كان 2022 عام تحوّل كبير في كبرى شركات التقنية في الصين، فقد شهدت عملاقات الإنترنت في البلاد ومنها مجموعة "علي بابا" و"تينسنت هولدنغ" أول تراجع لإيراداتها الفصلية وشطب آلاف الوظائف جراء التشديد الحكومي واستحكام تفشي الوباء.
نتجت التحولات التي حجّمت شركات التقنية عن استراتيجية لا تورية فيها من الحكومة الصينية تجاهها وأشّرت لبدء حقبة جديدة لطريقة عمل هذه الشركات. لقد ثبت أن الرئيس شي جين بينغ مستعد للتضحية بالنمو الاقتصادي وأولويات أخرى لفرض السيطرة. لقد ضغطت حكومته على مدى عامين على عمالقة التقنية، التي سبق أن كانت تحتفي بها، فتركتها لا تدري ما الذي يحمله مقبل الأيام.
ترويض الشركات
يبدو الآن أن شي وكبريات شركات التقنية قد توصلوا لهدنة بلا طمأنينة فتخلى الحزب الشيوعي عن حملات التشديد الصارمة والمفاجئة ليتحول نحو إحداث مزيد من الوضوح حول ما يعتبره ممارسات حميدة للشركات. مقابل القدرة على الاستشراف انتهجت شركات مثل "علي بابا" و"تينسنت" وشركات أخرى نهجاً بديلاً يرتكز إلى تحقيق نمو معتدل يتماشى مع أجندة شي الرامية للحد من الاحتكار بقطاع التقنية وتعزيز ما وصفه بالازدهار المشترك، لينتهي بذلك العصر الذهبي لصعود عملاقات الإنترنت الذي استمر على مدى عقد كامل.
قال مينغ شيا، أستاذ العلوم السياسية لدى جامعة سيتي يونيفيرسيتي أوف نيويورك: "نجح شي جين بينغ بترويض جامحات خيول القطاع الخاص... لكن سياسته سببت ضرراً كبيراً بلغ تدمير ثقة بعض رواد الأعمال والمستثمرين الأجانب".
كانت كبرى شركات الإنترنت الصينية تضاهي يوماً نظيراتها من عملاقات التقنية الأميركية مثل "أبل" و"أمازون" واكتسبت سحرها حينئذ من قدرتها التفوق بالإنفاق على منافساتها أو الاستحواذ عليها أو استنساخها لترسيخ هيمنتها بكافة المجالات الرقمية من التجارة الإلكترونية أو النقل التشاركي أو الألعاب الإلكترونية.
حملة واسعة
لا يستطيع المسؤولون في الولايات المتحدة تطبيق سياسات تكبح جماح تلك الشركات الرائدة، بينما استطاعت حملات القمع في الصين أن تفعل ذلك رغم انتشار منتجات كبرى شركات التقنية بكافة جوانب الحياة عبر الإنترنت في البلاد.
كان الملياردير جاك ما، مالك "علي بابا" و"آنت غروب" (Ant Group) الذي لم يتوانَ عن انتقاد الحكومة، أول وأبرز الأهداف الرئيسية لحملة القمع الحكومية.
لقد استهلت الحكومة في نوفمبر 2020 حملتها بإلغاء طرح أسهم "آنت غروب" للاكتتاب العام، وفي ربيع 2021 فرضت غرامة 2.8 مليار دولار على مجموعة "علي بابا" بسبب ممارسات احتكارية.
في وقت لاحق، قامت بمراجعة أمنية لشركة "ديدي غلوبال" (Didi Global) عملاقة خدمات طلب السيارات عقب طرح أسهمها في اكتتاب عام أولي في الولايات المتحدة وصولاً لفرض غرامة عليها بقيمة 1.2 مليار دولار العام الماضي.
كما توقفت بكين عن الموافقة على إصدارات ألعاب الفيديو الجديدة، وأجبرت معظم شركات قطاع التعليم الخاص البالغ قيمته 100 مليار دولار بالتحول إلى مؤسسات غير ساعية للربح.
