تضارب البيانات والمؤشرات يخلق حالة من الجدل حول احتمالية وقوع الركود وشدته

هل الركود الأميركي وشيك؟ سؤال يزداد صعوبة

صورة تعبيرية  - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

يحظى خبراء الاقتصاد اليوم بوفرة من الأدوات والبيانات التي تعينهم على التنبؤ بحدوث ركود. غير أن استشراف مستقبل الاقتصاد ما يزال فناً أكثر منه علماً.

يتوقع معظم الاقتصاديين أن تعاني الولايات المتحدة تباطؤاً في اقتصادها هذا العام، بعدما عظّم فرص ذلك وابل قرارات من الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم.

لكن مشاركين في استطلاع من بلومبرغ أجمعوا على أن تبعات تشديد الائتمان على استثمارات الشركات والتوظيف وإنفاق المستهلكين، لن تؤدي إلى انكماش في الناتج المحلي الإجمالي حتى الربع الثاني. مع ذلك، يتوقع كثيرون أن الضرر الذي سيخلفه الركود هذه المرة سيكون طفيفاً مقارنةً بأزمات سابقة، على الأقل من جهة الوظائف.

سوق العمل الأميركية تشير لنجاح "الفيدرالي" في تحقيق الهبوط السلس

تُعرِّف بلدان عديدة الركود على أنه نمو سلبي للناتج المحلي الإجمالي في ربعين متتاليين، بينما تنتدب الولايات المتحدة نخبة أكاديميين ليقيموا أداء الاقتصاد وهم يجتمعون سراً ويستغرقون قرابة عام كامل ليقرروا ما إذا كان ثمة ركود.

يأتي قرار هذه النخبة دائماً بعد فترة طويلة من إدراك "وول ستريت" أن البلاد تعاني ركوداً على نطاق واسع. لكن البراعة تكمن في رصد مقدمات الركود قبل حدوثه.

أحجية الركود

إن الاقتصاديين، الذين ارتكبوا بعض الأخطاء البارزة فيما يتعلق بتقييمات التضخم والناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأخيرة، هم أول من يقرّ بأن التنبؤ بتوقيت الركود الاقتصادي أمر مستحيل عملياً.

يأتي هذا رغم وفرة البيانات الحكومية والخاصة، بما فيها عدد كبير من المعايير الجديدة كثيفة التواتر التي أتاح بروزها الوباء. يعتبر التنبؤ بالركود بمثابة تمرين ذهني أقرب إلى تجميع قطع أحجية، إذ يشكل كل مؤشر اقتصادي جزءاً من الصورة الكلّية.

لا تتوافق حالياً قطع الأحجية على نحو جيد. يمكن القول إن القطاع الصناعي يشهد حالة ركود، كما أن سوق الإسكان تراجعت، لكن معدلات التوظيف في المصانع ومواقع البناء ما تزال مرتفعة.

ربما تعقد أرقام الناتج المحلي الإجمالي للربع الرابع الصادرة في 26 يناير الصورة أكثر، فهي تُظهر أن أداء المستهلكين، وهم المحرك الرئيسي للاقتصاد، كان قوياً إلى حد بعيد، بينما قلصت الشركات إنفاقها.

قالت كلوديا سام، الخبيرة الاقتصادية ومؤسسة شركة "سام" للاستشارات في مقاطعة أرلينغتون بولاية فيرجينيا إن: "المؤشرات متباينة على نحو لم نشهده من قبل. فقد اعتاد الناس بدء تنبؤاتهم بالقول: تاريخياً عندما يحدث هذا يستتبع وقوع ذلك ثم ندخل في فترة ركود. تلك بداية جيدة للتحليل لكن لا ينبغي أن تكون حصيلته".

توصلت الخبيرة الاقتصادية السابقة لدى الاحتياطي الفيدرالي إلى معيار خاص بها يقيس الركود في الوقت الفعلي. ينص المعيار الجديد، الذي سمي معيار "سام"، على أن الركود الاقتصادي يكون قد بدأ حين يرتفع متوسط معدل البطالة المتحرك لثلاثة أشهر بمقدار 0.5 نقطة مئوية أو أكثر، مقارنةً بأدنى مستوياته خلال العام السابق. وعليه، لا تشير القراءة الحالية لهذا المعيار إلى حدوث ركود.

