يرسو يخت "أماديا" (ِAmadea) الفاخر في ميناء سان دييغو منذ يونيو، حيث سيستقر اليخت المُلزَم قانوناً بالبقاء في الميناء الأميركي لعدة أشهر أخرى وربما سنوات. تقدر قيمته بـ 325 مليون دولار، إذ يبلغ طوله 106 أمتار ويتألف من ستة طوابق. يطل اليخت الفاخر على حديقة قرب الماء حيث تأتي العائلات للتنزه والصيادين لصيد سمك الماكريل. تزعم الولايات المتحدة أن مالك "أماديا" هو أحد أعضاء النخبة الروسية الحاكمة الخاضعين للعقوبات، حيث استندت الحكومة الأميركية إلى مشتريات مالك اليخت الأخيرة التي تضمنت فرن بيتزا جديداً وزلاجات نفاثة فائقة السرعة. تضمنت المقتنيات الفاخرة على متن اليخت آلتَيْ بيانو صغيرتين زُينت إحداهما برسوم يدوية، وحوض سباحة من الفسيفساء بطول 10 أمتاز، وما قد تكون إحدى آخر بيضات فابرجيه التي صممت بتكليف من العائلة الإمبراطورية الروسية وتبلغ قيمتها ملايين الدولارات. باتت كل تلك المقتنيات الآن تحت رعاية دافعي الضرائب الأميركيين.
تكاليف باهظة
يتطلب اليخت الفاخر الكثير من العناية، إذ لا تمكن مصادرة واحد من تلك اليخوت ثم تركه راسياً دون رعاية حتى تنتهي الحرب الروسية ضد أوكرانيا. يقبع اليخت المصادر في بيئة معادية لسلامته قوامها المياه المالحة والرطوبة التي تسبب الصدأ والعفن ما لم يعمل نظام تكييف الهواء. يعتمد "أماديا" على أنظمته الخاصة لتوليد الطاقة وتحلية المياه التي تنبغي صيانتها، ويجب تشغيل العنفات بانتظام لمنع تراكم محار البرنقيل والتصاقه بجسم اليخت. كما يتعين غسل اليخوت أسبوعياً لتجنب تراكم الأوساخ التي يمكن أن تلحق الضرر بالهيكل الخارجي، ما يستلزم إعادة طلائه بتكلفة تبلغ ملايين الدولارات.
أين اختفت يخوت الأثرياء الروس الفخمة؟
كما تنبغي مراقبة حبال الإرساء حتى لا تتمزق بفعل الرياح العاتية أو التيارات القوية. عادةً ما يعمل على متن "أماديا" طاقم مكون من 33 فرداً، وما يزال بحاجة لنصف هذا العدد تقريباً من المهندسين إلى العمال للعمل بالتناوب على متن اليخت والتواجد في حالات تسرب الوقود أو نشوب حرائق. تُلزم شركة التأمين على اليخت مالكيه بكل أعمال الصيانة تلك، فيما تنطوي وثيقة التأمين على تكلفة ضخمة في حد ذاتها. بلغت رسوم إرساء أي يخت مُصادر في سان دييغو نحو 1000 دولار في اليوم بإجمالي يتجاوز 120 ألف دولار حتى الآن، ما يجعل التكلفة السنوية لإبقاء "أماديا" في الميناء تداني 10 ملايين دولار.
مصادرة "أماديا"
عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير، بدأت اليخوت الفخمة المملوكة للنخبة الروسية الحاكمة تتسابق حول العالم بحثاً عن مياه بمنأى عن نطاق العقوبات. أوقفت بعض اليخوت أجهزة الإرسال والاستقبال كي يستحيل تتبع تحركاتها، لكن يرجح أن "أماديا" أبقى على أنظمة الاتصال عاملة، حيث أبحر أكثر من سبعة آلاف ميل بحري من جزيرة سينت مارتن في البحر الكاريبي باتجاه ميناء لاوتوكا في فيجي. وصل اليخت إلى وجهته في وقت مبكر من مساء يوم في منتصف أبريل. كان أفراد الطاقم يتوقعون أن يأتي من يحل محلهم في غضون أيام قليلة، لكن بدل ذلك اعترضهم ثلاثة من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي على الفور فاحتجزوا القبطان وعدة أشخاص آخرين في حاوية شحن مكيفة حيث استجوبوهم حتى الصباح الباكر. أراد العملاء معرفة سبب كثرة أعداد أفراد الطاقم ولماذا استخدم أفراده أسماء رمزية (G-1 و G-2) للإشارة إلى الركاب، ولماذا كانوا يخفون هوية المالك الحقيقي لليخت قطب الذهب الروسي سليمان كريموف الذي كانت الولايات المتحدة قد فرضت عليه عقوبات في 2018. قال أفراد طاقم "أماديا" إن استخدام اليخوت الفاخرة أسماء رمزية للإشارة إلى ملاكها يعد ممارسة معتادة؛ نافين المساعدة في إخفاء هوية أي شخص، وفقاً لأشخاص مطلعين على التحقيق. اعترض عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي رحلة قبطان "أماديا" الآخر واثنين من أفراد الطاقم خلال توقفهم لفترة قصيرة في لوس أنجلوس في طريقهم إلى فيجي واستجوبوهم لساعات أيضاً. ثم ألغى العملاء التأشيرات الأميركية لأفراد الطاقم واستنسخوا هواتفهم المحمولة للحصول على أدلة ثمّ رحلوهم. لم يستجب كريموف لطلبات التعليق.
جميل لكنه كريه
حصلت الحكومة الأميركية في يونيو على إذن من محكمة فيجي لمصادرة "أماديا" بعد معركة قانونية مطولة. استعان عملاء المارشال الأميركيين بشركة للعثور على طاقم ليبحر باليخت إلى سان دييغو، ثم تعاقدت من الباطن مع شركات أخرى للمساعدة في إدارته. ما يزال "أماديا" راسياً بجوار الميناء الأميركي تحيط به الأسلاك الشائكة وإشارات تحذير من التعدي على ممتلكات الغير إلى أن تكتشف وزارة العدل الأميركية كيفية التصرف فيه. قال هوغو سانشيز، أحد سكان سان دييغو، فيما كان يصطاد سمك الماكريل بجوار اليخت الفاخر: "رغم جماله، إلا أنه منظر كريه عندما أحاول الصيد. يبدو الأمر وكأن أحدهم يتباهى أمامك ليجعلك تشعر بالسوء".
الأثرياء لا يعبؤون بالركود.. ازدهار قياسي في مبيعات اليخوت الفاخرة
لو كان هناك رمز للثراء الروسي الكبير والغامض لكان ذلك يختاً فاخراً. لقد اشترى المليارديرات الروس بعضاً من أكبر اليخوت في العالم عبر شركات خارجية مسجلة في الملاذات الضريبية مثل برمودا أو جزر كايمان. تحوي بعض اليخوت على غرف سينما وغواصات وأسرة خارجية لمشاهدة النجوم. فيما يضم بعضها حمامات ومسابح مُدفأة وأحواض غطس ومشارب كبيرة. تعتبر أحجام بعض اليخوت ضخمة للغاية بحيث تصبح كلمة "فاخرة" غير ملائمة لوصفها؛ لذا غالباً ما تُسمى التي يزيد طولها عن 80 متراً "ميغايخت" أو"غيغايخت". يملك الروس معظم تلك اليخوت الـ 153 بواقع 30 يختاً تقريباً، وفقاً لموقع "سوبر يات تايمز" "SuperYacht Times".
أنشأت وزارة العدل فرقة العمل "كليبتو كابشر" (KleptoCapture) بمجرد اندلاع الحرب لتعقب المتهربين من العقوبات وملاحقة ممتلكاتهم، لكن قليلون توقعوا أنها ستطارد اليخوت الفاخرة على الجانب الآخر من العالم. فقد صادرت الوزارة يخت "تانغو" (Tango) في إسبانيا في مارس، ثم صادر عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي "ألفا نيرو" (Alfa Nero) في أنتيغوا في البحر الكاريبي بعد خمسة أشهر في إطار أحد التحقيقات الجارية.
ملاحقات أوروبية
كما انشغلت حكومات غربية أخرى بمصادرة اليخوت الروسية الفاخرة. فقد احتجزت السلطات الإيطالية ما لا يقل عن أربعة يخوت عملاقة، بما فيها يخت تقول الولايات المتحدة إن هناك صلة تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتبلغ قيمته 650 مليون دولار، حيث يضم مهبطين للمروحيات ومسبحاً يمكن تحويله إلى ساحة للرقص. كما احتجزت السلطات الإيطالية أكبر يخت شراعي في العالم وقيمته 550 مليون دولار، حيث يوجد به صاري رئيسي يتجاوز ارتفاعه ارتفاع برج ساعة "بيغ بن" وغرفة مشاهدة زجاجية تحت الماء. بينما احتجزت ألمانيا يخت "ديلبار" العملاق بسبب صلته بالملياردير أليشر عثمانوف الخاضع للعقوبات، الذي يقول إنه استأجره من صندوق لا يديره. تقدر قيمة "ديلبار" بنحو 600 مليون دولار، حيث يعد أحد أكبر اليخوت العملاقة في العالم من حيث الحجم بطول 150 متراً. تطلب تفتيش اليخت أكثر من 60 شرطياً. لقد احتجزت الحكومات الغربية أكثر من عشرة يخوت عملاقة ربطتها بأباطرة الأعمال الروس منذ بدء الحرب. تبلغ قيمة اليخوت المصادرة 4 مليارات دولار على الأقل، حسب ما نقلت بلومبرغ نيوز.
يخوت روسية فاخرة بأكثر من ملياري دولار محتجزة في أوروبا
تبدو ملاحقة هذه اليخوت البارزة كعمل من أعمال العدالة نظراً للموت والدمار جرّاء عمليات القوات الروسية في أوكرانيا. تهدف هذه الخطوات لزعزعة استقرار النخبة الروسية و"برهنة أن قيادات الشعب الروسي سرقته على مدى فترة طويلة جداً" حسبما يقول داليب سينغ، نائب مستشار الأمن القومي السابق للرئيس جو بايدن.
تكاليف المصادرة
لقد شكلت مصادرة اليخوت الروسية نجاحاً على صعيد العلاقات العامة بالنسبة للحكومات الغربية. لكنها، على العكس من ذلك، كانت بمثابة فوضى عارمة من الناحية القانونية والمالية. فقد بقيت معظم اليخوت مجمدة، ما أدى لاستنزاف الأموال. يتحمل دافعو الضرائب هذه التكاليف في بعض البلاد، إذ يمكن أن يكلف احتجاز أحد اليخوت ما بين 10% و15% من قيمة اليخت سنوياً للحفاظ على صلاحيته للعمل، ما يصفه أحد المحامين بأنه "ضريبة تباهي" الأثرياء. تتراجع تكلفة صيانة اليخوت عندما لا تبحر في البحر، لكن حتى وفق تقدير شديد التحفظ لصيانة اليخوت بواقع 3% من قيمتها فستدفع الحكومتان الأميركية والإيطالية أكثر من 50 مليون دولار سنوياً لصيانة أساطيل اليخوت الضخمة المصادرة. قال مسؤولو الموانئ في فرنسا وإسبانيا إن دافعي الضرائب ليسوا هم من يتحملون تكاليف صيانة اليخوت ولكن المالكين أنفسهم حتى مع فرض العقوبات. غير أن استمرار هذا الاتفاق يعد أمراً مستبعداً في ظل احتدام الحرب واستمرار تجميد الأصول. وافقت محكمة في برشلونة على طلب بمصادرة أحد اليخوت الفاخرة بعدما أخفق مالكه بدفع تكاليف الصيانة لمرفأ خاص في إسبانيا.
تذمر مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان من مدى سخافة الوضع في يونيو، بعد فترة وجيزة من احتجاز "أماديا"، فقال عبر ميكروفون كان مفتوحاً قبل بدء احتفالية في مركز الأمن الأميركي الجديد: "هل تعرف ما هو الشيء الأكثر جنوناً؟ عندما نصادر أحد اليخوت، لابد أن ندفع تكاليف صيانته. بعض الناس يتقاضون مالاً لصيانة اليخوت الروسية العملاقة نيابةً عن حكومة الولايات المتحدة".
مأزق قانوني
قد يستغرق الأمر سنوات لمعرفة كيفية التصرف في هذه اليخوت، وربما تقرر بعض الدول مصادرتها وبيعها. تعهدت الولايات المتحدة أن تفعل ذلك عبر "المصادرة"، وهي عملية معقدة تتضمن تقديم دليل للقاضي يفيد شراء الأصل بعائدات جريمة ما. في هذه الحالة، تكون الجريمة هي انتهاك العقوبات. لكن أولاً يتعين على الولايات المتحدة إثبات هوية المالك فعلياً، وهذا ليس سهلاً نظراً لشبكة الشركات الوهمية المعقدة التي يستخدمها عديد من المليارديرات الروس. يبدو أن الحكومة تبذل جهوداً في هذ الصدد، حيث تلقى بعض أفراد الطاقم بالفعل مذكرات استدعاء. قارن ستيفان كاسيلا، المدعي الفيدرالي السابق والمتخصص في مصادرة الأصول، تحديات إثبات ملكية المليارديرات الروس للأصول بفعل الشيء نفسه مع أباطرة المخدرات: "تجار المخدرات لا يحوزون أي شيء؛ لكن صديقاتهم هن من يملكن كل شيء. لذلك ستمتد عملية التقاضي بشأن ذلك لفترة طويلة". رفضت وزارة العدل التعليق على الأمر.
المخاوف تخيم على صناعة اليخوت مع تزايد العقوبات على الأثرياء الروس
تواجه أوروبا تحدياً أصعب، إذ لا تشكل انتهاكات العقوبات جرائم من الأساس في عديد من الدول الأوروبية، وهو أمر يحاول الاتحاد الأوروبي تعديله. بينما يستند الروس المتضررون إلى ذلك في سعيهم لاستعادة ممتلكاتهم المحجوزة.
يؤثر مآل اليخوت المحتجزة، وكذلك الفيلات والحسابات المصرفية وحتى احتياطيات البنك المركزي الروسي المجمدة، على أوكرانيا التي هي في أمس الحاجة إلى التمويل. تقدر حكومتها تكلفة إعادة بناء الطرق والجسور والمنازل والمصانع وشبكة الكهرباء المدمرة بنحو 750 مليار دولار. يحاول المشرعون الأميركيون والأوروبيون معرفة كيفية توظيف الأصول الروسية لدعم أوكرانيا دون تقويض حقوق الملكية أو إثارة كثير من النزاعات القانونية. قال رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل في مايو إنه يؤيد مصادرة الأصول المملوكة للأفراد الخاضعين للعقوبات للمساعدة في إعادة بناء أوكرانيا.
قال غلين فايس، المحامي الأميركي المختص بالشؤون البحرية، إن المعارك القانونية طويلة الأمد لا تفيد أي طرف: "لا تحاربوا للحصول على اليخت، بل للحصول على الأموال. اليخوت تحتاج لكثير من الرعاية. إنها بصدد التدهور كل يوم".
فريق ناجح
بدأ كبار رجال الأعمال الروس تشغيل مزيد من اليخوت باهظة الثمن قبل عقد مع انتعاش الاقتصاد من الأزمة المالية العالمية. كان لديهم نموذج يحتذى به؛ ألا وهو مؤسس شركة "مايكروسوفت" المشارك الملياردير الراحل بول ألين. اعتُبر "أوكتوبوس" (Octopus) الذي ملكه ألين أكبر يخت استكشافي فاخر مشيد على الإطلاق لدى إبحاره في 2003، حيث استخدم ألين غواصته المخفية لاسكتشاف حطام السفن. استعان عديد من المليارديرات الروس بالثنائي الذي استعان به ألين: المهندس المعماري إسبن أوينو، وهو نرويجي هادئ الطباع، وصانعة السفن الألمانية "لورسن" (Lürssen).
