ما إنْ خرج شياو هان من حجر صحي دام أسبوعاً ليعاود العمل في مجمع التصنيع الشاسع بمدينة جنغجو في الصين المعروف باسم مدينة "أيفون" في أواخر نوفمبر حتى اندلعت أعمال عنف. فقد قضى أغلب العمال وعددهم 200 ألف شخص أسابيع عدة في عزلة قسرية في مهاجع شاسعة تنتشر فيها القمامة، وقد اقتصر قوتهم فيها على حصص غذائية قليلة بسبب قرار الإدارة بالاستمرار في إنتاج أجهزة شركة "أبل" وسط مساعي القضاء على تفشي كوفيد-19.
أدرك العمال في 23 نوفمبر أنَّهم لن يحصلوا على الأجور التي وعدوهم بها إنْ لم يبقوا في وظائفهم حتى منتصف مارس المقبل مروراً بمهرجان الربيع، مما تسبب بغضب مئات منهم فاخترقوا صفوف أفراد الأمن المسؤولين عن حراسة أماكن معيشتهم، وانطلقوا ليجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع شرطة مكافحة الشغب.
قال شياو، الذي أصيب بعض زملائه في الاشتباكات: "كانت الفوضى عارمة. لم أتوقَّع أن تسوء الأمور على هذا النحو".
تدهور الأوضاع
وصف شياو الثلاثيني الذي عمل لأكثر من عقد في خطوط تجميع "أيفون" الصينية الوضع بأنَّه لا يحتمل حتى قبل اندلاع العنف. انضم شياو في أكتوبر لموجة مغادرة العمل بمدينة "أيفون"، التي تضم أكبر مجمع لتجميع أجهزة "أيفون" في العالم بسبب الظروف المتدهورة وغير الصحية. حينها اشتبك العمال أيضاً مع الحراس بسبب نقص الغذاء وظروف المعيشة السيئة، مما اضطر العمال لترك وظائف مناسبة. في إحدى الحالات؛ هرب العمال وعادوا إلى منازلهم سيراً على الأقدام لمسافة 40 كيلومتراً.
برغم ذلك، عاد شياو للعمل مرة أخرى في منتصف نوفمبر بعد وعود بالحصول على مكافآت خاصة لإقناع العمال المنهكين بتحسين الأوضاع، لكنَّ ذروة العنف في 23 نوفمبر تؤكد عدم كفاية تلك الجهود وفشل استراتيجية الصين في معالجة تفشي كوفيد-19.
أبدى الحزب الشيوعي الصيني طيلة فترة الوباء استعداده للذهاب إلى أبعد حد في مكافحة كوفيد وأجبر شركات مثل "فوكسكون تكنولوجي" (Foxconn Technology) و"تسلا" على عزل منشآتها عن المحيط كلياً والعمل بنظام "الحلقة المغلقة".
أقرّت "فوكسكون" التايوانية، وهي شريك التصنيع الرئيسي لشركة "أبل" والمسؤولة وحدها عن تشغيل مدينة "أيفون"، بوجود أخطاء في إدارة الموظفين، لكنَّها عزت ذلك لتطبيق المسؤولين المحليين سياسات استثنائية جعلت تجهيز وتوصيل الوجبات أمراً شبه مستحيل، وفقاً لشخص مطّلع على أعمال الشركة طلب عدم كشف هويته لأنَّ الموضوع خاص. لم تجب الحكومة المحلية وممثلو "فوكسكون" على طلبات للتعليق.
استجلبت مشاكل "فوكسون" اهتماماً أكبر نظراً لشهرتها وضخامتها لكنَّ معاناتها تدل على أنَّ غيرها تعرّض لمعاناة أكبر لتتمكن من العمل مع معايير السياسات الصينية.
هجرة جماعية
قالت أليسيا غارسيا هيريرو، كبيرة اقتصاديات آسيا والمحيط الهادئ في "ناتيكسيس" (Natixis): "شركات كثيرة تنظر إلى ما يحدث في (فوكسكون) وتسأل نفسها ما إذا كان سيحدث هذا لديها. لقد باتت كل شركات التصنيع تفكر ببدائل قد تكون مكلفة، لكنَّها أقل تكلفة من الاعتماد فقط على الصين، ثم لا ترفع الصين الإغلاقات".
توقَّعت هيريرو أن يستغرق فتح اقتصاد الصين ما يتراوح بين 12 و18 شهراً، وترى أنَّ الأهم من ذلك هو أن تعلن الحكومة خطة واضحة للتعافي. إذ ترى أنَّ خطط الصين كانت ضبابية، وتهدد بتصاعد مخاطر فقدان الشركات للثقة، وأن تسرع نحو وضع خطط تطوير قدرات تصنيعية في أماكن أخرى.
وتقول هيريرو: "لا يمكن لبكين ضمان إبقاء الشركات لعملياتها التصنيعية في البلاد".
الانتقال للهند
يُنتج مصنع جنغجو نحو 80% من أحدث طرازات "أيفون 14"، مما يزيد أهمية استمرار تشغيله لدى "أبل"، التي حذرت هذا الشهر من تراجع شحنات أحدث أجهزة "أيفون" لأقل من المتوقَّع خلال ذروة موسم العطلات.
توقَّع "مورغان ستانلي" في أسوأ السيناريوهات عدم شحن أجهزة "أيفون" إضافية من المصنع هذا العام، في حين بيّن متحدّث باسم "أبل" في بيان أنَّ موظفيها يوجدون بمصنع جنغجو، وهي "تُراجع الوضع وتعمل بشكل وثيق مع (فوكسكون) لضمان التعامل مع ما يقلق موظفيها هناك".
يعمل تيم كوك، الذي تزعّم توسيع سلسلة توريد "أبل" من الصين قبل توليه منصب الرئيس التنفيذي في 2011 خلفاً للراحل ستيف جوبز، على تطوير البدائل. بدأت شركات تجميع مثل "فوكسكون" بتصنيع مزيد من أجهزة "أيفون 14" في الهند تفوق تصنيع أجهزة الأجيال السابقة منه، كما بدأت تستخدم البلاد كقاعدة تصدير. كما تتوسع "فوكسكون" أيضاً في فيتنام وتايلندا في مؤشر على تهديد سياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ الرامية لمحاصرة كوفيد على نمو اقتصاد الصين.
قالت هيريرو: "انتقال شركة بحجم (فوكسكون) فعلياً للعمل في دول أخرى بالغ الأهمية".
الفيروس في المجمع
وصل شياو إلى مدينة "أيفون" في يوليو، واستأجر غرفة مساحتها 12 متراً مربعاً في بلدة قريبة مقابل 350 يواناً (50 دولاراً) شهرياً، كما أنَّ موقعها يجعلها رخيصة نظراً لمساحتها، إذ يضطر شياو لأن يمشي أكثر من 40 دقيقة حتى يبلغ مكان عمله، حيث يؤدي مهمة بسيطة، وهي إزالة الأغلفة الواقية من على مكوّنات الشاشات التي تُستخدم لإنتاج "أيفون" وغيرها من الأجهزة.
عمل شياو منذ إصدار "أيفون 5" وصولاً إلى "أيفون 14" بما يصل إلى 10 ساعات يومياً في ظل تكثيف إنتاج الطراز الجديد.
سمع شياو شائعات حول تفشي عدوى كوفيد في المجمع في أوائل أكتوبر. طلبت "فوكسكون" من العمال بعد فترة قصيرة اتباع طرق معينة للتنقل يومياً والتوقف عن أي تجمعات خاصة، وفقاً لإعلانات الشركة ولعمال في المجمع. كما أقامت الشركة حواجز بلاستيكية صفراء ارتفاعها يقارب المترين على طول الطرق لإنشاء ممرات لانتقال العمال بين المساكن والمصنع، لكنَّ زملاء شياو انتهكوا القواعد أكثر من مرة، وتسلّقوا الحواجز للذهاب إلى بلدة مجاورة للمجمع.
لم تعلن "فوكسكون" عن مدى انتشار كوفيد في المجمع، إذ غالباً ما تتشارك مجموعات العمال أماكن سكن ضيقة. لكن في 19 أكتوبر؛ أغلقت مطاعم العمال وفقاً لأوامر السلطات المحلية، بحسب ما ذكر شخص يعمل هناك، وقد طلب عدم كشف هويته بسبب حساسية الأمر، مما أجبر الشركة على التفكير من أجل إيجاد طريقة مناسبة لتوصيل الطعام بسرعة للعمال.
مرض من دون طعام
سرعان ما تسبّب ذلك بحدوث مشاكل، فلم يكن لدى "فوكسكون" فريق عمل يمكنه تجهيز الطعام وتسليمه عدة مرات يومياً، مما اضطرها لتوزيع وجبات الطعام للعمال أثناء مغادرة المصنع. غالباً ما كان الطعام الجاهز ينفد ولا يبقى لدى الكثير منهم سوى الخبز والحليب المعلّب. كما لم يحصل من تغيّب عن العمل بسبب المرض أو العزل بالغرف أحياناً على ما يؤكل، وفقاً لأشخاص كانوا في المجمع وقتها.
كان الطعام رديئاً ويتكون من الأرز وقطع البطاطا والفاصولياء المقلية. قال شياو إنَّ علب الطعام كانت ذات رائحة وعادةً ما غطت الأطباق مادة لزجة، مما جعل بعض العمال يستعيضون عنها بطهي الشعيرية سريعة التحضير، كما نشر بعضهم صور وجبات الشركة على وسائل التواصل الاجتماعي.
قال زنغ غوانغ العشريني الذي يصقل هياكل الهواتف المعدنية بالمصنع إنَّه احتُجز في غرفته مدة يوم دون طعام عقب إبلاغه أنَّه كان على اتصال وثيق بشخص مصاب بالفيروس، وقد دفعه الجوع تلك الليلة لأن ينزل إلى مدخل المبنى ليطلب الطعام من الحراس، وقد وصف ردة فعلهم قائلاً: "كانوا خائفين جداً وكأني كنت أمسك سكيناً".
"خراف" معزولة
تم التأكد أيضاً من وجود مشاكل في اختبار فحص كوفيد اليومي، إذ فحصوا 20 مسحة بلعوم لعمال في أنبوب واحد لتسريع الاختبار وخفض التكلفة، وإذا جاءت النتيجة إيجابية كانوا يعزلون العمال العشرين أصحاب العينات دون مزيد من الاختبارات، بالإضافة لاستبعاد كل العاملين على خط الإنتاج نفسه إذا ثبتت إصابة شخص بالفيروس وإلزامهم جميعاً بدخول الحجر الصحي. بالتالي؛ ارتفع عدد المرضى المحتملين كل ساعة، وتضاءلت أعداد العمال المعافين القادرين على الذهاب للمصنع بوتيرة متسارعة.
قال زينغ إنَّه وُضع في المعزل 3 مرات في أسبوع واحد برغم عدم إصابته بكوفيد.
تراكمت القمامة أحياناً في بعض مساكن العمال لأسابيع نتيجة عدم السماح لأحد بمغادرة المبنى. أطلق العمال لقب "خروف" على زملائهم المصابين لتشابه نطقها مع كلمة "إيجابي" بلغة ماندرين، كما أشاروا عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى من ثبتت إصابتهم برموز تتعلق بالأغنام لتفادي الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي الصينية، التي تحذف أي منشورات تشير إلى توترات في مدينة "أيفون".
زادت أعداد المُجبرين على العزل وتفشت شائعات ومعلومات مضللة، وانتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية يذكر وفاة 8 عاملات داخل غرفة نوم مشتركة مما دفع "فوكسكون" لنشر نفي لذلك، كما قررت هيئات التحقق التأكد من صحة الأخبار لتعلن بعد ذلك أنَّها مجرد شائعات.
العيش بالمهاجع
أُغلقت القرية حيث يقيم شياو في 25 أكتوبر تقريباً، لكنَّه تجاهل مع عمال آخرين القواعد وخرجوا سيراً على الأقدام في الطرق الصغيرة وتسلقوا الحواجز للوصول إلى المصنع لأنَّهم شعروا أنَّ لا خيار آخر لديهم. قال: "على اعتبار أنَّ نتيجة فحصك ليست إيجابية؛ يتعين عليك العمل، كما تعتبر الشركة من غابوا عن 3 نوبات عمل متتالية بحكم المستقيل، ما لم يترك لي أي خيار آخر".
لم يتمكّن بعض جيرانه ذات ليلة من العودة إلى القرية، وناموا في زقاق خارج مبنى خط إنتاج أجهزة "أيفون" التي تبلغ قيمة الجهاز الواحد منها 1000 دولار.