مؤشرات متزايدة

ما تزال قوة سوق العمل في الولايات المتحدة تربك الاقتصاديين رغم أن تسريحات الموظفين تتصدر عناوين الأخبار. لكن بدأت تصدعات بالظهور في أجزاء أخرى من الاقتصاد، فقد تراجعت مبيعات التجزئة في ديسمبر بأكبر قدر خلال عام، كما تُبين عدة مؤشرات لقياس نشاط القطاع الصناعي ركوده خلال الربع الأخير من 2022.

قال جيمس نايتلي، كبير الاقتصاديين الدوليين لدى مجموعة "آي ان جي" الهولندية لخدمات الأفراد المصرفية: "البيانات تتحول بالفعل إلى سلبية على نطاق واسع ولعدة أشهر، ما يشير إلى أن الأمور ستزداد سوءاً. لذا أتخوف من حدوث ركود".

كانت فترتا الركود السابقتان نتاج أحداث غير متوقعة شديدة التأثير، تسمى عادةً أحداث البجعة السوداء وهي أزمة الرهن العقاري والوباء. لكن الركود المقبل قد يكون من أكثر الأحداث الاقتصادية تجلياً منذ سنوات عديدة.

قال نايتلي: "هذه أكثر فترات الركود التقليدية نمطيةً منذ عقدين؛ بل ربما تكون فترة ركود تطابق وصف تعريف الركود... عندما رفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة بإصرار لم تشهده دورة اقتصادية منذ أكثر من 40 عاماً، كانت لقراراته تداعيات على النشاط الاقتصادي".

أدوات الاستقراء

فيما يلي نظرة على بعض البيانات التي يتتبعها الاقتصاديون ليتبينوا ما إذا كنا نتجه صوب ركود. بعض هذه البيانات تقليدي كبيانات سوق العمل ومبيعات التجزئة، وبعضها الآخر لا يخلو من غرابة مثل الطلب على إجراء جراحات تجميلية وتزوير الشركات لأرباحها.

يعد منحنى العائد المقلوب أحد مؤشرات الركود المجربة التي يمكن الركون لها. يحدث المنحنى سالف الذكر عندما ترتفع عائدات سندات الخزانة الأميركية قصيرة الأجل عن نظيراتها طويلة الأجل، مخالفة نمطها المعتاد. لقد سبق ظهور منحنى العائد المقلوب جميع حالات الركود التي شهدتها البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي، برغم وجود حالة إيجابية خاطئة واحدة على الأقل.

انقلب المنحنى عدة مرات خلال العام الماضي. فقد اتسعت الفجوة بين عائدات سندات الخزانة المستحقة بعد ثلاثة أشهر ونظيرتها المستحقة بعد عشر سنوات بواقع نقطة مئوية كاملة، لأول مرة منذ عقود، بعد صدور تقرير الوظائف الأخير في 6 يناير، الذي أظهر نمواً في الأجور أبطأ من المتوقع.

تباطؤ إنفاق المستهلك الأميركي.. والتضخم يواصل البرود

يعكف الاقتصاديون على دراسة بيانات سوق العمل بحثاً عن علامات ضعف. غير أنها لا تبرز بشكل مباشر: فمعدل البطالة في أدنى مستوى له منذ نصف قرن، كما يعد معدل نمو الوظائف على أساس شهري معتدلاً رغم استمراره في تخطي التوقعات، وما تزال أعداد الشواغر مرتفعة.

لو تعمقنا أكثر تبدو الأمور أقل تفاؤلاً. على سبيل المثال، شهد ديسمبر التراجع الخامس على التوالي في نسب العمالة المؤقتة، وهي إحدى شرائح سوق العمل التي بدأت تزدهر خلال الأزمات. كما انخفضت ساعات العمل منذ مارس، وهي علامة أخرى على تراجع الطلب على العمالة، رغم تماشيها مع مستويات ما قبل الوباء.

قال غاي بيرغر، كبير اقتصاديي شبكة التواصل المهنية "لينكد إن": "لقد شهدنا سوق عمل قوية على نحو استثنائي، بل ربما أقوى سوق سنشهدها في حياتنا. لكننا عدنا إلى وضع أقرب إلى سوق العمل التقليدية، كما هو الحال في 2018 و2019".

التسريحات طفيفة

أعلنت بنوك "وول ستريت" وشركات التقنية العملاقة، ومنها "أمازون" و"غوغل" و"مايكروسوفت"، عن تسريحات بأعداد كبيرة، غير أن مجموع فقدان الوظائف ضئيل جداً مقارنةً بإجمالي 153.7 مليون موظف يعملون في سوق العمل الأميركية.

