رفع ثلاثة أشخاص عاطلين عن العمل في مدينة تكسون دعوى قضائية في 1994 ضد الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، مطالبين بتطبيق بنود من قانون كان قد أقره الكونغرس قبل ذلك بـ16 عاماً، إذ يحدد قانون همفري هوكينز للتوظيف الكامل والنمو المتوازن الصادر عام 1978 هدف معدل البطالة في الولايات المتحدة عند 4%، ويحثّ البيت الأبيض على العمل بالتنسيق مع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لتحقيقه.
كان معدل البطالة يبلغ 6% حين رفع الثلاثة، وهم أحد قدامى المحاربين في فيتنام ورجلان مشردان، الدعوى. لكن النسخة النهائية للتشريع أغفلت شرطاً كان وارداً في النسخة الأصلية يتيح للباحثين عن عملٍ اللجوءَ إلى القضاء إذا لم يتمكنوا من إيجاد وظيفة، وبالتالي صرف القاضي النظر عن الدعوى.
بعده بنحو ثلاثة عقود، بلغت سوق العمل الأميركية أضيق مستوياتها المسجلة في الذاكرة الحديثة، مع اقتراب عدد الوظائف الشاغرة من أعلى مستوياتها على الإطلاق ووصول معدل البطالة إلى 3.5%، أي أقل بنصف نقطة من النسبة المحددة في قانون همفري هوكنز. لكن تقسيم العمل الذي تصوره القانون يخضع للتدقيق، فيما يسجل التضخم أعلى مستوياته منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، وفيما تتطلع إدارة بايدن لأن يكبح الاحتياطي الفيدرالي جماحه حتى لو كان الثمن خسارة أميركيين لوظائفهم.
مهمتان متكاملتان
كتب الرئيس جو بايدن في مقال نُشر في مايو: "مسؤولية الاحتياطي الفيدرالي الرئيسية هي ضبط التضخم... سعى رؤساء سابقون للتأثير في قراراته بطريقة غير ملائمة خلال فترات ارتفاع التضخم، وهو ما لن أفعله".
يتميز الاحتياطي الفيدرالي بين البنوك المركزية الأخرى بتوليه مهمة التوظيف إلى جانب مهمته التقليدية المتعلقة بضمان استقرار الأسعار. تُعَدّ المهمة الأولى إحدى ثمار حركة الحقوق المدنية التي ناضلت خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، سعياً لتشريع يضمن فرص توظيف ملائمة للجميع. يُنظر إلى هذين الهدفين عموماً على أنهما يكمل بعضهما بعضاً، فالحكمة التقليدية تقول إن التضخم المنخفض والمستقر يسمح للشركات بالتركيز على الاستثمار والتوظيف.
لكن مسعى الاحتياطي الفيدرالي لتحقيق توازن بين المهمتين يزداد صعوبة خلال فترات التضخم المرتفع، ففي مثل هذه الأوقات يميل صانعو السياسات للخلط بين المهمتين بطريقة غالباً ما تخفي حصول مقايضات أكثر إيلاماً.
عندما وصل التضخم إلى 11.4% وبلغ معدل البطالة 7.4% في فبراير 1981، أعرب رئيس الاحتياطي الفيدرالي حينها بول فولكر للجنة البنوك والإسكان والشؤون الحضرية في مجلس الشيوخ عن "قناعة تامة" بأنه نظراً إلى عدم إمكانية بلوغ هدف البطالة البالغ 4% على المدى القصير، "فإن أنواع السياسات التي نتبعها توفر أفضل احتمالية لعودة الاقتصاد في الوقت المناسب إلى مسار يمكّننا من الجمع بين التوظيف الكامل وما يمكننا تحقيقه من استقرار في الأسعار".
ما أشبه اليوم بالأمس
بحلول نهاية العام التالي، ارتفع معدل البطالة إلى نحو 11%، وهي النسبة الأعلى التي يبلغها منذ الكساد الكبير. لم يعُد إلى نسبة 6% التي كان يبلغها حين تولى بول فولكر منصبه في أغسطس 1978 إلا مع تنحيه في أغسطس 1987.
