اضطرت معظم شركات الطيران العالمية طيلة ثلاث سنوات لترك أجزاء كبيرة من آسيا خارج خرائط وجهات رحلاتها بسبب قيود "كوفيد 19" التي أبقت أسواقاً مثل اليابان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ مغلقة تقريباً أمام السياح وسفر الأعمال.
تلغي بلدان وأقاليم في المنطقة قيود السفر والحجر الصحي التي كانت مفروضة في حقبة الوباء، لكن قلة من الشركات في عالم الطيران تسارع لإضافة السعة التشغيلية لتلبية الزيادة المتوقعة في السفر لمسافات طويلة التي كانت مربحة تقليدياً، ويعود ذلك لاستبدال الحجر الصحي وعمليات الإغلاق منذ ذلك الحين بعقبة رئيسية أخرى هي إغلاق المجال الجوي الروسي.
تبلغ المسافة بين الطرف الشرق أسيوي من روسيا ونهايتها قرب فنلندا في شمال أوروبا 9000 كيلومتر، وتمثّل رابطاً مهماً يربط بين الشرق والغرب ويساعد شركات الطيران على تقليص أوقات السفر باتخاذها للطرق القطبية. حظرت موسكو هذا المسار منذ غزو روسيا لأوكرانيا في أواخر فبراير على شركات طيران الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة ودول أوروبا القارّية.
التفاف حول روسيا
أدى ذلك إلى تحويلات واسعة النطاق على مسارات معظم رحلات شركات الطيران، ما أضاف ساعات إلى رحلة طويلة بالفعل ورفع بشدة تكلفة الوقود، الذي يمثّل أكبر كلفة منفردة في الصناعة. اضطرت شركة "إير فرانس– كيه إل إم" (Air France-KLM) وشركات الطيران الأوروبية الأخرى المتجهة إلى اليابان للالتفاف حول روسيا عبر كازاخستان ومنغوليا، مضيفة عدة ساعات إلى زمن رحلاتها، في حين أشارت شركة "فيرجن أتلانتيك إيروايز" (Virgin Atlantic Airways) هذا الشهر إلى أن إغلاق المجال الجوي الروسي يمثّل سبباً رئيسياً للانسحاب من هونغ كونغ نهائياً. أما شركة "فين إير" (Finnair)، التي أمضت سنوات في إنشاء مركز في هلسنكي يربط شمال آسيا بأوروبا والولايات المتحدة، فقد شهدت تدمير خطوط شبكتها المتجهة شرقاً نتيجة إغلاق الأجواء الروسية.
شركات طيران صينية تتأهب لرحلات دولية أكثر لكسر عزلة "كورونا"
قال مارك مارتن مؤسس شركة "مارتن كونسلتينغ" (Martin Consulting) التي يقع مقرها في دبي وتقدم الاستشارات للقطاع: "غذّت شركات الطيران الأوروبية مراكزها ليس فقط في لندن وباريس وفرانكفورت ولكن في أماكن مثل زيورخ وبروكسل وفيينا أيضاً من خلال ربط رحلات آسيوية. ستعمل معظم شركات النقل الأوروبية على تحديد المسارات التي ما تزال مربحة وما إذا كانت بحاجة إلى تغيير تواتر الرحلات أو إضافة محطات توقف أو إضافة جزء آخر إلى الرحلات لتصبح الأرقام رابحة".
تسيّر شركة الخطوط الجوية اليابانية رحلات إلى لندن من طوكيو عبر ألاسكا وغرينلاند وعبر المحيط الأطلسي إلى العاصمة البريطانية بدلاً من سيبيريا، ما يزيد ثلاث ساعات على وقت الرحلة في كل اتجاه.
حجب مقاعد
لكن الوقت الإضافي والوقود المستخدم في التحليق حول روسيا يمثلان مشكلة. قال مارتن إنه يحتمل أن تضطر شركات الطيران لاستبدال طائرات، ما سيزيد عليها ساعات عمل الطاقم وربما حتى حجب مقاعد للسماح لطائراتها بالطيران لفترة أطول بأحمال أخف بسبب مدة الطيران الأطول.
تضررت شركة الطيران الوطنية الفنلندية بشدة بشكل خاص، لأن الرحلات الجوية عبر مركزها في هلسنكي إلى وجهات مثل هونغ كونغ وسيول وشنغهاي تعتمد منذ فترة طويلة على إتاحة الوصول إلى المجال الجوي لسيبيريا. تقدّر "فين إير" أن تجنّب الرحلات الجوية فوق روسيا يزيد مدة رحلاتها الآسيوية بنحو 15% إلى 40%، ما يؤثر بدوره على ما يُسمّى تناوب الطائرات، وهي مهمة المزامنة الدقيقة لإعادة الطائرات إلى قواعدها وإرسالها في رحلات أخرى، إضافة إلى زيادة ساعات عمل الطاقم ووقود الاحتراق اللذين يقلبان معاً اقتصاديات الرحلات الجوية رأساً على عقب. الآن تستغرق رحلة "فين إير" إلى طوكيو من هلسنكي نحو 13 ساعة ونصف، بدلاً من 9 ساعات ونصف، ويتطلب وقت الطيران الإضافي وجود طيار إضافي.