حلل خبراء الاقتصاد لدى بنك "غولدمان ساكس" إشعارات تسريح الموظفين في بضع من الولايات الأكثر سكاناً، فوجدوا أنه رغم تصاعد وتيرة خفض الوظائف المعلنة خلال الأشهر الأخيرة، ما يزال معدل خفض العمالة أقل من المتوسط ​​خلال الفترة بين 2017 و2019.

كتب الخبراء في تقريرهم الصادر في 13 يناير: "لا يُرجح أن يتحول تزايد خفض العمالة إلى زيادة كبيرة في معدل البطالة النهائي".

أعطى الوباء زخماً لأحد توجهات التنبؤ بالاقتصاد الكلي يقوم على تعزيز البيانات المستقاة من الإصدارات الحكومية ببيانات أقل من القطاع الخاص تتميز بكثافة تواترها. عكف محللون، بعد موجة الإغلاقات الأولى، على تحليل بيانات عدد من الممارسات اليومية مثل نسب حجوزات المطاعم عبر "أوبن تايبل"، وحضور الأفلام حسب تقارير "كومسكور"، وبيانات التنقل التي سجلها "غوغل"، لقياس مدى سرعة عودة حياة الأميركيين إلى طبيعتها. يبحث المحللون حالياً عن دلائل على تقليل الأسر لحجم إنفاقها التقديري، لكن هذه المؤشرات لا تثير قلقاً حتى الآن.

سعي للمؤشرات

لقد استثمرت البنوك الفيدرالية الإقليمية وشركات "وول ستريت" والمؤسسات الأخرى وقتاً وجهداً كبيرين في تطوير نماذجها للتنبؤ بالناتج المحلي الإجمالي. يشير مؤشر "كونفرنس بورد" الاقتصادي الرائد، المترقب على نطاق واسع، إلى أن ثمة ركوداً وشيكاً يلوح في الأفق.

كما يؤكد نموذج "بلومبرغ إيكونوميكس" فرصة حدوث ركود خلال 2023 بنسبة 100%. فيما ترى خبيرة الاقتصاد الأميركي آنا وونغ أن احتمالات حدوث الركود تداني 80% نظراً لأن أداء المستهلكين جيد نسبياً رغم صدمة التضخم. قالت وونغ: "لدينا ركود في قطاعات الصناعة والإسكان والتقنية... لقد بدأت الأمور تبدو أكثر منطقية".

بلغت 100 ألف وظيفة.. خريطة تسريح العمالة في شركات التكنولوجيا العالمية

يشير المؤشر المتطابق للاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا لاحتمال حدوث ركود عندما تظهر 26 ولاية على الأقل قراءات سلبية في مجموعة مؤشرات اقتصادية. كانت تنبؤات المؤشر سالف الذكر دقيقة بشأن أربعة من ستة حالات ركود كبرى. أشار المؤشر ذاته إلى حدوث ركود في أكتوبر، لكن البيانات نُقحت لاحقاً لتظهر العكس.

قال كيفن كليسين، الخبير الاقتصادي لدى الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، الذي يستخدم البيانات لتقييم الأداء الاقتصادي: "لا توجد توقعات مثالية. نحاول البحث عن كثير من البيانات، وفي بعض الأحيان يكون ذلك صعباً. إذا ما انزلق الاقتصاد نحو الركود، فسيكون هذا الركود الأكثر ترقباً بالتأكيد".

قد يكون انخفاض مبيعات التجزئة في الولايات المتحدة مؤشراً مبكراً على تراجع طلب المستهلكين، الذي قد يصبح ركوداً اقتصادياً. انخفضت قيمة جميع السلع المشتراة في ديسمبر إلى أدنى مستوياتها في عام كامل، مع انتشار التراجع عبر فئات عديدة.

مؤثرات وقتية

ساهمت تدابير، مثل شيكات التحفيز وإعانات البطالة المعززة وغيرها من تدابير الإغاثة من الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات لتخفيف وطأة الوباء، في زيادة مدخرات الأسر بدايةً، لكنها تراجعت إلى مستويات 2005. يُفسر ذلك كدلالة على توجه الأميركيين للسحب من مدخراتهم لتعويض تراجع القوة الشرائية بسبب التضخم. كما يزداد اعتمادهم على بطاقات الائتمان في الشراء.

أظهرت بيانات الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك ارتفاع إجمالي ديون المستهلكين، التي تشمل قروض الطلاب والسيارات وأرصدة بطاقات الائتمان، بأكبر قدر منذ 2008 خلال الربع الثالث. لكن ما تزال حالات التأخر في سداد القروض أقل من مستويات 2019.

