اعتلى أثرى رجل في العالم مساء 30 سبتمبر خشبة مسرح في بالو ألتو ليعرض إنساناً آلياً. كان إيلون ماسك، رئيس شركة "تسلا" التنفيذي، قد أعلن هذا المسعى العام الماضي واعداً بأن يطلق ثورة في عالم الذكاء الصناعي، حيث قدم حينها "إنساناً آلياً" كان في الحقيقة راقصاً يرتدي زياً تنكرياً. هذه المرّة تعيّن على ثلاثة مهندسين أن يجرّوا "وحدة إنتاج" الإنسان الآلي الذي أُطلق عليه اسم "أوبتيموس" على عجلات، إذ بدا أن ساقيه لا تعملان بعد.
لا يشكل مثل هذا التقصير في الظروف العادية مشكلة كبرى بالنسبة لماسك الذي استخدم طوال عقود غريزته التسويقية الخرافية ليخلق التأثير الشهير لوادي السليكون المعروف باسم "مجال تمويه الواقع"، وهو تصوّر قائم على أن القواعد والقيود العادية لا تنطبق عليه.
لم يسبق أن تمكن أحد من تمويه الواقع بقدر ماسك. في الماضي، حين أطلّ مع نموذج بالكاد يعمل، كاد الجمهور أن يفقد صوابه من شدّة الحماسة، فرفع المستثمرون في أسهم "الميم" قيمة أسهم الشركة، وحصدت "تسلا" مجموعة من الطلبات المسبقة التي أضيفت إلى مخزونها شبه اللا متناهي من رأس المال العامل.
لكن هذا لم يحدث هذه المرّة. فمع اقتراب منتصف الليل على الساحل الشرقي ودخول البثّ المباشر ساعته الثالثة، شوهد أعضاء الجمهور يتململون في مقاعدهم، حتى أن بعضهم غادر القاعة. انخفض سهم "تسلا" 9% في يوم الإثنين التالي، بعد الكشف أنها سلمت عدد سيارات أقل من المتوقع، وبحلول نهاية الأسبوع بلغ إنخفاضه 16%. تشير هذه الإخفاقات إلى أن صانعة السيارات ليست محصنة ضد الانكماش الاقتصادي، وتؤشر أيضاً إلى تكلفة كلّ الصخب الذي لفّ عرض ماسك لشراء شركة "تويتر". ماسك الذي قدم عرضاً مفاجئاً لشراء الشركة، ثمّ حاول على مدى الأشهر التالية التملص منه، استسلم في النهاية.
صفقة مكلفة
تمثّل موافقة ماسك الظاهرة على شراء "تويتر" انتصاراً لوجوب إنفاذ قانون التعاقد في ديلاوير، لكن هذه أيضاً المرّة الأولى التي يفشل فيها ماسك في اخضاع خصومه لإرادته منذ 2000، حين أجبره شريكه المؤسس، بيتر ثيل على مغادرة "باي بال".
ما يزال بإمكان ماسك أن يحاول التملص من الصفقة، إلا أن ذلك سيعيده إلى الوضع نفسه الذي كان فيه قبل بضعة أسابيع. مهما يحصل، فإن مغامرته مع "تويتر" كلفته أكثر من 25 مليار دولار سيتعين عليه دفعها من جيبه الخاص كجزء من الصفقة. فقد ألحقت الضرر بمصداقيته، وخرقت مجال تمويه الواقع كما لم تفعل أي من زلّاته وهفوات قبلاً.