من اللافت اليوم أن جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي يوجّه رسالة مشابهة. لقد قال للصحفيين في مؤتمر صحفي في 21 سبتمبر: "إعادة الاستقرار للأسعار أساسي لتمهيد الطريق نحو تحقيق أعلى نسبة توظيف واستقرار للأسعار على المدى البعيد".
جاءت تصريحات باول بعد دقائق من نشر البنك المركزي لتوقعات فصلية محدثة تُظهِر أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يتوقعون ضرورة هندسة زيادة في معدل البطالة ليصل إلى 4.4% بحلول نهاية 2023، سعياً لخفض التضخم إلى هدف 2%. كانت هذه هي المرة الأولى منذ بدء الاحتياطي الفيدرالي بنشر التوقعات في 2012 التي يشير فيها المسؤولون إلى زيادة أعلى من "مستوى المدى البعيد"، الذي يرون أنه يتسق مع استقرار الأسعار، وهو المستوى الذي يقدرونه حالياً عند 4%، ما يتوافق للمصادفة مع ما حدده قانون همفري هوكنز.
قال نارايانا كوتشرلاكوتا، أستاذ الاقتصاد بجامعة روتشستر، الذي شغل منصب رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس بين 2009 و2015: "إذا نظرت إلى تصريح الاحتياطي الفيدرالي حول الأهداف بعيدة المدى، تراهم يقولون إن هذين الهدفين لا يتعارضان عادةً... ما إن يقع مثل هذا النوع من الصدمات التي نمرّ بها الآن في جانب العرض حتى يؤدي ذلك إلى نشوب نزاع. أعتقد أنه سيتوجب على بنك الاحتياطي الفيدرالي تحمُّل بطالة عالية مؤقتاً إذا كان سيتمسك بنسبة 2%".
بطالة أم استقرار أسعار؟
يرى باول، وكذلك تقريباً كل أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة التابعة للبنك المركزي التي تحدد معدلات الفائدة، أن سوق العمل قوية بشكل مفرط حالياً، وأن نمو الأجور مرتفع جداً بما يحول دون عودة التضخم إلى مستوياته المنخفضة قُبيل الوباء، رغم إقرارهم أن جزءاً كبيراً من التضخم المرتفع الذي تمر به الولايات المتحدة اليوم يعزى إلى عوامل تتعلق بالعرض ناتجة عن وباء "كوفيد-19" والحرب في أوكرانيا.
يمثل ذلك تحولاً صارخاً في الطريقة التي كان يتحدث بها مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي عن سوق العمل قبل الوباء مباشرة. كان معدل البطالة حينها في أدنى مستوياته التاريخية أيضاً، إذ انصب التركيز على استقطاب مزيد من أبناء المجموعات المحرومة إلى القوى العاملة.
كشف الاحتياطي الفيدرالي في أغسطس 2020 عن إطار عمل السياسة النقدية الذي أعاد تعريف الحد الأقصى للتوظيف ليصبح "هدفاً شاملاً وواسع النطاق". يُنظر الآن إلى تلك الخطوة على نطاق واسع بأنها لعبت دوراً في قرار صناع السياسة بتأخير رفع أسعار الفائدة إلى هذا العام، رغم الزيادة الحادة لضغوط التضخم في معظم 2021.
أطلق بنك الاحتياطي الفيدرالي سلسلة من الزيادات الكبيرة غير العادية في أسعار الفائدة منذ مايو، وتعهد باول بأن البنك المركزي لن يتوقف إلى أن يتغلب على التضخم بشكل حاسم. كما حذّر في أغسطس بأن من شأن الحملة الشرسة لتشديد السياسة النقدية أن "تتسبب ببعض الألم للشركات والأُسَر". كان المستثمرون قد بنوا تعاملاتهم مفترضين زيادة إضافية بمقدار 75 نقطة أساس في اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في مطلع هذا الشهر.
تبريد التضخم
يقول منتقدو هذا التوجه إنّ نهج الاحتياطي الفيدرالي لتبريد التضخم عبر تجميد الطلب على العمال توجُّه مضلّل، وكذلك دعم بايدن له، ومنهم غيرترود شافنر غولدبرغ التي ترأس "الشبكة الوطنية للوظائف للجميع"، وهي مجموعة داعمة للتوظيف الكامل تضم بين مؤسسيها بعض من شاركوا بإعداد تشريع همفري هوكينز الأصلي.