توقع جميع الرؤساء التنفيذيين الأميركيين المشاركين في استطلاع لمجموعة "كونفرنس بورد" ركوداً هذا العام. لذا يتعين إلقاء نظرة على كيفية استعداد الرؤساء التنفيذيين لوقوع هذا الاحتمال مع إفصاح مزيد من الشركات عن أرباح الربع الرابع.

كان بريان موينيهان بين من استعدوا لهذه الفرضية، حيث توقع رئيس "بنك أوف أميركا" التنفيذي مرور الولايات المتحدة بفترة ركود معتدل. فيما قال ديفيد سولومون من بنك "غولدمان ساكس" إن هناك فرصة معقولة لحدوث ركود هذا العام. أما بنك "جيه بي مورغان تشيس"، أكبر بنوك الولايات المتحدة، فيخصص أكثر من مليار دولار استعداداً لخسائر ممكنة.

مؤشرات غير مألوفة

يتوق المستثمرون بشكل خاص لسماع رأي تجار التجزئة وشركات المنتجات الاستهلاكية مثل "بيبسيكو" و"تارغت" و"وولمارت"، التي يبدأ معظمهما بإعلان نتائج الربع الرابع في فبراير.

غالباً ما يعترف أولئك الذين يمتهنون تتبع ما يمر به الاقتصاد من فترات صعود وهبوط بأن لديهم مؤشرات بديلة خاصة بهم.

على سبيل المثال، اعتاد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق آلان غرينسبان مراقبة مبيعات الملابس الداخلية للرجال. يشتري الناس هذه السلعة الأساسية طوال العام، لكنهم يؤجلون الشراء في حال ركود حاد. لقد تباطأ نمو مبيعات الملابس الرجالية بشكل عام في 2022، ويُتوقع استمرار وتيرة التباطؤ في المدى القريب، وفقاً لشركة "يورومونيتور" المتخصصة بأبحاث الأسواق الاستراتيجية. كما استند بعضهم لمبيعات البيرة وأحمر الشفاه باعتبارها مؤشرات للتنبؤ بحالات الركود السابقة.

نشر أساتذة من جامعتي إنديانا وميسوري أخيراً دراسة احتجوا فيها بتزايد احتمالات حدوث الركود عندما ترتفع معدلات تلاعب الشركات ببيانات القوائم المالية.

لقد استعانوا بنموذج "إم-سكور"، الذي اشتهر بعد كشفه مشاكل محاسبية في بيانات شركة "إنرون" قبل انهيارها، ليثبتوا أن تلاعب الشركات بإفصاحاتها المالية للجهات الرقابية قد يسبب إساءة قراءة البيئة الاقتصادية والاستثمار المفرط على مستوى الصناعة، إذ تحاول الشركات المنافسة مجاراة الشركة المتلاعبة.

الأسهم الأميركية تهتز متأثرة بالنتائج المالية للشركات

قال ميسود بينيش، أحد مؤلفي الدراسة: "هناك تداعيات حقيقية لكمية المعلومات المضللة في القطاع الاقتصادي". لكن مع ذلك، لا يتوقع نموذجهم حدوث ركود خلال 2023، لكنه يؤشر لحدوث تباطؤ في النشاط الاقتصادي.

يراقب مايكل سكورديليس، كبير محللي الاقتصاد الكلي للولايات المتحدة لدى "ترويست أدفايزري سيرفيسز"، ومقرها أتلانتا، الإنفاق على جراحات التجميل الاختيارية مثل تجميل الأنف وشد الوجه.

لقد شهد قطاع الطب التجميلي ازدهاراً خلال فترة ما بعد الجائحة ابتداءً من 2021، حيث كان لدى المستهلكين مزيد من الدخل المتاح للإنفاق وأرادوا إحداث تغييرات في حياتهم بعد مشاركتهم في اجتماعات عديدة عبر تطبيق "زووم"، كما تمكنوا من قضاء النقاهة أثناء العمل من المنزل.

لكن بيانات الجراحات المقررة التي جمعها سكورديليس من أطباء محليين الشهر الماضي أظهرت تراجعاً في أعدادها، ما يشير إلى أن المستهلكين يقللون الإنفاق على السلع والأمور غير الضرورية.

قال سكورديليس: "الجميع ينظر إلى نفس البيانات الحكومية. لذا نحن بحاجة لأن نبدأ التدقيق بعناية في جميع البيانات الأخرى للحصول على إجابات".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك