ابتدع "فيرست بوسطن" أعمال الاندماج والاستحواذ.. لكن كيف سيكون بعد فصله عن "كريدي سويس"

هل العالم بحاجة لبنك استثماري جديد ينسلخ عن "كريدي سويس"؟

صورة تعبيرية لتخلي "كريدي سويس" عن "فيرست بوسطن" - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية لتخلي "كريدي سويس" عن "فيرست بوسطن" - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تعيد مجموعة "كريدي سويس" (Credit Suisse Group) المصرفية عقارب الساعة إلى الوراء بسعيها لإنقاذ نفسها من سلسلة فضائح ومآزق مالية ألمّت بها عبر تفكيك الإمبراطورية التي بنتها بتكلفة باهظة على مدى خمسة عقود، لتعود إلى جذورها كمصرف يخدم كبار أثرياء العالم. لكن قرار المجموعة التي تتخذ في زيوريخ مقراً بفصل المصرف الاستثماري الأميركي "فيرست بوسطن" (First Boston). الذي استحوذت عليه في 1990، ليصبح كياناً قائماً بذاته، يعطي إحساساً بأنها تحدّث بالرجوع إلى الماضي. قابلت مؤسسات وول ستريت القرار بقدر لا بأس به من التشكيك، حيث يُنظر إلى هذا كتعبير عن حنين للماضي أكثر من كونه خطوة استراتيجية.

اليوم، غالباً ما تكون المصارف الاستثمارية إما عملاقة تقدّر قيمتها بتريليونات الدولارات تنخرط في أنشطة أعمال أكثر استقراراً وتتاح لها إمكانية الحصول على تمويل من الاحتياطي الفيدرالي في الأوقات التي تسود فيها المخاوف، أو مصارف متخصصة بموازنات صغيرة تضمّ مجموعة من الموظفين الكهول المخضرمين القادرين على إبهار مجالس الإدارات.

إلا أن مصرف "سي إس فيرست بوسطن" (CS First Boston) الجديد سيجد نفسه وحيداً في المنتصف. يُتوقع أن تكون ميزانية الشركة الجديدة 10 مليارات دولار، حسب أشخاص مطلعين على المسألة لم يرغبوا بالإفصاح علناً عن تفاصيل سرية. سيجعله ذلك أكبر من منافسيه "لازارد" (Lazard) و"إيفيركور" (Evercore)، لكنه لن يعدو كونه نقطة في بحر المصارف العملاقة مثل "جيه بي مورغان تشيس" و"غولدمان ساكس" و"مورغان ستانلي" وغيرها في مصاف البنوك الاستثمارية الكبرى. سيتنافس "سي إس فيرست بوسطن" مع هذه المؤسسات فيما يعمل على إعادة إحياء علامة تجارية قديمة لم تستخدم منذ 17 عاماً. قال بيتر هان، الأستاذ الفخري في معهد لندن للأعمال المصرفية والتمويل: "الأمر أشبه بالسفر عبر الزمن، وأعني السفر بعيداً جداً... في نهاية المطاف إنها تبدو كمحاولة يائسة".

قصة "فيرست بوسطن"

كان "فيرست بوسطن" اسماً لا يستهان به في أيام مجده في حقبة الثمانينات المزدهرة. فقد أطلق جو بيريلا، الذي غالباً ما ينظر إليه على أنه الأب الروحي لعمليات الدمج والاستحواذ، خدمة الاستشارات في مجال الاستحواذ على الشركات، ووضعها على الخارطة خلال فترة عمله هناك. كما كان لاري فينك، رئيس "بلاك روك" التنفيذي، أصغر شخص يشغل منصب مدير إداري في "فيرست بوسطن" حين اعتبر نابغة في مجال تداول سندات الرهون العقارية.

أسهم الاستحواذ على "فيرست بوسطن" بدفع "كريدي سويس" الذي كان مصرفاً سويسرياً خاملاً إلى حدّ ما آنذاك نحو أعلى مراتب التمويل العالمي، فأصبح أحد أكبر متعهدي تغطية الاكتتاب في طرح الأسهم الجديدة وصفقات الدين، من هونغ كونغ إلى سان فرانسيسكو، وأحد كبار قطاع الاستشارات بشأن الاستحواذ على الشركات.

قال توني جيمس الذي عمل في "كريدي سويس" قبل أن ينتقل إلى عملاقة الملكية الخاصة "بلاكستون" (Blackstone Group) حيث تدرج في الشركة ليصبح نائب رئيسها، وكان كثيراً ما يلجأ إلى "كريدي سويس" لطلب المساعدة في تمويل صفقات الاستحواذ باستخدام الرافعة المالية: "كانوا هم من اخترعوا أعمال الدمج والاستحواذ الحديثة... إذا ما تمكنوا من الحفاظ على نقاط القوّة تلك، فقد يقدمون قصة مثيرة جداً للاهتمام".

إلا ن هذه القصة معقدة ولم تكتمل خيوطها بعد. استقال مايكل كلاين، الذي أخفق بأن يخلف مرشده ساندي ويل كرئيس تنفيذي لـ"سيتي غروب" عام 2006، من عضوية مجلس إدارة "كريدي سويس" وانتقل ليدير الوحدة الجديدة التي سينضوي فيها مصرفه الاستثماري المتخصص "إم. كلاين أند كو" (M. Klein & Co). يقع مقرّ مصرف "سي إس فيرست بوسطن" العائد للحياة في نيويورك ويضمّ حوالي ألفيّ موظف، وهو سينشط في تقديم الاستشارات حول دمج الشركات والإقراض لتمويل مثل هذه الصفقات، إضافة للشراء من متخارجي الملكية الخاصة. كما أنه سيتعهد تغطية اكتتابات طرح الأسهم والسندات الجديدة، رغم أن تداول الملكية الخاصة سيبقى منوطاً بـ"كريدي سويس"، كما سيساعد الشركات المدعومة برأس المال المخاطر في جمع الأموال.

علاقات مع الشرق الأوسط

كما يخطط كلاين لإعادة إحياء نموذج الشراكة الذي يعدّ هو الآخر من مخلّفات ماضي وول ستريت. فسيحظى المصرفيون بمزيد من الصلاحيات والقدرة على تخصيص رأس المال للعملاء بسرعة. في حين سيكون "كريدي سويس" المساهم الأكبر في المشروع الجديد في البداية، إلا أنه لم يكشف بعد كيف ومتى سيقلص حصته؟. هو يأمل أن يحصل طرف ثالث واحد أو أكثر على حصص ملكية قبل الطرح الأولي العام، دون أن يشير إلى هوية الشراة المحتملين والتاريخ المتوقع لبيع الأسهم. حتى الآن، لم يؤمّن إلا التزاماً واحداً بقيمة 500 مليون دولار من مستثمر لم يذكر اسمه. قالت آنا لوزمان المحللة الرئيسية في "إس أند بي غلوبال" (S&P Global) لشؤون "كريدي سويس": "السؤال الرئيسي الذي يطرحه المستثمرون يتعلق بكيفية تمويل الكيان المستقبلي، وما مقدار التمويل الذي سيستمر بالحصول عليه من الشركة الأم... على كريدي سويس أن يقدم إجابات قريباً."

بما أن الشركة الجديدة ترغب في أن تكون قادرة على تمويل صفقات الدمج والاستحواذ الضخمة التي تنصح العملاء بها، فهي ستحتاج إلى رأس مال بمليارات الدولارات. هنا قد يستفيد كلاين من علاقاته مع دول الشرق الأوسط فيما يبحث عن داعمين من حول العالم. فقد قدم الاستشارات لشركة "أرامكو السعودية" عند طرح أسهمها لاكتتاب عام في 2019 بلغت حصيلته 26 مليار دولار، وما تزال تربطه علاقة وثيقة مع صندوق الثروة السيادي في المملكة.

سيحتاج كلاين في آن واحد لتوظيف مصرفيين، حيث قال أشخاص مطلعون على المسألة إن العروض المقدمة تتضمن امتلاك أسهم قبل الطرح الأولي العام، والحفاظ على الموظفين الموجودين في الشركة. قال بينيت غودمان الذي عمل لخمس سنوات في "كريدي سويس" في العقد الأول من الألفية قبل أن يؤسس شركته الخاصة: "عاش كثير من الأشخاص في الشركة جحيماً، وهذه فرصة جديدة بالنسبة لهم". وفيما يعتقد غودمان أن الشركة الجديدة قادرة على النجاح، أشار إلى أن على كلاين أن يربح أولاً ثقة الموظفين "والانطلاق سريعاً للحصول على تفويضات".

فضائح مالية

يأتي انطلاق الشركة الجديدة في ظلّ ظروف اقتصادية مضطربة، حيث تسعى المصارف المركزية حول العالم لكبح جماح التضخم وإبطاء النموّ بالترافق مع رفع أسعار الفائدة. تخلت كثير من البنوك عن تمويل الاستحواذات باستخدام الرافعة المالية بعد تكبدها خسائر طائلة. فقد كبّدت أنشطة التمويل بالرافعة المالية "كريدي سويس" خسائر بأكثر من 360 مليون دولار محسوبة بالقيمة السوقية هذا العام بسبب ديون محفوفة بالمخاطر واجه صعوبة بالتخلص منها.

تبرز أيضاً مشاكل معنوية. فقد تعرض "كريدي سويس" لسيل من الفضائح طوال عقود، آخرها تكبده خسائر بمليارات الدولارات على صلة بعملاء مثل "آركيغوس" (Archegos Capital Management) وهي الآلية الاستثمارية الخائبة التابعة لبيل هوانغ الذي يواجه إلى جانب مدير تنفيذي سابق في "آركيغوس" تهماً جنائية، منها الابتزاز والاحتيال بالأوراق المالية. وتواجه شركة التمويل البريطانية المنهارة "غرينسيل كابيتال" (Greensill Capital)، التي أبرمت شراكة مع "كريدي سويس" لبيع حزم الديون للمستثمرين، شكاوى جنائية على خلفية تلاعب مزعوم بحساباتها. لقد نفت كل من "آركيغوس" و"غرينسيل" إلى جانب مديريهما التنفيذيين ارتكاب أي مخالفات.

لعلامة "فيرست بوسطن" تاريخها الحافل بالمشاكل أيضاً، ما دفع الشركة السويسرية في نهاية المطاف للتخلي عن الاسم في 2005. حين استحوذت "كريدي سويس" على "فيرست بوسطن" بالكامل عام 1990، كان المصرف الاستثماري في وضع مترنح بعدما أقرض أحد العملاء مئات ملايين الدولارات في صفقة سندات عالية المخاطرة فيما كان التداول في السوق يتراجع. عجز البنك عن بيع القرض للمستثمرين ولم يتمكن العميل من تسديد الأموال، فتسبب ذلك بخسارة فادحة لـ"فيرست بوسطن". خضع "كريدي سويس" للتدقيق من جانب الهيئات الناظمة ستّ مرات على الأقل في خمس دول خلال العقد الذي تلى ذلك.

اكتسب المصرفي الاستثماري فرانك كواترون نفوذاً هائلاً في إعداد الطروحات الأولية العامة للشركات الناشئة في وادي السليكون خلال فقاعة الإنترنت في تسعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، لدرجة أن قيل عنه إنه "يدير شركة من داخل الشركة". بدأت الهيئات الناظمة تحقق في ما إذا تقاضى الوسطاء العاملون معه عمولات من المستثمرين الذين حصلوا على أسهم في طروحات أولية عامة مرتقبة، أو ما إذا وجّه كواترون الأسهم نحو عملاء محددين مقابل أن يتعامل معهم في المستقبل. في نهاية المطاف، دفعت "كريدي سويس" 200 مليون دولار في إطار اتفاق تسوية على خلفية اتهامات بالاحتيال المدني دون أن تعترف بارتكابها أي مخالفات. ألغت محكمة الاستئناف إدانة كواترون بتهمة عرقلة التحقيق، بعد أن كان قد أيد رسالة إلكترونية تدعو الزملاء في الشركة "لتنظيف تلك الملفات".

ذكريات عزيزة

حين تولى جون ماك إدارة البنك الاستثماري التابع لـ"كريدي سويس" في 2001، وجد ما وصفه "أكبر شركة فاشلة في العالم"، حسب كتاب مذكراته "أب كلوس أند أول إين" (Up Close and All In). عُيّن ماك لاحقاً رئيساً تنفيذياً مشاركاً في "كريدي سويس" قبل أن ينتقل لإدارة "مورغان ستانلي" في 2005. قال سكوت مينيرد، أحد المديرين السابقين الآخرين في "كريدي سويس" من التسعينات، وهو يشغل حالياً منصب كبير المسؤولين الاستثماريين في"غوغينهايم بارتنرز" (Guggenheim Partners): "واضح أن (كريدي سويس) عانت من مشاكل كبرى على صعيد الرقابة الداخلية". برغم كلّ ذلك، لدى كثير من الناس ذكريات طيبة عن "فيرست بوسطن". استدرك قائلاً: "ليس (سي إس فيرست بوسطن) العلامة التجارية المحبوبة، العلامة التجارية الحقيقية هي فيرست بوسطن، الأجدى أن يزيلوا جزء (سي إس) من الاسم"، في إشارة إلى "كريدي سويس".

اختارت الوحدة الجديدة اسم "سي إس فيرست بوسطن" في إشارة إلى علاقتها المستمرة مع المصرف السويسري. في غضون ذلك، كانت شركات مالية أصغر حجماً تبنت اسم "فيرست بوسطن" كجزء من اسمها، ما كان ليجبر الشركة الجديدة على خوض معارك قضائية مكلفة لو حاولت اعتماد الاسم القديم.

يحاول كلاين بناء مصرفه الاستثماري في ساحة عالية التنافسية. فمنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، انتشرت البنوك الاستثمارية المتخصصة مع إنشاء كبار المصرفيين مؤسساتهم الخاصة. كان أكثر من ثلث البنوك الاستثمارية الثلاثين الأكبر في العالم في مجال الدمج والاستحواذ مصارف متخصصة العام الماضي. لن تكون استعادة تألق "فيرست بوسطن" أمراً سهلاً، لكن السؤال الأهم المطروح على كلاين هو ما إذا كان العالم يحتاج إلى بنك استثماري جديد من حيث الأساس.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك