قبل سنوات من بدء تردد اسم سام بانكمان فريد على كلّ لسان إثر بنائه امبراطورية بقيمة مليار دولار في مجال التشفير ثمّ تدميره لها؛ كان الرجل يبحث عن مقرّ جديد لشركته في جزر الكاريبي. سجل شركته "اف تي اكس تريدينغ" في أبريل 2019 بدولة أنتيغوا وبربودا المؤلفة من عدّة جزر صغيرة ساحرة تقع على بعد نحو 2250 كيلومتراً جنوب غرب فلوريدا.
لكنَّ الحكومة رفضت منح "اف تي اكس" تصريحاً لتبدأ العمل كبورصة عملات مشفَّرة وهو أساس الشركة. قال رئيس الوزراء غاستون براون لوسائل الإعلام المحلية في نوفمبر عقب انهيار "اف تي اكس": "الهيئات الناظمة هنا ارتأت أنَّها لم تفهم جيداً نموذج الأعمال... بدا الأمر عبارة عن عملية يقودها رجل واحد، لذا لم تمنحها الترخيص".
يبدو الآن أنَّ أنتيغوا وبربودا اتخذت قراراً حكيماً فيما تحوم شبهات حول مسعى البهاما لترسيخ مكانتها كمركز للعملات المشفَّرة عبر بنية ناظمة مكّنت روّاد الأعمال من تسجيل شركاتهم بسرعة ومنحتهم حريات كبيرة بعدما بدأوا العمل.
سعت القواعد التي تبنّتها البهاما لاستبعاد أعمال غير مشروعة، كمبيّضي الأموال، لكن ظهر لاحقاً أنَّها لم تأخذ في الحسبان روّاد الأعمال الذين أظهروا نوايا حسنة، مثل بانكمان فريد، الذي أدت أعماله سواء اتصفت بالإجرام أو الإهمال لإفلاس شركته وتعريض الكثيرين للأذى، وتكبيد عملاء ومستثمرين خسائر بمليارات الدولارات، وقد تكون سمعة البهاما وطموحاتها في مجال التشفير أبرز ضحاياه.
قوانين للتشفير
تشتهر جزر البهاما بشواطئها الساحرة، وبخدماتها المصرفية الخاصة وخدمات إدارة الثروات أيضاً، فشكلت بالتالي خياراً ثانياً مثالياً لـ"اف تي اكس" التي كانت تبحث عن موطن جديد.
قال غوون باوي، الرئيس التنفيذي لمصرف "فيدليتي" في البهاما إنَّ الدولة كانت تسعى لاستقطاب بعض من خدمات التقنية المالية الجديدة، وشكلت العملات المشفَّرة خياراً مثالياً.
بعد إعصار دوريان الذي ضرب البلاد في 2019، وتفشي الوباء في 2020؛ سعى المسؤولون نحو تحديث الهندسة المالية للبلاد من أجل الدفع قدماً بالاقتصاد. قال باوي: "فيما تطور قطاع الخدمات المالية في البلاد مع الزمن، طرح المعنيون في البهاما سؤالاً واحداً: هل تطورنا معه؟".
أثمر هذا المسعى عن سنّ قانون الأصول الرقمية، والبورصات المسجلة، وقانون مقدمي الخدمات المالية وخدمات الشركات الصادرين في 2020. فتح هذا الإجراء الذي أعدته بشكل رئيسي هيئة الأوراق المالية في البهاما، الهيئة الناظمة الرئيسية للسوق، الباب أمام "اف تي اكس" وغيرها من شركات العملات المشفَّرة لتتخذ فيها مقرّات.
لقد شمل القانونان طيفاً واسعاً من شؤون التشفير، من إصدار الرموز حتى تشغيل البورصات التي يحق لها أن تطلب تصاريح للقيام بأعمال التداول الفوري والتداول بالمشتقات المالية.
قال ديريك سميث، وهو خبير من البهاما في قوانين الحوكمة والمخاطر ومكافحة تبييض الأموال، إنَّه في حين لم تكن دول كثيرة ومنها الولايات المتحدة مستعدة لترخيص هذا القطاع المزدهر عبر سنّ قوانين خاصة به؛ فإنَّنا "كنّا نقوم بمخاطرة محسوبة".
علّقت كريستينا رول، المديرة التنفيذية للجنة الأوراق المالية في أول مقابلة لها منذ انهيار "أف تي أكس" قائلة: "لم نكن نتوقَّع أو حتى نتخيل أن تجذب البهاما شركة عملاقة في مجال التشفير مثل (اف تي اكس)". لقد اعتبرت أنَّ البهاما "لم يكن لديها خيار الرفض"، نظراً لمكانة البلاد كمركز مالي.
أضافت: "كنّا سنمنع أحد الفاعلين في مجال العملات المشفَّرة من المجيء إلى منطقة صلاحياتنا، أو نجبره على الالتزام بإطارنا التنظيمي... لم يكن خيار المنع وارداً".