جاءت لحظة انهيار بعض العمال في 28 أكتوبر بعدما أعلنت "فوكسكون" فرض إجراءات صارمة لتشديد تطبيق نظام الحلقة المغلقة، فقد طلبت الشركة من شياو الانتقال للسكن في مهاجع أقامتها للعمال بالمناطق المحيطة، لكنَّه كان قلقاً من إصابته بكوفيد لوجود مصابين في تلك المرافق التي رأى أنَّها غير آمنة.
في ذلك الوقت، لم يستطع العيش في غرفته الصغيرة، حيث أُغلقت كل مطاعم القرية، وتجاوز سعر رأس الملفوف فيها 30 يواناً، أي نحو 10 أضعاف سعره في بكين.
سعت "فوكسكون" للاحتفاظ بالعمال الذين هربوا، فرفعت أجر الوظائف الأساسية 36% إلى نحو 38 يواناً (5.20 دولار) في الساعة.
وعود كاذبة
لكنَّ سياسات جنغجو كانت تقوّض جهود "فوكسكون". فقد أغلقت الحكومة المحلية المنطقة المحيطة بمصنع الشركة الرئيسي مدة 7 أيام في الثاني من نوفمبر، وأرسلت 2000 شخص من كل أنحاء مقاطعة خنان لجمع القمامة في "فوكسكون" وتعقيم محيط المجمع.
ذات ليلة بعد السابعة مساءً، قال مالك المنزل لشياو إنَّ تلك كانت فرصته الأخيرة للهرب، فسارع لحزم متعلقاته وقفز مع اثنين من زملائه في سيارة "فولكس واجن" صغيرة. لم يقترب الحراس عند نقاط التفتيش الصحية على طول الطريق السريع من تلك السيارة بعدما علموا أنَّ الأشخاص بداخلها قادمون من "فوكسكون"، فأصبحت الرحلة إلى المنزل أسهل قليلاً. لدى عودته إلى مسقط رأسه، تلقى شياو مكالمات عديدة من مسؤولين محليين يعرضون عليه مكافآت خاصة إن عاد إلى مدينة "أيفون"، وبالفعل "انصاع لضغوط الحياة" وعاد إلى مصنع "أبل" في أواخر نوفمبر.
أعرب شياو وآخرون عن دهشتهم عندما عرفوا أنَّ "فوكسكون" لن تعطيهم 30 يواناً إضافياً على أجر الساعة كما وعدوهم إلا في حال بقوا في وظائفهم حتى منتصف مارس. أكدت "فوكسكون" للعمال أنَّها تطبق بذلك قواعد العقد، لكنَّ العديد من العمال شعروا أنَّهم يتعرضون لاحتيال.
الجهود ذهبت هباءً
اندلعت الاحتجاجات في وقت متأخر في 22 نوفمبر، وبدأ العنف بعد منتصف الليل مع نزول العمال الغاضبين إلى الشارع، إذ حاصر بعضهم سيارة شرطة، واشتبكوا مع رجال الأمن الذين ارتدوا بدلات واقية بيضاء. كما اقتحم عمال غرف اجتماعات الشركة ليطلبوا من مديري "فوكسكون" عدم الجمع بينهم وبين زملائهم المصابين، وصرخ أحد العمال في وجه مدير محتجز هناك: "أنت ترسلنا إلى الموت".
عرضت "فوكسكون" منذئذ 1400 دولار كمكافأة نهاية خدمة لأي شخص يختار المغادرة سعياً لنزع فتيل التوتر وتخفيف سخط العمال، بحسب ما ذكرت "رويترز" الجمعة نقلاً عن مصادر في "فوكسكون". بدأت الشركة حالياً إطلاق حملة توظيف جديدة لاستبدال المغادرين، بالعودة لما قامت به من قبل حين هرب آلاف العمال من المجمع لأول مرة، لكنَّ هذا الجهد يهدده الفشل مع ارتفاع حالات كوفيد في الصين لمستويات قياسية بينما يكافح المسؤولون لاحتواء تفشي المرض في المدن مثل جنغجو.
بعد أعمال الشغب؛ بدأ شياو حزم أمتعته من جديد مبيناً أنَّه سيبقى في جنغجو للبحث عن وظيفة بمكان آخر، وقال: "ليست (فوكسكون) وحدها التي تسعى نحو الموظفين".