يجسد إيغور سيتشين، الرئيس التنفيذي لشركة النفط العملاقة "روزنفت" (Rosneft) التي تديرها الدولة، هذه الحقبة. ينفي سيتشين امتلاك أي يخوت فاخرة، لكنه كثيراً ما استخدم "سانت برنسيس أولغا" (St. Princess Olga) البالغ طوله 85 متراً، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر.
واجهة لإخفاء الملكية
"آموري فيرو" الراسي في ميناء "لاسيوتا" شرق مرسيليا ضخم لدرجة أنه تمكن رؤيته من الطرف الآخر من المدينة. دشن فيليب بونو، الذي تمكنه رؤية اليخت الفاخر من شرفته، عريضة عبر الإنترنت تطالب باستخدامه كفندق للاجئين الأوكرانيين. حصدت العريضة ما يقرب من 29 ألف توقيع. قال بونو، وهو مهندس متقاعد بلغ عمره 80 عاماً: "أشعر بالغضب، ليس منطقياً تواجد اليخت في الميناء دون استخدام".
ما تزال كثير من الأمور بشأن "آموري فيرو" بمثابة لغز. قال مسؤولو الجمارك الفرنسيون إن سيتشين هو المستفيد من الشركة الخارجية التي تمتلك اليخت، لكن المدعي العام في مرسيليا يحاول إثبات ذلك في الوقت الحالي. ينفي سيتشين امتلاكه لليخت الفاخر، ويقول محامون يمثلون شركة "كازيمو تريد آند إنفست" (Kazimo Trade & Invest)، المسجلة في جزر فيرجن البريطانية، إن المالك الحقيقي لا يخضع لعقوبات لكنهم يمتنعون عن تحديد هويته، وفقاً لإجراءات المحاكمة. قال مصدر مقرب من مجموعة "إم بي 92" (MB92 Group)، الشركة التي كانت مسؤولة عن صيانة "آموري فيرو" عندما احتجز في البداية، إنها كانت تتلقى الأموال من قبل "كيان غير خاضع للعقوبات" لإبقاء اليخت في الميناء، لكن المصدر لم يذكر المزيد.
الولايات المتحدة تفرض عقوبات جديدة على يخوت "مرتبطة" بالرئيس الروسي
يرسو يخت "كريسنت" المطلي بالأزرق الداكن، والذي يضم مرآب مروحيات ومسرح سينما في ميناء "تاراكو" على بعد ساعة من برشلونة. لم يجد مسؤولو الجمارك الإسبان أي شيء يربط اليخت بسيتشين، الذي نفى أي صلة له به. لكن تبين أن أحد أفراد النخبة الروسية الحاكمة غير المعروفين ويُدعى إدوارد خدياناتوف يملك "كريسنت"، كما يملك "أماديا" على الورق على الأقل، لكن الولايات المتحدة تصر على أنه مجرد "واجهة" لحيازة اليخت الفاخر نيابة عن كريموف. شغل خديناتوف منصب الرئيس التنفيذي لشركة "روزنفت" حتى 2012 عندما تولى سيتشين منصبه، ثم أسس لاحقاً شركته الخاصة في مجال النفط والغاز. باختصار، بدا الأمر كما لو أن إسبانيا قد تضطر إلى الإفراج عن اليخت العملاق لأن خدياناتوف لا يخضع لعقوبات في أي مكان. لكن أدرجه الاتحاد الأوروبي على القائمة السوداء في أوائل يونيو بتهمة "الانتفاع من حكومة الاتحاد الروسي".
تحميل التكاليف
كما هو حال عديد من المعاملات التجارية التي تنخرط فيها النخبة الروسية المتنفذة، فإن ما على الورق لا يعكس الواقع دائماً. لقد كان سيتشين مشاركاً عن كثب في تصميم وبناء "كريسنت"، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر. رفضت السلطات الأميركية والإسبانية التعليق على ما إذا كانت تعتقد أن خديناتوف تصرف مرة أخرى نيابة عن سيتشين لتجنب العقوبات. من جانبه، لم يرد سيتشين على تساؤلات حول استخدام اليخت أو الإشراف على تصميمه فيما مضى. فيما يقول مسؤولون من البحرية الإسبانية إن المالك يتحمل تكاليف إبقاء اليخت العملاق في ميناء تاراكو وتبلغ 15 مليون يورو (14.6 مليون دولار) سنوياً. سيتحمل شخص ما هذه التكاليف، لكنهم رفضوا تحديد هويته.
