يستعد لويز إيناسيو لولا دا سيلفا بعد مرور عقدين على توليه رئاسة البرازيل لأول مرة ليمسك مجدداً بزمام سلطة أكبر اقتصادات أميركا اللاتينية، بعدما فاز بفارق ضئيل في سباق صعب ومرير ضد الرئيس الحالي جاير بولسونارو. يواجه الزعيم اليساري الذي بلغ عمره 77 عاماً تحدياً هائلاً لدفع ثمن وعوده الطموحة والحفاظ على نمو الدولة المنقسمة سياسياً في مواجهة ضغوط اقتصادية عالمية متنامية ورياح معاكسة مالياً.
يعود لولا إلى سدة الحكم وسط توترات سياسية واجتماعية حادة في البرازيل، حيث تزايد الفقر ولم يتعافَ الاقتصاد بالكامل من أضرار جائحة كوفيد 19، وسيعيد النظر في موضوعات من فترة رئاسته الأولى، حيث شغل هذا المنصب بين 2003 و2010، ثم سُجن بعد إدانة بالفساد ألغيت الآن. تعهد لولا بتفعيل برنامج مكثف للتحويلات النقدية الشهرية للفقراء، مع إعفاء مزيد من الناس من ضرائب الدخل ورفع الحد الأدنى للأجور بأكثر من معدل التضخم، على أن يمتد البرنامج إلى ما بعد نهاية هذا العام. رغم أن هذه الإجراءات ستساعد البعض، لكن هناك خطراً بأن تزيد ضغوط الأسعار، وهي مشكلة عالمية يكافح المسؤولون بشدة لاحتوائها.
معارضة المشرعين
بالطبع يتطلب الإنفاق الإضافي موافقة الكونغرس، ونظراً لوجود كثير من المعارضة بين المشرعين فإن هذه الموافقة بعيدة كل البعد عن أن تكون أمراً مفروغاً منه. يجب على لولا استرضاء مستثمري السندات عبر قدر من الحذر في الميزانية. كما تبدو تكاليف الاقتراض عالمياً آخذة بالارتفاع مع رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وغيره من البنوك المركزية الرئيسية لأسعار الفائدة، ما يزيد النفقات المحتملة للإنفاق المستند إلى الديون. كما أظهر المستثمرون عدم ترددهم بمعاقبة اللامسؤولية المالية، كما يتضح من رد فعل السوق على إعلان رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز ترَس عن تخفيضات ضريبية غير ممولة في سبتمبر.
قال روبرتو سيسيمسكي الخبير الاقتصادي لدى "باركليز" (Barclays): "علينا أن نفهم كيف سيقدمون المساعدة الاجتماعية وكل تلك الوعود الأخرى".
ستحتاج الحكومة الجديدة لموافقة المشرعين لإنفاق المزيد وتجاوز أهم حاجز مالي في البرازيل وهو أن الحد الأقصى للإنفاق، الذي ينص على أنه لا يمكن للنفقات أن ترتفع أكثر من معدل تضخم العام الماضي. قال سيسيمسكي إنه سينبغي على لولا تشكيل تحالفات مع الوسط، في إشارة إلى مجموعة من المشرعين ذوي الولاءات المتغيرة الذين قدموا أصواتهم سابقاً مقابل دعم مشاريع في مناطقهم الأصلية. يعتقد معظم الاقتصاديين والسياسيين أن سقف الإنفاق في شكله الحالي محكوم عليه بالفشل، لكن ما سيحل محله غير واضح. تشمل الخيارات المتاحة السماح للإنفاق العام بالنمو بأكثر من التضخم أو اعتماد هدف لفائض الميزانية.
سيواجه الفريق الاقتصادي التالي ضغوطاً لتحديد قواعد الإنفاق بسرعة، كما يقول كايو ميغيل كبير الاقتصاديين لدى "إكس بي": "عليهم الإشارة بوضوح شديد إلى انتقالهم من مرحلة إلى أخرى وأنهم لن يتركوا الإنفاق يخرج عن السيطرة".
يبلغ إجمالي دين البرازيل نحو 77% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل مما كان عليه في ذروة الوباء في 2020 وقد ينخفض أكثر قليلاً بحلول نهاية 2022 بسبب الإيرادات غير المتكررة هذا العام. لكنه ما يزال أعلى من مستويات ما قبل الوباء وأعلى من مستواه لدى نظيراتها الإقليمية الرئيسية مثل المكسيك وتشيلي، ما يعني أنه مصدر قلق محتمل للمستثمرين.
زمن اليساريين
فوز لولا استمرار لفوز مرشحين يساريين في أميركا اللاتينية خلال عام ونصف مضت، وخاصة في تشيلي وكولومبيا والبيرو، حيث عاقب الناخبون شاغلي المناصب الذين كانوا مسؤولين خلال تفشي الوباء. لكن سيواجه الرئيس المنتخب رغم انتصاره دولة منقسمة وكونغرس منقسم بعد أكثر المنافسات الرئاسية تقارباً في النتائج منذ عودة البرازيل إلى الديمقراطية قبل أربعة عقود. رغم خسارة بولسونارو، إلا أن حلفاءه استحوذوا على حضور كبير في مجلسي البرلمان، إضافة إلى سيطرتهم على الولايات الثلاث الأكثر اكتظاظاً بالسكان في البلاد وهي: ساو باولو وميناس غيرايس وريو دي جانيرو. كشفت الانتخابات عن انقسام بين أقلية كبيرة تدعم سياسات بولسونارو اليمينية وأولئك الذين يعارضون آراءه، ومن بينهم الناخبين الأفقر الذين يتذكرون أوقاتاً أفضل في ظل حكم لولا، الذي أشرف على طفرة اقتصادية تغذيها السلع.
يواجه لولا في مجالات أخرى غير الميزانية تحديات اقتصادية أوسع. أوقف البنك المركزي حالياً سلسلة زيادات أسعار الفائدة السريعة مع تراجع تضخم أسعار المستهلكين، الذي شهد تراجعاً لنحو 7% بعد وصوله إلى ذروة تجاوزت 12%. لكن المسؤولين حذروا الشهر الماضي من أن التضخم ما يزال مرتفعاً وأن التوقعات العالمية ما تزال متقلبة. بدأت أسعار الخدمات وغيرها من مقاييس التضخم الأساسية، التي تستبعد العناصر الأقل استقراراً مثل الغذاء والطاقة بالتباطؤ الآن، ويشعر المحللون بقلق بشأن ضغوط الأجور حتى قبل فوز لولا. قد تؤدي عودة ظهور مخاطر التضخم لتجدد التشديد، ما قد يزيد من تراجع الاقتصاد المحلي المتباطئ بالفعل. يُتوقع أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.7% هذا العام، مقارنة مع 4.8% في 2021، ويتوقع الاقتصاديون توسعاً وسطياً بنسبة 0.8% فقط في 2023.
كما يبدو الاقتصاد العالمي في وضع غير مستقر، إذ تستمر أزمة الطاقة الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا بالإضرار بآفاق أوروبا وآسيا خاصة، في حين يؤثر استمرار الإغلاقات المتعلقة بكوفيد في الصين والضغوط الجيوسياسية على التوقعات المتعلقة بأكبر مركز تصنيع في العالم. يعد هذا علامة مقلقة لمنتجي الموارد الرئيسيين مثل البرازيل، ثاني أكبر مصدر لخام الحديد في العالم، فالبلاد قد تستفيد في النهاية من صدمات الإمداد التي ترفع أسعار الغذاء والنفط الخام، وهي سلع تنتجها بوفرة، ما قد يتركها في وضع أفضل من العديد من قريناتها في الأسواق الناشئة.