فضائح ومثالب
مع صعود نجم ماسك، ازدادت الفضائح التي تحوم حوله، ومنها نزعته المزعومة للتنمر على مرؤوسيه وشركائه في العمل، وأن مديرة تنفيذية في إحدى شركاته أنجبت له توأماً، فيما أنجبت نجمة بوب طفلاً آخر منه، زد على ذلك اتهامه بالتحرش بمضيفة طيران على متن طائرته الخاصة، وما يبدو أنه رفضه المرضي للالتزام بالقوانين الأساسية المتعلقة بالأوراق المالية. نفى ماسك تهمة التحرش الجنسي، كما نفى أنه دفع موظفاً في "تسلا"، وألمح إلى أن هيئة الأوراق المالية والبورصات يجب أن تغير اسمها ليصبح "لجنة إثراء البائعين على المكشوف" كما نعتها بنابي الألفاظ، وهو الآن بصدد استئناف تسوية مع الهيئة بشأن زعمه في 2018 بأنه "حصل على تمويل" لتحويل "تسلا" إلى شركة خاصة. لم يستجب ماسك لطلب التعليق.
لطالما كان طموح ماسك هو ما يشفع له في نظر معجبيه الكثر. صحيح أنه في بعض الأحيان يتصرف بحمق ويقطع وعوداً غير واقعية. لكنه حتى وقت قريب، كان في أغلب الأحيان يستخدم موهبته بالإقناع لتسريع تبني تقنيات مهمة وطموحة. فقد تمكن وحده من إحداث تحوّل في صورة السيارة الكهربائية وأعاد تنشيط الصناعة الفضائية الأميركية. كما يعمل على بناء واجهة لتفاعل الدماغ مع الحاسوب، ويحفر، أو على الأقل يحاول أن يحفر شبكة واسعة من الأنفاق لحركة النقل تحت المدن الأميركية.
زوال السحر
على عكس تلك الجهود، فإن مغامرات ماسك في الدمج والاستحواذ على الشركات أضعفته، فحولته إلى شخص طالما أعرب عن بغضه، أي إلى مستثمر بدل أن يكون رائداً تقنية وباني شركات. لم يشرح ماسك قط سبب رغبته في امتلاك "تويتر" وفي تولي ما قد تصبح وظيفة خامسة بدوام كامل (إلى جانب "تسلا" و"سبايس أكس" و"نيورالينك" (Neuralink) و"بورينغ" (Boring)"، وليس واضحاً ما إذا كان هو يعرف السبب أصلاً. بدا في بعض الأحيان أنه يسعى لتملّق الناشطين اليمينيين اللحوحين الذين يظهرون في رسائله النصية، وفي أحيان أخرى، بدا أنه يبحث عن وسيلة استعراض جديدة أمام جمهوره فحسب.
بعدما استسلم أمام مجلس إدارة "تويتر"، أعلن ماسك أن لديه خطة لإعادة إطلاق مصرف "أكس.كوم" (X.com) الذي كان قد دمجه مع "باي بال" عام 2000، قبل الانقلاب في مجلس الإدارة الذي أجبره على الخروج من الشركة. سيستخدم ماسك "تويتر" كأساس لإنشاء تطبيق "أكس.كوم الشامل لكلّ شيء" الذي قال إنه سيكون أشبه بالنسخة الأميركية لتطبيق "وي تشات". إلا أن "تويتر" ليس في وضعية مناسبة لمثل هذه الخطوة، وحتى لو كان كذلك، فإن هذا الطموح متواضع جداً مقارنة بمعايير ماسك التي عادة ما تكون أعلى من ذلك بكثير. لقد وُعدنا بسيارات طائرة، ثمّ سئم صانع السيارات من ذلك، وغضب من بعض الأشخاص، وارتأى أنه يفضل تخصيص الوقت والأموال الطائلة لاحتضان خدمة أخبار ومعلومات تنشر 140 حرفاً.
إذا كان ماسك قد اكتشف أن هناك بعض القوانين التي عليه أن ينصاع لها، فهذا لأن صفقة "تويتر" فضحت غروره وضعف مخيلته. هل هذا أفضل ما يقدر عليه، هو الذي يمتلك مئات المليارات ولديه اتصالات مع رؤساء وحكام ويتمتع بسمعة لا يضاهيها أي شخص آخر في العالم اليوم؟ سواء أُجبر ماسك على شراء "تويتر" أو لم يُجبر، ومهما يكن السعر الذي سيدفعه، فهو لم يبدُ بهذا الوهن قبلاً... لقد زال سحره.