مال روسيا ويخوتها يتجهان لحيث يتضاءل النفوذ الأمريكي
يصادف أن خديناتوف كان أيضاً المستفيد من مجموعة من الشركات الوهمية التي تمتلك يخت "شهرزاد" (Scheherazade) الفاخر وقيمته 650 مليون دولار، الذي احتجزته السلطات الإيطالية في ميناء كرارا في توسكانا في مارس، وفقاً لإفادة خطية من الولايات المتحدة. يجعل هذا خدياناتوف، غير المدرج على أي قائمة معترف بها لأثرى أثرياء العالم، المالك ظاهرياً لثلاثة يخوت تبلغ قيمتها نحو 1.6 مليار دولار، جميعها من تصميم أوينو وشيدتها شركة "لورسن". كشف تحقيق أجراه الفريق المسؤول عن زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني دليلاً على أن عديداً من أفراد طاقم "شهرزاد" عملوا في الوكالة المسؤولة عن أمن بوتين. يضاهي طول اليخت العملاق البالغ 140 متراً طول مدمرة بحرية. ينفي الكرملين أن يكون لبوتين صلات باليخت الفاخر، كما لم يرد خدياناتوف على طلب مفصل للتعليق، ورفضت شركة "لورسن" التعليق على الأمر. تتحمل الوكالة الإيطالية لإدارة الممتلكات الحكومية حالياً تكاليف صيانة "شهرزاد" وثلاثة يخوت أخرى مرتبطة بروسيا كانت السلطات الإيطالية قد احتجزتها، حسبما يقول أشخاص مطلعون على الوضع. تبلغ التكلفة السنوية المقدرة لصيانة اليخوت 40 مليون دولار تقريباً.
لوائح جديدة
يقبع يخت "فاي" (Phi) الأزرق بمنطقة المرفأ القديم بجزيرة "آيل أوف دوجز" بعيداً عن متاهة ناطحات السحاب في الحي المالي بلندن "كناري وارف". استقر اليخت، البالغ طوله 58 متراً، في مدخل هادئ قبالة نهر التايمز منذ نهاية مارس. لم يُدرج مالك "فاي" سيرغي نومينكو، وهو مطور عقارات روسي ومستورد أغذية، على أي قائمة عقوبات. لكن وزارة النقل البريطانية تبنت فور اندلاع الحرب لائحة تنظيم واسعة النطاق على نحو استثنائي تسمح لها بمنع أي يخت أو طائرة يملكها أو يديرها أو يتحكم فيها شخص مرتبط بروسيا.
عمل القبطان النيوزيلندي جاي بوث لصالح نومينكو لسنوات، وكان على متن اليخت برفقة ستة من أفراد الطاقم الآخرين في أواخر سبتمبر، حيث اشتغلوا بتلميع وتنظيف اليخت ومحتوياته وطهي الغداء لأنفسهم. يعتبر "فاي" يختاً متواضعاً نسبياً بمعايير اليخوت الفاخرة، لكن ألواح جدرانه مكسوة بالجلد الطري المخدد، فضلاً عن تصميم سطح اليخت من خشب الساج وتزيينه بألواح أرضية من خشب البلوط المتموج وسجاد رمادي فخم. كان اليخت قد وصل لتوه إلى لندن لإضفاء لمسات نهائية عليه حين احتجزته السلطات البريطانية. لم يستخدم "فاي" قط، لدرجة أن رائحته كانت كما السيارة الجديدة. كان قبو النبيذ، الذي كان من المفترض أن يُنظر إليه من أعلى أثناء السير على طول ممر بأرضية زجاجية، يخلو من أي زجاجات. كما كانت طاولة الطعام المستديرة المطلية المعدة لاستقبال 12 شخصاً وكذلك كؤوس النبيذ ما تزال مغلفة بالبلاستيك.