"إياتا": خطر النزاع الروسي الأوكراني على انتعاش الطيران حتمي
أما في شركة "إير فرانس"، فقد أصبح خط رحلة طوكيو- باريس الآن الأطول عند أكثر من 14 ساعة، وهو رقم قياسي احتفظت به في السابق رحلتها من باريس إلى سانتياغو.
هذا الألم ليس متساوياً في جميع أنحاء الصناعة. إذ تواصل شركات الطيران في الشرق الأوسط التي امتنع مالكوها عن معاقبة روسيا بسبب غزوها، التحليق فوق البلاد أو إلى داخلها، ما يجعل شركة طيران الإمارات والخطوط الجوية القطرية والاتحاد للطيران، اللاعبين الثلاثة المهيمنين في المنطقة، وقد بنوا أعمالهم على الروابط العالمية عبر مراكزهم المحلية، وهي ميزة حاسمة لهم على نظرائهم في أوروبا والولايات المتحدة.
فوائد للآخرين
تعتزم طيران الإمارات أكبر شركة طيران للرحلات الطويلة في العالم، زيادة سعة خطوطها إلى اليابان عبر توظيف طائراتها من طراز إيرباص "إيه 380" على مسار دبي- طوكيو ناريتا ابتداءً من 15 نوفمبر. تقول شركة الطيران التي تشغّل رحلة يومية من دبي إلى أوساكا على متن طائرة بوينغ "777– إي آر 300"، إنها شهدت زيادة في عدد الحجوزات منذ إعلان الحكومة اليابانية تخفيف قيود السفر الشهر الماضي.
"لوفتهانزا": الأزمة الأوكرانية تُخيّم على آفاق التعافي مع تحليق أسعار النفط
ثم هناك شركة "إير إنديا" (Air India) التي خُصخصت حديثاً وتملكها الآن "تاتا"، أكبر مجموعة في الهند. تواصل شركة الطيران هذه تسيير رحلات جوية عبر المجال الجوي الروسي، وستكسب ميزة غير متوقعة على منافسيها في أوروبا والولايات المتحدة. كان متوسط أوقات رحلات "إير إنديا" إلى الولايات المتحدة وكندا مثلاً أقل بنحو ساعة ونصف من أوقات رحلات الشركات المنافسة مثل "إير كندا" و"يونايتد إيرلاينز" خلال الأيام السبعة الماضية، وفقاً لبيانات "سيريوم" (Cirium) شركة استشارات الطيران. تشير تقديرات "سيريوم" إلى أن "إير إنديا" استخدمت وقوداً أقل بنحو 7.5 طن من منافسيها غير القادرين على عبور المجال الجوي الروسي في الرحلات المشابهة، ما يعني توفيراً بنحو 8500 دولار في الرحلة الواحدة، بناءً على بيانات تسعير وقود الطائرات من الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA).
فرصة طيران الهند
اكتسبت "إير إنديا" أيضاً اليد العليا بسبب قدرتها على الاستمرار في تشغيل الرحلات الجوية المربحة دون توقف بين الساحل الغربي للولايات المتحدة والهند، إلى جانب عملها على تحسين التزامها بالمواعيد والخدمات أثناء الرحلة. يعمل رئيسها التنفيذي الجديد كامبل ويلسون على ترقية الأسطول عبر إصلاح الطائرات الحالية واستئجار خمسة طرازات طويلة المدى من طائرة "بوينغ 777" لتوسيع نطاق خدماتها في الولايات المتحدة إلى جانب الرحلات الجوية من مومباي وبنغالور إلى سان فرانسيسكو.
"طيران الهند" تستهدف مضاعفة أسطولها 3 مرات في 5 سنوات
على نقيض ذلك، علّقت شركة "يوناتيد إيرلاينز هولدينغز" (United Airlines Holdings) رحلاتها المباشرة بين سان فرانسيسكو وبنغالور، التي روجت لها منذ فترة طويلة، وأُعلن عنها أول مرة عام 2020، مع خطوط سان فرانسيسكو ونيودلهي ونيوارك ومومباي، بينما أجّلت مجموعة "أميركان إيرلاينز" (American Airlines) بدء رحلاتها من سياتل إلى بنغالور إلى أجل غير مسمى.
يشكّل السفر صناعة رئيسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث وصل إليها نحو 360 مليون سائح دولي في 2019، وفقاً لتقرير من بنك التنمية الآسيوي. قال التقرير إن ارتفاع دخل الطبقة الوسطى أدى لزيادة الطلب على السفر، نظراً لأن الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية هي الأسواق الخارجية الرئيسية في المنطقة.
بينما تأخر تعافي قطاع الطيران في آسيا عن بقية العالم بسبب قيود السفر الصارمة، فإن اتحاد النقل الجوي الدولي يتوقع ارتفاع عدد الركاب مع تبسيط القواعد. لكن الاتحاد يتوقع أيضاً أن حركة الركاب الدولية في المنطقة لن تعود إلى مستويات 2019 حتى 2025، وقد بلغت في أغسطس نحو 38% فقط من مستويات 2019.