نهج جديد
تزامن انطلاق تلك الإجراءات مع تأثر أداء كافة شركات التقنية الكبيرة والصغيرة في الصين وأماكن أخرى بالظروف الاقتصادية الصعبة.
تراجع التمويل المغامر المرتكز على الصين 81% في أول 11 شهراً من 2022 وساهم ذلك بتسجيل أكبر تراجع بحجم الاستثمار في الشركات الناشئة عالمياً منذ عقدين، وفقاً لشركة الأبحاث "بريكين" (Preqin). كما تخارج مستثمرون من شركات خدمات المستهلكين عبر الإنترنت التي كانت رائجة قبلاً ليتجهوا نحو شركات القطاعات الأكثر انسجاماً مع أولويات سياسة شي مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات.
قال تشيبو تانغ، الشريك الإداري في "غوبي بارتنرز" (Gobi Partners): "لطالما كان الأمر في الصين بسيطاً جداً: استثمر أموالك حيثما تُشير الحكومة".
لقد أشار دانييل جانغ، خليفة جاك ما في "علي بابا" لاتباع ذلك النهج، حيث قال في مؤتمر هاتفي مع المستثمرين للتعليق على الأرباح في نوفمبر: "نؤمن بآفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصين... نعتقد أن أهداف تطوير (علي بابا) تتماشى لحد كبير مع أهداف الصين طويلة الأجل".
لم ترد كلٌّ من "علي بابا" و"تينسنت" على طلبات للتعليق.
استجابت الصين لمؤشرات الخضوع، التي صاحبتها تبرعات من الشركات بمليارات الدولارات لصالح قضايا مجتمعية، بأن خففت من تشديدها.
تخوض السلطات الآن المراحل النهائية من إصدار ترخيص طال انتظاره لشركة ”أنت“ تحتاجه لتمهيد الطريق لاكتتابها العام، فيما تعاملها تنظيمياً كما لو كانت مصرفاً. بعدما تكهن مراقبو الصناعة بأن كبار مديري ”ديدي“ التنفيذيين قد ينتهي بهم المطاف في السجون، اكتفت الحكومة بتغريمهم لخرقهم قواعد أمن البيانات.
اتهمت الصحافة الحكومية شركات مثل ”تينسنت“ و“نت إيز“ منذ ما ينيف على عام بالترويج لما سمته "الأفيون الروحي". لكن في أبريل 2022، بدأ المراقبون بالموافقة على إصدارات جديدة من ألعاب الفيديو بعد توقف لثمانية أشهر. تضمنت أحدث مجموعة من الموافقات الرئيسية في أواخر ديسمبر إصدارات أجنبية كبرى مثل ”فالورانت“ من “رايوت غيمز“ وكذلك “بوكيمان يونايت“ وكلاهما ستصدره ”تينسنت“.
خفض النفقات
تعهد شي في في أول اجتماع للتخطيط الاقتصادي جاء في الشهر الذي حقق ولاية ثالثة، وهو حدث تاريخي، بدعم الشركات المالكة للمنصات الرقمية ومنها "علي بابا" و"تينسنت" وعملاق توصيل الطعام "ميتوان" (Meituan) وتمكينها من أدوار رائدة في تحقيق "التنمية وخلق فرص العمل والمنافسة دولياً".
زار رئيس الحزب الحاكم في جيجيانغ المقر الرئيسي لشركة "علي بابا" في المقاطعة بعد يومين من الاجتماع وكنتيجة لخطاب شي الإيجابي. كانت تلك إشارة واضحة على تغيير حظوظ الشركة الصينية، التي تضررت بشدة من تشدد سياسات الحكومة الصارمة.
باتت شركات التقنية الصينية أميل للعزوف عن المخاطرة وأقل طموحاً جراء اتباعها التوجيهات الحكومية حتى مع استمرار الوباء بعرقلة النمو.
تركز الإدارات التنفيذية والمستثمرون بشركات التقنية حالياً على خفض التكاليف، إذ تسعى أكبر الشركات إنفاقاً خلال السنوات الماضية ومنها "إيتشيي" (iQiyi) التي تشابه "نتفليكس" و"كوايشو تكنولوجي" (Kuaishou Technology)، منافسة "تيك توك" لإعطاء الأولوية لاستمرار الربحية على التباهي بحجم المحتوى أو أعداد مستخدميها الجدد، حيث أوقفت شركتا "علي بابا" وبايت دانس" الأعمال التي قد تؤثر سلباً على النتائج المالية وتراجعتا عن الاستثمار في مشاريع لا تحقق أرباحاً فورية.
توسع خارجي
قال روبو ليانغ، رئيس "بايت دانس" التنفيذي للموظفين خلال المؤتمر السنوي في ديسمبر: "نحتاج لإنفاق المال بالمكان المناسب والأهم والحفاظ عليه"، وفقاً لنص الخطاب الذي اطلعت عليه بلومبرغ نيوز. كما أشار ليانغ لتباطؤ معدل نمو إيرادات الشركة مالكة "تيك توك" ونمو أعداد المستخدمين بأقل من المتوقع. رفض متحدث باسم الشركة التعليق.
تعتمد شركات التقنية الصينية على التوسع خارج البلاد لمواصلة النمو وفي صدارة تلك الشركات تأتي كلٌّ من "تيك توك" وشركة تجارة الأزياء السريعة بالتجزئة "شي إن" (Shein)، اللتين تستخدمان نهجاً ثابتاً وسريعاً بتقديم السلع والمحتوى سريع الرواج لعملائهما من جيل الألفية حول العالم. وعقب اكتسابهما مكانة رائدة مكنتهما من تهديد شركات أميركية كبرى مثل "أمازون" و"ميتا بلاتفورمز" تعرضتا لانتقادات لاذعة بالتزامن مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين.
تسعى "تيك توك" لإبرام اتفاقية أمنية مع إدارة بايدن لتجنب حظر نشاطها في الولايات المتحدة كما اقترح الرئيس السابق دونالد ترمب. كذلك تحاول "شي إن" تغيير الصورة النمطية بأنها تمارس عملاً تجارياً غير مستدام، إذ قد لا تستكمل اكتتاباتها العامة الأولية لحين حل تلك المشكلات.
بطالة تقنية
قالت كايتلين تشين، الزميلة الباحثة في قطاع التقنية بمركز الاستراتيجيات والدراسات الدولية بواشنطن إن استمرار الأداء المالي الجيد للشركات الصينية على المدى الطويل "يتطلب بناء الثقة مع الجهات التنظيمية والمسؤولين وهذا صعب في ظل توتر العلاقة بين الولايات المتحدة والصين".
بين القضايا الشائكة أيضاً الموظفون الذين يحاولون التكيف مع ركود قطاع التقنية، إذ تشير التقديرات لوصول أعداد خريجي الجامعة الجاهزين لدخول سوق العمل في 2022 لمستوى قياسي هو 11 مليون خريج يستعد عديد منهم للالتحاق بوظيفة في قطاع التقنية المزدهر ليصطدموا بأن القطاع لم يعد يقدم الأجور المتوقعة.
تقدم تشانغ هاو (22 عاماً)، الذي درس تقنية السيارات في الكلية، بأكثر من 100 طلب للحصول على وظيفة تقنية الصيف الماضي بينما لم يُجرِ سوى مقابلة واحدة فقط مع شركة تجارة إلكترونية ناشئة على غرار "شي إن"، وسأله مؤسس الشركة خلال المقابلة عن إمكانية قبوله العمل لأوقات إضافية بشكل متكرر، وهو ما كان أمراً اعتيادياً لموظفي شركات التقنية. لكن مع تبني الشباب في الصين لنمط "الراحة" المعيشي، الذي بات يُمثل رد فعل على تدهور الاقتصاد وقيود كوفيد 19. رفض تشانغ العمل وأصبح مدرباً لصيانة السيارات مقابل نصف الدخل الذي كانت ستدفعه الشركة الناشئة. علق تشانغ قائلاً: "إنه عمل أكثر استقراراً ولا أريد التعرض للإرهاق مقابل الحصول على وظيفة فقط".