وحوّلت الأموال إلى فنادق ومطاعم ومتاجر يسيطر عليها ملاك صينيون في تايلندا.
لكن المحاكم برّأت جميع الوكالات الـ13 المتهمة في سلسلة أحكام صدر آخرها العام الماضي. تعتزم تايلندا إنعاش صناعة السفر لديها عبر خطة خمسية تركز على جذب زوار إنفاقهم مرتفع من خلال الترويج للبلاد كوجهة للسياحة الصحية والاستشفائية.
هدف ذلك أن تساهم السياحة بما لا يقل عن ربع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، أي أكثر من ضعف مستواها في 2022، مع زيادة الإنفاق السياحي 5% سنوياً.
لطالما كانت الدول الأوروبية وجهات مفضلة لبعض المسافرين الصينيين، برغم أن طول المسافة وارتفاع الأسعار في تلك الدول تبين عادةً حقيقة أن هؤلاء السياح كانوا أثرى وأكثر إنفاقاً مقارنة مع عديد ممن يقضون عطلاتهم في جنوب شرق آسيا.
يعتزم متجر "هارودز" التاريخي في لندن لأن يأتي خمس مبيعاته من متسوقين صينيين في وقت لاحق من هذا العام، ارتفاعاً من 11% خلال فترة عيد الميلاد، ويطلب مزيداً من بضائع "غوتشي" (Gucci) وعلامات تجارية أخرى يُقبل عليها المستهلكون الصينيون الأثرياء تقليدياً.
أوضح مديره العام مايكل وارد أن المتجر لم يعتمد "الربح السريع" من المجموعات السياحية. أضاف: "لا نريد شراء سياح.. فلن ترى مشاركة أي من العلامات التجارية الفاخرة مطلقاً".
أوروبا تتجنبهم
حرصت الحكومات في أوروبا مع انتعاش السفر الدولي من أدنى مستوياته منذ الجائحة على تجنب اجتياح مزيد من الزوار أصحاب الإنفاق المنخفض، الذين قد لا يجلبون ما يكفي من الإيرادات لتعويض تكلفة الخدمات.
على سبيل المثال، برشلونة، المدينة البالغ عدد سكانها 1.6 مليون نسمة التي استقبلت حوالي 13 مليون زائر في 2019، ما أثار شكاوى من السكان والسياسيين على حد سواء، من المقرر أن تزيد ضريبة السياحة 57% هذا العام لتصبح 2.75 يورو (2.95 دولار) للفرد في الليلة.
أما البندقية، التي تستقبل زهاء 20 مليون زائر سنوياً، تخطط لفرض رسوم تتراوح بين 3 إلى 10 يورو لزيارة المدينة بدءاً من العام المقبل. رغم أن المسؤولين ما يزالون بصدد تحديد تفاصيل هذا بشكل نهائي، بما في ذلك سبل فرض الرسوم وإنفاذها، فإن المنطقة المستهدفة ستشمل النقاط الأكثر جذباً للسياح على امتداد "غراند كانال" وكذلك الجزر الطرفية، مثل ليدو ومورانو وتورسيلو.
قال سيمون فينتوريني، عضو مجلس المدينة الذي يقود مبادرة تحوّل صناعة السياحة المحلية إلى الجودة على حساب الكمية: "إن هدف الإجراءات ليس كسب الأموال، بل حماية البندقية".
كذلك ستزيد تايلندا الرسوم. فقد وافق مجلس الوزراء في 14 فبراير على خطة لفرض رسوم قدرها 300 باهت (8.9 دولار) على الأجانب الذين يسافرون إلى البلاد، مع توجيه الأموال لتمويل تطوير مناطق الجذب إضافة إلى برنامج تأمين لتغطية النفقات الصحية للسياح الذين يتعرضون للمرض أثناء وجودهم داخل البلاد.
يُرجح أن يؤدي ذلك لردع الرحلات بلا إنفاق. قد يستمر رواد الأعمال الصينيون في تايلندا بترويج عروض الرحلات الرخيصة، حسب ما قال ويروت سيتابراسيرتناند، رئيس جمعية المرشدين السياحيين المحترفين في تايلندا.
قال ويروت: "كنا نتحدث عن سبل تحسين جودة السياحة في فترة ما بعد الجائحة، لكن قد يتكرر سيناريو مألوف، لأننا بالكاد كان لدينا دخل سياحي ورحلات وافدة خلال السنوات الثلاث الماضية. يُرجح أن تغض السلطات الطرف عن ذلك".
أحد التحديات التي قد تبطئ عودة الرحلات السياحية الرخيصة هو أنها لا تنطوي على سفر بالطائرات. تظهر بيانات "فلايت إيه آي" (FlightAI)، أن الرحلات المجدولة من الصين في فبراير ومارس كانت أقل من 20% مقارنة بمستوى ما قبل الجائحة.
كما تتطلب عودة انتعاش الصناعة مرشدين سياحيين وعمالة للفنادق، إذ فقد عديد منهم وظائفهم خلال فترة الركود الطويلة بسبب كوفيد. قال بروانغكارن، من رابطة آسيا والمحيط الهادئ للسفر: "المسألة ليست مجرد ضغطة على زِر لتعود الأمور إلى طبيعتها لدى استئناف السفر".
كما يمكن أن تنحسر جاذبية الرحلات الرخيصة شاملة التكاليف لدى الطبقة المتوسطة الصينية التي تسعى لتعظيم فوائد الإجازات بعد مضي سنوات من توقف السفر.
دونا وان مديرة مبنى من دونغوان بمقاطعة غوانغدونغ بلغ عمرها 54 عاماً، وهي تصبو للسفر إلى سنغافورة أو أستراليا مع والديها بعدما تعافيا من "كوفيد". هي تفضل باقة خدمات أعلى تكلفة أو أن تسافر بمفردها وتستعين بمرشد محلي.
قالت وان: "غالباً ما تكون الرحلات الرخيصة ليلية وتطلب الجلوس طويلاً في حافلة. نريد زيارة معالم سياحية والتقاط صور جميلة، لكننا نريد شيئاً أكثر راحة ومرونة".
مع ذلك، فإن وكيلة السفريات الصينية تشاو، في ديانغ، واثقة من أن السياحة الرخيصة شاملة التكاليف ستستمر. قالت: "سيكون هناك دائماً عملاء يرغبون بهذه الرحلات. بمجرد أن نتمكن من استئناف رحلاتنا سينشط القطاع بأكمله".