قالت غولدبرغ: "إنها ليست الطريقة الوحيدة للسيطرة على التضخم، كما أنها بالتأكيد ليست الطريقة للسيطرة على التضخم المتعلق بجانب العرض. يضع رفع أسعار الفائدة عبء محاربة التضخم على عاتق العاملين، وهم واقعياً غير مسؤولين عنه".
ينص قانون همفري هوكينز على مجموعة حلول للتضخم لا تتضمن سياسة نقدية متشددة، مثل إنشاء مخزونات حكومية من السلع الأساسية، والحث على مفاوضات جماعية، وزيادة إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار لزيادة المنافسة. كما ينصّ على وجوب تصميم سياسات لخفض التضخم لا تعوق تحقيق هدف التوظيف.
يسعى الديمقراطيون لتحقيق بعض هذه البدائل، فقد أفرج البيت الأبيض عن نفط من الاحتياطي الاستراتيجي في محاولة لخفض أسعار الوقود، وأصدر حلفاء الرئيس في الكونغرس تشريعات لتخفيف النقص في بعض المواد الحيوية مثل المعالجات الدقيقة والمعادن المستخدمة في إنتاج البطاريات الكهربائية، وذلك عبر حوافز استثمارية لتوسيع الإنتاج في الولايات المتحدة. مع ذلك قد تمرّ سنوات قبل أن تؤثر بعض هذه السياسات في مسار الأسعار.
بدأ باول مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في 8 نوفمبر يواجه معارضة من المشرعين الديمقراطيين القلقين من أن يدفع رفع الاحتياطي الفيدرالي السريع لأسعار الفائدة الاقتصاد إلى الركود. أرسل شيروود براون عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية أوهايو، الذي يلعب دوراً رئيسياً في الإشراف على مجلس الاحتياطي الفيدرالي بوصفه رئيساً للجنة المصارف، خطاباً إلى باول في 25 أكتوبر يطلب منه الاستمرار بالتركيز على التوظيف في ما يحارب فيه البنك المركزي التضخم. كتب جون هيكنلوبر السيناتور عن ولاية كولورادو خطاباً مماثلاً في 27 أكتوبر، حث فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي على التوقف مؤقتاً.
التشدد للحد من التضخم
من جانبه، يمثل استعداد الاحتياطي الفيدرالي أن يحدد رقماً للضرر في سوق العمل الذي يعتبره عنصراً ضرورياً في حربه ضد التضخم، بدقة عُشر نقطة مئوية من نسبة البطالة، الفصل الأخير في تطور غير عادي في شفافية البنك المركزي التي بدأت من 2012 حين بدأ ينشر التوقعات وبات رئيسه يعقد مؤتمرات صحفية بعد اجتماعات تحديد السياسة.
قال أندرو ليفين، الخبير الاقتصادي في كلية دارتموث الذي ساعد بتصميم التوقعات حين كان مستشاراً خاصاً لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي آنذاك بن برنانكي، إنّ الوقت قد حان لإصلاحها. بيّن ليفين أن التضخم اليوم ليس نتيجةً لقوة سوق العمل، مشيراً إلى انخفاض الأجور الحقيقية باعتباره أحد الأدلة، لكنه يبرر أيضاً أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لا خيار أمامه سوى الاستمرار في التشدد، نظراً إلى مدى تجاوز التضخم هدف 2%.
بعبارة أخرى، تتعارض مهام الاحتياطي الفيدرالي المتعلقة بالتوظيف وتلك المتعلقة بالتضخم، ولا توفر التوقعات حسب تصميمها الحالي وكذلك الرسائل التي يوجهها البنك المركزي حولها فكرة عن كيفية سعي السياسة النقدية لإحداث توازن بينهما في ظلّ مجموعة من السيناريوهات المحتملة مع استمرار مكافحة التضخم.
قال ليفين: "هم بحاجة إلى التواصل بوضوح مع الرأي العام حول ما قد يكون مطلوباً لاستعادة استقرار الأسعار. ما المقايضات التي ستحدث؟ كما أنهم بحاجة إلى إجراء هذا النقاش مع الرأي العام والكونغرس والأسواق المالية لشرح تعاملهم مع المقايضات".