نشر غرانت شابس، وزير النقل آنذاك، مقطع فيديو على تطبيق "تيك توك" حين احتجاز اليخت في نهاية مارس، وصف فيه المالك بأنه أحد أعضاء النخبة الروسية المتنفذة و"صديق بوتين"، وهو ادعاء ينفيه نومينكو. قال بوث إن مطور العقارات الروسي: "لم يلتق ببوتين قط". ينوي نومينكو الطعن بشرعية اللوائح الجديدة في بريطانيا، لكنه يدفع تكاليف الصيانة وطاقم عمل اليخت حالياً.
غض الطرف
توافد بعض أثرى أثرياء العالم على معرض موناكو لليخوت في نهاية سبتمبر. خلع المشترون المحتملون من الأميركيين والألمان والإيطاليين صنادل "كريستيان ديور" وأحذية "لورو بيانا" المصنوعة من الجلد المدبوغ قرب حافة المياه ليقفزوا إلى واحد من 117 يختاً فاخراً كانت معروضة هناك. احتوى أحد اليخوت الصغيرة نسبياً، ويملكه ملياردير روسي غير خاضع للعقوبات، مجموعة من لوحات أصلية من أعمال إدوارد هوبر وإيغون شييل محمية بالزجاج ونظام تكييف قوي للغاية. بيع اليخت البالغ طوله 50 متراً لقاء 27.5 مليون يورو.
أثرياء روسيا يواجهون صعوبات لإيجاد أماكن آمنة ليخوتهم العملاقة
يتجمع الأعضاء والضيوف لتناول المشروبات كل مساء في نادي اليخوت في موناكو، حيث يجلسون على أرائك بيضاء في حانة ذات طابع بحري. لم يرغب أحد بالتحدث علناً عن الروس الخاضعين للعقوبات أو اليخوت الفاخرة الخاصة بهم. بدا مجتمعهم، الذي يتسم بالسرية في أحسن الأحوال، على استعداد للتظاهر بأن الأموال الروسية التي أحياناً ما تكون مبهمة المصدر لم تمر عبره أبداً. لكن لم يتبنَّ الجميع هذا الموقف، حيث وزع أحد الأشخاص منشورات ملطخة بدماء مزيفة وألوان العلم الأوكراني في مطعم بجانب الميناء، غير أن المنشورات أزيلت سريعاً. استهدفت المنشورات "بيرجس" (Burgess)، شركة الوساطة البارزة، حيث ظهرت المنشورات في نفس الوقت الذي ظهر فيه تقرير جديد غير مؤكد يزعم أن الشركة كانت تبيع يختاً راسياً في جزر المالديف يملكه أحد أفراد النخبة الروسية المتنفذة الخاضعين للعقوبات. تنفي "بيرجس" أن مالك اليخت يخضع لعقوبات؛ مؤكدةً أنها شركة تمتثل للقانون. كما سُمع وسطاء ومحامون آخرون في أماكن أخرى يناقشون كيفية جني الأموال من صيانة اليخوت الروسية الخاضعة للعقوبات في دبي وتركيا. لقد أضافت هذه الشائعات المنتشرة شعوراً من القلق على فعاليات المعرض.
سحابة لا تختفي
فرضت الولايات المتحدة عقوبات في يونيو على شركة "إمبريال ياتس" (Imperial Yachts)، وهي شركة وساطة مقرها موناكو، لتقديمها خدمات إلى "الدائرة المقربة من بوتين"، شملت عدداً من اليخوت المحتجزة حالياً. عادةً ما يستحيل عمل الشركات المدرجة على القائمة السوداء للولايات المتحدة، لكن بعد ظهر يوم الجمعة خلال عرض اليخوت، كان خمسة أشخاص على الأقل يعملون في مكتب الشركة الكائن بالطابق السابع الذي تميزه تصميمات على طراز "آرت ديكو" وإطلالة على الميناء. أكدت جوليا ستيوارت، مديرة شركة "إمبريال ياتس"، في مقابلة هاتفية قصيرة أنها تواصل العمل وأنها تحاول تبرئة اسم الشركة. وصفت "إمبريال ياتس" في بيان اتهامات الحكومة الأميركية بأنها "باطلة".