قواعد شفافة
تماشى قانون الأصول الرقمية والبورصات المسجلة مع القوانين المصرفية المطبقة منذ نهاية السبعينيات وقوانين خصوصية البيانات المعتمدة منذ عقد في البلاد، وهي أسهمت في جعل البهاما مركزاً للخدمات المصرفية الدولية وخدمات الإنترنت.
حالها كحال نظيراتها من جزر الكاريبي، تنافس البهاما بشراسة في مجال الخدمات المالية، وتفتخر بمركزها الريادي في هذا المجال. قد تظهر هذه الروحية بشكل خاص حين أصبحت البهاما أول دولة في العالم تطلق عملة رقمية فعلية صادرة عن مصرف مركزي أطلقت عليها تسمية "ساند دولار" في 2020.
كتبت رول في عريضة عام 2022 أنَّ النهج الشمولي للقانون أعطى الأصول الرقمية "مساحتها الخاصة دون تعليبها". أشارت إلى أنَّ هيئتها تعمل على إتمام إجراءات التسجيل لمقدمي الطلبات في مجال التشفير في غضون ثلاثين يوماً.
استند هذا التوجه بشكل أساسي لقناعة مفادها أنَّه لدى اعتماد قواعد شفافة، لا يواجه رواد الأعمال أو المستهلكون أو المستثمرون أي مفاجآت. أسهم هذا الوضوح بتسلُّم البهاما، إحدى أثرى دول الجزر في العالم، مركزاً طليعياً في السابق من ناحية استقطاب الشركات الناشئة في مجال التشفير. بحسب الموقع الالكتروني للهيئة؛ سجلت ثماني شركات في البلاد، بينها "اف تي اكس" بموجب هذا القانون.
أثنى رئيس الوزراء فيليب ديفيس على قانون العملات المشفَّرة في خطاب له في واشنطن في 17 يناير لأنَّه فعّال بما يكفي لتمكين البهاما من اتخاذ خطوات أسرع حتى من الولايات المتحدة للمحافظة على أصول عملاء "أف تي أكس" ومقرضيها.
قال: "أجرؤ أن أقول إنَّ قوانينا الناظمة في هذا المجال ربما تكون أكثر عصرية" من تلك المعتمدة في الولايات المتحدة.
محدودية تنظيمية
حصلت بورصة تداول العملات المشفَّرة "أو كيه اكس" على ترخيص بموجب قانون الأصول الرقمية والبورصات المسجلة في الثالث من نوفمبر، قبل بضعة أيام فقط من انهيار "اف تي اكس"، بحسب تيم بيون، المسؤول الدولي للعلاقات مع الحكومات في مجموعة "أو كيه" الشركة الأم لبورصة "أو كيه اكس".
قال بيون، المفتش السابق في مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، إنَّ الحصول على ترخيص لبورصة عملات مشفَّرة في الولايات المتحدة كان يتطلب الرجوع إلى عشرات الهيئات ولكمّ هائل من اللوائح.
أضاف: "وضع قانون الأصول الرقمية والبورصات المسجلة كلّ الأنشطة في مجال العملات المشفَّرة تحت نظام واحد ثابت، وعيّن هيئة ناظمة واحدة، ليس عبر 58 بل واحدة فقط". أشار إلى أنَّ القواعد صارمة بقدر كل القوانين الأخرى في السوق العالمية التي تتطلب رفع التقارير باستمرار ووجود احتياطات.
لكن في حالة "اف تي اكس"؛ كانت صلاحيات هيئة الأوراق المالية تقتصر على كيان محلي هو "اف تي اكس ديجيتال ماركتس"، مما يعني أنَّها لم تكن تدرك مدى مشاكل "اف تي اكس" المالية بما أنَّها لم تكن مطلعة على عشرات من الوحدات المتصلة بها، ومنها "اف تي اكس ترادينغ"، مالكة "اف تي اكس ديجيتال ماركتس".
بما أنَّ الهيئة لم تكن تشرف على صندوق التحوط " ألاميدا ريسيرش" التابع لبانكمان فريد؛ فهي لم تكن على علم أنَّه بدأ باستخدام أموال العملاء ليغطي خسائر التداول، برغم أنَّ قانون الأصول الرقمية والبورصات المسجلة يلزم أن يكون لدى "اف تي اكس" "إجراءات فعّالة لحماية أصول العملاء وأموالهم".
نظراً لمحدودية نطاق الهيئة الناظمة؛ فإنَّها لم تستطع أن تراقب ما إذا اتخذت البورصة وغيرها من الوحدات الخطوات اللازمة لتجنّب تضارب المصالح.
انتقادات للقانون
قال هاورد فيشر، الشريك في مكتب المحاماة "موزيس وسينغر" في نيويورك وكبير الاستشاريين السابق لشؤون المقاضاة لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، إنَّه بموجب قوانين البهاماس "لم يكن لدى العملاء أي طريقة كي يعرفوا" ما إذا كانت بورصات وشركات التشفير بوضع جيد أو أن يعرفوا حالة الأصول والمستحقات الإجمالية. أضاف: "الخضوع لهيئات ناظمة يعني تدقيق هذه الهيئات للسلامة المالية، مما يحدّ على الأرجح من قدرة المشغلين الأقل استقراراً على استجرار أصول عملاء ومن ثمّ خسارتها".
قضية "اف تي اكس" في البهاما هي أكثر من مجرد درس موضوعي حول المخاطر التي يواجهها أي محرك أول في السوق، فالشركة التي كانت يوماً تقدّر قيمتها بـ30 مليار دولار، افتقرت للضوابط الداخلية وسقطت في اختبارات الحوكمة الأساسية، مثل ضمّ المديرين المستقلين الذين يشرفون على بانكمان فريد المتهم بجمع مليارات الدولارات من المستثمرين بالتشفير دون علمهم، واختلاس أموال العملاء لدعم "ألاميدا"، وشراء عقارات فاخرة.
قُبض على بانكمان فريد في البهاما الشهر الماضي، ورُحّل إلى الولايات المتحدة حيث دفع بالبراءة من التهم الإجرامية الموجهة ضده، وقد أفرج عنه بكفالة مالية إلى منزل ذويه في كاليفورنيا بانتظار محاكمته. لكنَّ تنظيف آثار الخراب المالي الذي خلّفه قد يستغرق سنوات، ولم يتضح بعد ما إذا كانت ضحايا الشركة ستتلقى أي تعويض.
تعرّض قانون الأصول الرقمية والبورصات المسجلة لانتقادات كثيرة، وكان بين نقاده زعيم المعارضة مايكل بينتارد، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات المحلية المؤثرة. كتب ليندون نايرن الذي ينشر مقالات من حين إلى آخر في صحيفة "ناساو تريبيون" بعد انهيار "اف تي اكس": "الهيئات الناظمة تتخذ موقفاً متكيفاً أكثر مما يكون ناظماً"، ودعا لتعديل القانون ليتضمن "حظر أي كيان من العمل في وقت واحد كبورصة وكوسيط، والحدّ من احتمالات الاحتيال بواسطة التداول الدائري (أي إدخال أوامر شراء تقابلها أوامر بيع مماثلة من حيث عدد الأسهم والسعر)، وكذلك الإلزام بنشر معلومات فصلية، وتقارير تدقيق الحسابات السنوية، بما يشمل كلّ البورصات والأصول الرقمية".
استعادة الثقة
لكن هناك من يدافع عن النظام الإطاري للتشفير المعمول به في البلاد، ومنهم وزير خارجية البهاما فريد ميتشيل، الذي قال إنَّه لا يجب الحكم على النظام انطلاقاً من جهة سيئة واحدة. فقذ شهدت الولايات المتحدة نفسها فضائح مالية ضخمة مثل أزمة المدخرات والقروض في الثمانينيات، والفضيحة المحاسبية لشركة "إنرون" في 2001، وعملية احتيال بيرني مادوف الضخمة في 2008، وانهيار بنوك استثمارية مثل "ليمان برذرز" الذي أدى للأزمة المالية العالمية عام 2008، مع ذلك ما تزال البلاد تستقطب الأعمال من حول العالم.
قال ميتشيل: "ستكون هناك أطراف غير نزيهة مهما فعلت".
من جهته، رجح كريستون مور، المسؤول التنفيذي في مجلس الخدمات المالية في البهاما، وهو يروّج للبلاد كمركز مالي دولي، إنَّ الجزيرة يرجح أن تستمر باستقطاب شركات التشفير عبر تشديد التدقيق في الشركات الجديدة، ومراقبة تلك القائمة على نحو أفضل. قال: "علينا أن نعيد اكتساب ثقة المجتمع الاستثماري الدولي".
لكنَّ بيون من مجموعة "أو كيه" أشد تحفظاً؛ إذ قال: "تغير العالم كثيراً بالنسبة للتشفير. الأمر أشبه برؤية (ليمان براذرذ) ينهار للتوّ أو أن تكون قد قرأت للتو عن عملية الاحتيال الكبرى لبيرني مادوف، وأن يحصل ذلك أمام أعيننا... عاش القطاع بأكمله صدمة، وتحتاج البيئة بكاملها لأن تشفى".
لم تكشف رول عن الدروس التنظيمية المستخلصة ممّا جرى التي سيشير إليها التقرير المقبل الذي سيصدر عن الهيئة، لكنَّها قالت: "سنجري تعديلات لتحسين قانون الأصول الرقمية والبورصات المسجلة"، علماً أنَّها تقول في الوقت الحالي إنَّ العملات المشفَّرة أحد المنتجات "غير المناسبة للمستثمرين الأفراد".