طرحت شركة كاثي وود "أرك إنفستمنت مانجمنت" (ARK Investment Management) أول صندوق متداول في البورصة موجه نحو الاستثمار الخلوق باسم صندوق "أرك ترانسبيرنسي" في أواخر العام الماضي، لكنَّها اضطرت لإقفاله بعد أقل من ثمانية أشهر، وكان ذلك أول إغلاق لصندوق من تلك الشركة على الإطلاق. أعلنت وود حينها عبر تلفزيون "بلومبرغ" أنَّ "هناك الكثير من محاولات تلميع الصور" في قطاع الاستثمار في البيئة والمجتمع والحوكمة.
يبدو أنَّ ما حدث لصندوق "آرك" هو جزء من تصفية حسابات أوسع عاشها قطاع البيئة والمجتمع والحوكمة. بعد عامين من تدفق أكثر من 32 مليار دولار في الصناديق المتداولة في البورصة الأميركية التي تُركّز على البيئة والمجتمع والحوكمة؛ وظّف مستثمرون نحو 4.5 مليار دولار فقط في تلك الصناديق في هذا العام. كما أُغلقت سبعة صناديق من هذا النوع، وبدأت الجهات التنظيمية الأميركية والأوروبية بالتشديد حيال مزاعم مؤسسي الصناديق.
تُظهر التدفقات الداخلة التي بلغت 4.5 مليار دولار خلال عام شهد انخفاض قيمة كل فئة من فئات الأصول تقريباً أنَّ القطاع بعيد عن مهلكه. استُثمر نحو 40 مليار دولار في الصناديق المتداولة المدرجة في البورصة الأميركية التي تُركّز على مبادئ البيئة والمجتمع والحوكمة خلال العقد الماضي، وفقاً لـ"بلومبرغ إنتليجنس". كما قدّرت "مورنينغ ستار" (Morningstar) المتخصصة بالأبحاث إجمالي المبلغ الموجه نحو صناديق الاستثمار المستدام بحوالي 2.5 تريليون دولار.
فضائح الغسل الأخضر
لكنَّ عرش صناعة البيئة والمجتمع والحوكمة يهتز بسبب شدة تركّز قاعدة المستثمرين، حيث تروج بعض الصناديق على نطاق واسع لجذب مستثمرين لإصدار أوحد كما كثُرت فضائح الغسل الأخضر الذي تورطت به شخصيات بارزة، مما أدى لتشويه صورة القطاع المشرقة. كما يلعب تقلّب الأسواق دوراً كبيراً في هذا. شطب إصرار الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على القضاء على التضخم ثلاث سنوات متتالية من مكاسب تفوق 10% في مؤشر "إس أند بي 500"، كما صوّر الاستثمار المبني على معايير البيئة والمجتمع الحوكمة على أنَّه ضرب من رفاهيات السوق الصاعدة.
قالت جيل ديل سيغنور، العضوة المنتدبة في منصة التقنية المالية "إف إل إكس نتووركس" (FLX Networks) لمديري الأصول، إنَّ أغلب المستثمرين يهتمون حالياً بالعثور على "فرص استثمار تساعد على تأمين استقرار المحفظة، وليس الاستثمار وفق معيار أخلاقي".
مخاطر السمعة تحاصر مُصدّري الديون الخضراء مع صرامة التدقيق
تعرّض أداء الأسهم لضربة مزدوجة هذا العام. فقد عانت أسهم التقنية، شديدة الحضور في محافظ الاستثمار البيئي والمجتمعي والحوكمي، من ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة على حدٍ سواء، في حين نفعت الحرب في أوكرانيا أسهم الطاقة التي تستبعدها صناديق البيئة والمجتمع والحوكمة عموماً. أظهرت بيانات "بلومبرغ" تحقيق 3% فقط من 166 صندوقاً يتم التركيز فيها على أسهم البيئة والمجتمع والبيئة في البورصة الأميركية كعوائد إيجابية في 2022، مقابل 9% تقريباً من إجمالي صناديق الأسهم المتداولة في البورصة. انخفض صندوق "بوينت بريدج جي أو بي ستوك تاركر"(Point Bridge GOP Stock Tracker)، الذي يستثمر في الشركات الداعمة للحزب الجمهوري، ويُتداول تحت رمز (MAGA)، وهو أيضاً اختصار لشعار "فلنجعل أميركا عظيمة من جديد"، بمقدار 3% بتاريخ 30 أغسطس، لكنَّه تفوق على أداء "إس أند بي 500" الذي تراجع 16%.
سياسة وأسواق
يُهدّد هذا التحول في قيادة السوق الأداء المتفوق لأسهم البيئة والمجتمع والحوكمة خلال السنوات الخمس الماضية الذي دفع الصناديق الأميركية التي تمتلك أسهماً في شركات كبرى تؤكد على الاستدامة والنمو بمتوسط سنوي قدره 14%، بحسب "مورنينغ ستار". صعدت الصناديق التقليدية غير المرتبطة بمعايير البيئة والمجتمع والحوكمة بنحو 11% بالمقارنة مع الفترة نفسها، في حين تراجعت سندات البيئة والمجتمع والحوكمة كذلك. يبين مؤشر السندات العالمي الذي تعده "بلومبرغ" و"إم إس سي أي"، هبوط إجمالي عائدات سندات البيئة والمجتمع والحوكمة بحوالي 15.2% هذا العام، وهو أسوأ من تراجع السندات العادية بنحو 14.7% بتاريخ 26 أغسطس.