قال أوينو، مهندس اليخوت الفاخرة: "أخبرني أحدهم ذات مرة أن الثروة تشبه إلى حد ما السحابة التي لا تختفي أبداً؛ بل تطوف حول العالم فحسب". يعمل أوينو في مكتب في موناكو ذو واجهة زجاجية مطلة على البحر بالطبع وتزين أحد جدرانه صورة التقطت من الجو لـ"أماديا"، فضلاً عن احتفاظه بصندوق زجاجي يحوي نموذجاً مصغراً من "ديلبار". بدا أوينو، الذي غزا الشيب سالفيه، متحفظاً في تصريحاته فلم يتحدث عن عملاء بعينهم، لكنه قال إن معظمهم يشاركون شخصياً بتصميم يخوتهم. اضطر مهندس اليخوت الفاخرة لإلغاء عقدين بين عشية وضحاها بعد الغزو الروسي، لكنه بدا غير منزعج من العقوبات رغم أنه لن يفضي بكثير عن الأمر.
بيع يخت مملوك لملياردير روسي خاضع لعقوبات بـ 38 مليون دولار في مزاد
تحدث أوينو عن اليخوت العملاقة خاصة تلك التي صممها، والعالقة في المياه الضحلة بعيداً عن متناول أصحابها. قال أوينو بينما يعتريه القلق: "لا يفيد اليخوت بقاؤها دون استخدام. يجب أن تحلق الطائرة دائماً، كما يجب أن يبحر اليخت دائماً. يتعين الاعتناء بها وإلا ستتردى حالتها بسرعة كبيرة بسبب عديد من الأنظمة التي تحتاج للتشغيل. يمكن إصلاح اليخوت غير المستخدمة، لكن ذلك ينطوي على تكلفة كبيرة، ما يجعلني أتساءل من الذي سيتحملها؟"
بيع أخيراً أول يخت خاضع للعقوبات يملكه رجل أعمال روسي في مزاد علني، لكن ذلك كان على خلفية ديون مستحقة السداد. كان ذلك يخت "أكسيوما" (Axioma)، البالغ طوله 72 متراً، قد أوقف في جبل طارق لأن مالكه لم يتمكن من سداد قرض من بنك "جيه بي موغان تشيس" بقيمة 20.5 مليون يورو. دفع مشتر لم يكشف عن هويته 37.5 مليون دولار لشراء اليخت، أي نصف ما كان متوقعاً فقط.
غير أن مصادرة يخت وبيعه لأن شخصاً روسياً خاضعاً للعقوبات يملكه أمر مختلف. قال ستة من وسطاء بيع اليخوت والمحامين المتخصصين بالشؤون البحرية إن مخاطر شراء يخت مصادر ستخيف معظم المشترين. ما الذي سيحدث إن أبحر يخت ضخم في مياه محايدة تحت ملكية جديدة وظهر مالكه القديم من النخبة الروسية المتنفذة ليطالب باستعادته؟ من يستطيع أن ينام قريراً مع هذه المخاوف؟ ذكر عديد منهم عبارة "خردة معدنية" في تكهنات حول مستقبل اليخوت التي طالتها العقوبات.
لكن هذا هو بالضبط مضمون التشريع الذي يعكف المشرعون على صياغته لتسهيل بيع الأصول الروسية المجمدة. سيسمح بند في قانون تفويض الدفاع الوطني الأميركي للسنة المالية 2023، والذي يجب أن يمرره الكونغرس هذا العام، لوزارة العدل بمصادرة الأصول الروسية واستخدام العائدات لمساعدة أوكرانيا. كما يدرس البرلمان الأوروبي توجيهاً من شأنه تخفيف قوانين المصادرة، بما في ذلك عند "توافر جميع الأدلة على ارتكاب جريمة جنائية وتعذر استصدار حكم بالإدانة".
يُرجح أن تظل أصول روسية بمليارات الدولارات رهينة لمأزق قانوني لسنوات. اليخوت الفاخرة ستكون براقة ومغسولة ومكيفة الهواء فيما هي حبيسة الموانئ المشمسة، وستكون كذلك أبرز الأدلة الملموسة على معاناة الغرب لتفكيك النخبة الروسية ومعاقبة بوتين على شن الحرب.