كشفت السوق المتقلبة عن نقطة ضعف أسهم البيئة والمجتمع والحوكمة المتمثلة في طغيان المؤسسات الكبيرة على قاعدة المستثمرين. هوى صندوق "ال دي إي ام" (LDEM)، الذي يستثمر في أسهم شركات من بلدان نامية تلتزم معايير البيئة والمجتمع والحوكمة، بمقدار 91% خلال يومين في أواخر 2021، وتسبب مستثمر واحد بكل هذا لكونه يملك ما يكفي من الحصص لإحداث ذلك؛ وهي شركة المعاشات التعاقدية "إلمرينين" (Ilmarinen) في هلسنكي، التي كانت قد استثمرت 600 مليون دولار في الصندوق لدى إطلاقه في فبراير 2020. لم ترد "إلمرينين" على طلب للتعليق. كتب المحللان لدى "بلومبرغ إنتليجنس" شاهين كونتراكتور وأثاناسيوس بساروفاغيس في أغسطس أنَّ هيمنة المؤسسات على قاعدة الاستثمار لا سيما في الولايات المتحدة، "تعرّض هذه الفئة لتراجع ضخم في حال انسحاب مستثمرين من الصناديق الأكبر".
قواعد أوروبية جديدة بشأن الاستدامة والحوكمة البيئية تُربك مديري الأصول
تتمثّل المشكلة الدائمة كذلك في محاولة تعريف مصطلح البيئة والمجتمع والحوكمة الذي يضم تحت مظلته ثلاث فئات بارزة قد يناقض بعضها بعضاً. أظهر إخراج "تسلا" من فئة البيئة والمجتمع والحوكمة في مؤشر "إس أند بي 500" في مايو أنَّه برغم تركيز مُصنِّعة السيارات الكهربائية على إحلالها مكان المركبات العاملة بالبنزين كانت ظروف العمل في "تسلا" وتعاملها مع تحقيقات التصادم دون المستوى، وفقاً لتوضيحات مؤشرات "إس أند بي داو جونز" في منشور عبر مدونة. غرّد إيلون ماسك، رئيس "تسلا" التنفيذي حينها قائلاً: "معايير البيئة والمجتمع والحوكمة مجرد خديعة".
إفصاحات إضافية
تعمل الجهات التنظيمية على تركيز جهودها على مسألة التصنيف. قد تطلب هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية قريباً إفصاحات إضافية حول كيفية توافق استراتيجيات استثمار المديرين مع مبادئ البيئة والمجتمع والحوكمة. جرّدت "مورنينغ ستار" في أوروبا حوالي ربع الصناديق التي زعمت أنَّها تدعم الاستدامة من تصنيفها كصناديق ملتزمة بمعايير البيئة والمجتمع والبيئة لعدم إيفائها بذلك. قال بن جونسون، رئيس حلول العملاء في "مورنينغ ستار" لإدارة الأصول، إنَّ اختلالات الفوارق الدقيقة تتسبب بعدم وضوح الرسالة التي ينبغي إيصالها فتربك المستثمرين المتطلّعين للاستثمار فيما يوافق المبادئ التي تخصهم. في حين تركز الصناديق الموجّهة بشكل أكبر على قضايا محددة مثل الطاقة النظيفة والتنوع والإدماج؛ فإنَّ الجزء الأكبر من أصول البيئة والمجتمع والحوكمة يندرج في صناديق تتبُّع مؤشراً واسع الطيف. قال جونسون: "إنَّ معايير البيئة والمجتمع والحوكمة لديَّ تختلف عن تلك الخاصة بشخص آخر. المسألة شخصية بطبيعتها".
مخاطر الغسل الأخضر تحاصر الاستثمارات المستدامة في كندا بسبب ضعف البيانات
لم تساعد الادّعاءات التي تصدّرت العناوين الرئيسية على تحسين الحال. داهم مسؤولو إنفاذ القانون في مايو مكاتب "دويتشه بنك" في فرانكفورت ووحدة إدارة الأصول التابعة لها "دي دبليو إس غروب" (DWS Group) بعد اتهامات من ديزيريه فيكسلر، كبيرة مسؤولي الاستدامة السابقة في "دي دبليو إس"، بخصوص تصنيف مغلوط لبعض صناديقها. قالت "دي دبليو إس" إنَّها تتعاون بشكل كامل مع التحقيق.
بيّنت فيكسلر، التي أكدت على استمرار إيمانها بالاستثمار المستدام، أنَّ هناك حاجة لمزيد من الإفصاح لاستعادة الثقة بين المستثمرين بأنَّ أموالهم تسخر في عمل هادف. أضافت قولها: "أثّر انتشار الغسل الأخضر وإضفاء الطابع السياسي على معايير البيئة والمجتمع والحوكمة على فئة الأصول هذه بالتأكيد. لقد كانت هذه ضربة كبيرة لسمعتها".
قال جونسون من "مورنينغ ستار" إنَّ عودة التدفقات الداخلة للقطاع الملتزم بمعايير البيئة والمجتمع والحوكمة الوافدة إلى الذروة التي بلغتها في 2021 تعتمد على عودة الرغبة بالمخاطرة لتنعش الأداء.